السودان ومفارقات في تناقضات الخطاب

 


 

 

زين العابدين صالح عبد الرحمن
في آواخر شهر سبتمبر 2019م و قبل تشكيل حكومة الدكتور عبد الله حمدوك الأولى، ذهب الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة إلي الأردن و قدم محاضرة في " الجمعية الأردنية للعلوم و الثقافة" و بالتعاون مع " منتدى الوسطية" و في هذه المحاضرة قال الصادق المهدي( زملائنا يتطلعون لمحاصصة في تكوين مجلس الوزراء و هذا مرفوض، و أيضا هم يدعمون حكومة يشكلها رئيس الوزراء المختار دون فرض شروط عليه، و نحن ملتزمون بدعم ذلك من حملات اليساريين و تائهين و سدنة و مغبونين) لخص المهدي أن الصراع السياسي الذي كان دائرا بين القوى السياسية هو صراع البحث عن السلطة و المحاصصة فيها، و ما كان للصراع أي علاقة بقضية التحول الديمقراطي.. المسألة الثانية أن تحالف القوى السياسية " قحت" لم يكن لديه أي فكرة لتقديم مشروع سياسي ينفذه رئيس الوزراء، و هذا بقول الصادق دعم رئيس الوزراء دون فرض شروط عليه. و يعتقد الصادق كان هذا بفعل ضغط اليسار و الآخرين.. أن تقبل الشعارات دون فتح نقاش حولها..!
في جانب أخر من المشهد السياسي: كان الحزب الشيوعي يصرخ لا تتعاملوا مع اللجنة الأمنية للإنقاذ، باعتبار أن التعامل معها هو استمرار للنظام.. رغم أن اللجنة الأمنية منحت قوى الحرية و التغيير في الوثيقة الدستورية 67% من مقاعد المجلس التشريعي و 33% للقوى السياسية الأخرى، و إجازة القوانين و تعديلها يتم 50+1. و هذا تأييد منها بتفكيك دولة الحزب لمصلحة التعددية السياسية.. فإذا كانت القوى السياسية جميعها وضعت التحول الديمقراطي أولوية كانت بدأت التشكيل بتكوين المجلس التشريعي الذي يضبط العملية السياسية، و ايضا يحافظ على الوثيقة و عدم خرقها و تجاوزها من قبل مجلسي الوزراء و السيادة.. أن تعطيل تكوين المجلس التشريعي كان من قبل القوى السياسية و ممحكاتها.. و نجد في تشكيل الحكومة الثانية أن الكل قد خلع ثياب الواعظين، و بدأوا يصارعون من أجل توزيع المحاصصات، و التي أدت لخلاف داخل التحالف خرجت بموجبه أحزاب و حركات كونت "قحت الديمقراطي" و السلطة هي صراع دائم لأنه محكوم بحركة مراكز القوى داخل ساحة الصراع.. انتقل الصراع من دائرة القوى المدنية و كان العمل على جذب المكون العسكري لكي يكون جزء من الصراع بهدف أن بعض القوى كانت تريد أن تغير ميزان القوى لمصلحتها، و دخول المكون العسكري في الصراع كان لابد أن يحدث انقلاب 25 أكتوبر.. هذا التغيير و اعتقال القوى المدنية كان لابد أن يخلق واقعا جديدا و خطابا مغايرا و أيضا يفرض شروط جديدة على الاعبين.
ألحزب الشيوعي وصل إلي قناعة أن الصراع الدائر سوف يحرجه إذا استمر في التحالف السياسي الداعم لحكومة حمدوك لسببين.. الأول أنه كان يتخوف من قوى نداء السودان التي كان يصفها جماعة " الهبوط الناعم" حيث كان نداء السودان يريد الحل السياسي قبل ثورة ديسمبر حيث كانوا مرتبطين باللجنة التي كان يرأسها رئيس دولة جنوب أفريقيا الأسبق ثامبو أمبيكي .. القضية الثانية التخوف من مجموعة "المزرعة" و أغلبية هؤلاء كانوا عضاء سابقين في الحزب الشيوعي و خرجوا بعد صراع فكري داخل الحزب.. لذلك تعللت قيادة الحزب الشيوعي أنهم يرفضون المشاركة في أي عمل له صلة تربطهم باللجنة الأمنية، و بعد أشهر قليلة رفع الشيوعيون شعار إسقاط حكومة حمدوك الأمر الذي أضعف القوى المدنية أمام المكون العسكري، أن خروج الحزب الشيوعي من دائرة الصراع المباشر إذا كان داخل التحالف أو بالقرب من مؤسسات الدولة ثم تحريك المنتسبين إليه من لجان المقاومة مستغلين الشباب أقل من 15 سنة في هذه التظاهرات لم يوفر للحزب دورا له أثر حول العملية السياسية و شعارات عملية التغيير، لآن الحزب نفسه لم يكن لديه مشروعا معروفا للتغيير، اعتمد الشيوعيون فقط على نقد أفعال الآخرين، و هذه السياسة لا تخلق نتائج إيجابية تعزز للحزب دوره في عملية إقناع قطاع واسع من الناس للوقوف إلي جانبه، فأصبح في حالة ثبات سالب، و بعد فترة بدأ يمد حبال الوصل مع حركتي "الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو" و " تحرير السودان عبد الواحد محمد نور" ثم كون الجذرية و لم يجد مناصرين له غير واجهاته المتعددة.. و ظل يجلس القرفصاء في الجذرية دون أي اسهامات تذكر منذ إندلاع الحرب.. هذه المتغيرات و حالة الركود السياسي و عدم التفاعل مع متغيرات الأحداث لابد تجعل المتابعين يتساءلوا عن موقف الشيوعي من الأحداث.. حيث الشيوعي هاجم " تقدم" لكنه لم يقدم أي مشروع أخر بديلا .. بل يؤكد أنه رافض الميليشيا و الجيش و الكيزان.. و هذه القوى هي المحركة للأحداث و متغيراتها. فالذي يصنع الأحداث هو القادر وحده أن يملأ الفراغ الذي يخلفه الآخرين، و أصبحت أي رؤية مخالفة لرؤية الشيوعيين و الميكافليين الجدد تصبح رؤية كيزانية، و هذه تدل على حالة الجمود العقلي و سيطرة الثقافة الشمولية على الساحة السياسية ..
أن الخطاب السياسي للأحزاب معلوم يتغير بتغير الأحداث التي تنتج قضايا جديدة تتطلب مواقف جديدة، لكن يصبح متناقضا عندما تتجاوزه الأحداث و تفرض شروط جديدة على العملية السياسية، و تغدو القوى السياسية غير متأثرة بالمتغيرات، هنا يصبح الخطاب القديم متناقضا مع حركة الواقع و يجتر موضوعات تجاوزها الواقع.. مازلت أتذكر مقولة لغازي صلاح الدين القيادي الإسلامي المعروف عندما سئل عن موقفهم من الأحداث الجارية بعد انقلاب 25 أكتوبر إذا كان ذلك يؤثر على الإسلاميين؟ قال صلاح الدين نحن الاسلاميين دائما نراهن على الزمن لأنه سوف يخلق واقعا جديدا، و شروطا جديدة على العملية السياسية. و بالفعل الآن يوجد واقعا جديدا مغايرا لفترة ما بعد الثورة، و حتى شروط العملية السياسية ليست هي الشروطة السابقة التي كانت تحكمها رؤية واحدة،، الآن تتعدد الرؤى.
السؤال: هل النخب السياسية ذات البعد الواحد في تفكيرها الرغائبي، تستطيع أن تهيء بيئة جيدة للحوار بعيدا عن فرض شروط هي نفسها لا تستطيع أن تلتزم بها، أم أن تمسكها بالشروط الهدف أمنه أن تحفظ لنفسها مقعدا في العملية السياسية القادمة ؟ أن محاولة إدخال الشعارات في الجدل السياسي الدائر، و استخدامها ككروت ضغط لا تقدم لأصحابها مكسبا، بل تجعلهم يقفون خارج أسوار مسرح العملية السياسية، أن شروط العملية السياسية بعد الحرب سوف يكون صحاب السطوة فيها هو الشعب السوداني و مدى تقبله لما يقدم له من مشروع سياسي.. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء