السُّودان.. الجذور الفاجعة لوطن منكوب (2/3)

 


 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk

ومن بعد، سارت الحكومات الوطنيَّة في السُّودان على هذا المنوال، وفي هذا السبيل ب"قوات الحرس الوطني" في عهد الحرب الأهليَّة الأولى في جنوب السُّودان (1955-1972م)، والثانية (1983-2005م)، ودارفور (2003-؟)، وعند بداية العدائيَّات في ولايتي جنوب كردفان (جبال النُّوبة) والنيل الأزرق العام 1985م وتجدُّدها العام 2011م. هذه سياسة استعماريَّة بغرض "فرِّق تسد"، بل أضافت عليها حكومات السُّودان المتعاقبة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيَّة والإبادة الجماعيَّة، حيث ينبغي على أيَّة حكومة وطنيَّة الابتعاد عنها، وعدم الارتكان إليها، أو الارتكاز عليها. فالحكومات الشرعيَّة ذات قادة أخلاقيين يستوجب عليها أن تعامل شعوبها كأسرة واحدة دون اختلاق فتن دينيَّة، أو مؤامرات إثنيَّة من أجل ضرب فئة بأخرى، وتحبيب جماعة على أخرى، لا لشيء، بل إنِّما كسياسة قميئة من أجل البقاء في السُّلطة وإطالة أمد الحكم.
مهما يكن من شيء، فقد كانت مؤسَّسة الرِّق في السُّودان من أكبر المشكلات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة، التي واجهت السلطات البريطانيَّة-المصريَّة، وشكَّلت معضلاً صعباً في سبيل احتوائه في بادئ الأمر. فالرِّق بتأريخه الأسوأ كان مبغوضاً من قبل الضمائر الإنسانيَّة، وبخاصة عند كثرٍ من البريطانيين الذين كانوا ينظرون إلى الوراء بفخر واعتزاز إلى جهود وليام ويلبرفورس والجنرال تشارلز غوردون في سبيل إنهاء ممارسة الرِّق في إفريقيا. ففي لحظة اشتداد أوار الثورة المهديَّة ومحاصرة الخرطوم اضطرَّ الجنرال غوردون إلى الاعتراف بالرِّق برغم من أنَّه كان قد مُنِح الصلاحيات الكاملة لإلغاء ومكافحة الاسترقاق في السُّودان. غير أنَّه عاد وانتكس على قراره لإرضاء تجَّار الرَّقيق العرب الذين استاءوا من مساعي الدَّولة التركيَّة-المصريَّة لمحاربتها في نهاية الأمر، والتحقوا بالمهديَّة، وباتوا من قادتها الأشاوس. كما أنَّ تزعُّم المسيحيين البيض من أمثال غوردون وصمويل بيكر البريطانيين، وجيسي الإيطالي وآخرين قد أثار حفيظة أتباع المهدي، الذين كان بعضهم من المسلمين المتزمِّتين. ومع أنَّهم كانوا يبغضون قساوة ووحشيَّة وظلم الأتراك-المصريين، ووجدوها أشدَّ ما كانوا لها إنكاراً، إلا أنَّهم كانوا يرون أنَّ في تحرير العبيد خطورة لتدمير طرائق حيواتهم التي اعتادوا عليها، وانغمسوا فيها سنيناً عدداً. والجدير بالذكر أنَّ غوردوناً كان شجاعاً وبطلاً، ثمَّ مخلصاً كان لمن استخدمه، إلا أنَّه كان يحمل رغبة الموت المسجَّلة، وهذه الرَّغبة هي التي ساقته باندفاع إلى الشعور بالواجب، الذي أدَّى إلى مقتله في نهاية الأمر. لقد امتاز الجنرال غوردون بهلوسة غريبة، ثمَّ كان مهووساً دينيَّاً، فهو الذي كان قد أخبر اللورد إيشر بأنَّه قد قابل الرَّب أثناء سيره في إحدى شوارع لندن!
إذ كان على الحكومة الثنائيَّة (البريطانيَّة-المصريَّة) أن تختار أحد الأمرين كلاهما مرُّ: فرض قيود مؤقتة على الرِّق، أو تحرير الأرقَّاء حالاً. هذا، فقد رأت الحكومة بأنَّ الإجراء الأخير لسوف يدمِّر الاقتصاد، وذلك لأنَّ التحرير سوف ينتج عنه ترك العبيد العمل في المزارع حول شواطئ النَّهر، وضياع قطعان الماعز والضأن والإبل والماشية عند العرب البدو، وموت الآلاف من الأبرياء دون جريرة منهم، وتحويل النِّظام الاجتماعي المقيت إلى وضع لا مفر منه في حيواتهم اليوميَّة. كانت السلطات الحكوميَّة تزعم بأنَّ تحرير كافة العبيد يعني الاستغناء عن الآلاف من الرِّجال والنِّساء، والذين ليست لهم مسؤوليَّة اجتماعيَّة في المجتمع، بحيث يشكِّلون خطراً على الأمن العام والأخلاق. وأخيراً، ارتأت الحكومة بأنَّ تحرير العبيد قد يجعل كل السكَّان العرب ينتفضون ضد ما سيعتبروه الظُّلم الفادح، لأنَّهم جاءوا بهؤلاء العبدان، ودفعوا أثمانهم. بناءً على ذلك قرَّرت الحكومة الاستعماريَّة الإبقاء على مؤسَّسة الرِّق، ولكن مع فرض قيود تحوطيَّة تضمن عدم إساءة معاملة الأرقَّاء، وتؤكِّد بأنَّه بمرِّ الزمان لسوف تتلاشى هذه المؤسَّسة تلقائيَّاً. وفي هذه الأثناء تمَّ تسجيل العبيد، وإعلان أنَّ الأطفال الذين يولدون من أبٍ عربي وأم سودانيَّة (أي من شعوب السُّودان الأصلاء) يصبحون أحراراً بعد أن يمسوا كباراً، حيث يستطيعون أن يدبِّروا شؤونهم بأنفسهم.
والحال كذلك، تمَّ تشجيع العبدان (أو ما أسمَّوهم تلطُّفاً أولئك الذين في الخدمة المنزليَّة) أن يبقوا مع أسيادهم لأطول فترة ممكنة ما داموا يعاملونهم بصورة حسنة، ويكسوهم بصورة منتظمة، ويطعموهم بشكل جيِّد. ومع ذلك، كان بعض الأسياد يبغي التخلُّص من العبدان حينما يصبحوا كهولاً، ويقلُّ عطاؤهم، حتى يتخلَّص من أعباء الإيواء والكساء والغذاء لهؤلاء العبدان طالما نفدت قواهم، ووهنت عظامهم، واشتعلت رؤوسهم شيباً، ثمَّ تضاءلت قيمتهم الشرائيَّة بعد أن تقدَّمت بهم السن، وأنهكتهم سنوات العبوديَّة والإذلال. ومن جانب آخر، نمت علاقة تعاطفيَّة بين كثرٍ من العبدان وأسيادهم العرب خلال سنوات العبوديَّة، مثل العلائق التي كانت تسود بين الزنوج الأرقَّاء في الولايات الجنوبيَّة في الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة وبين أسيادهم ملاك المزارع. وفي هذه الأحوال لم يبتغ العبيد مفارقة أسيادهم، الذين أخذوا يعتبرونهم أباءهم، الذين رعوهم طوال حيواتهم. هكذا عامل العرب عبيدهم في السُّودان، ولكن – بالطبع، وكما هي الحال في البلدان الأخرى التي احتفظت بالعبيد – تحت الاضطهاد والسخرة وغيرهما من صنوف العذاب، بعد أن عجز أولئك العبيد في امتلاك وسائل الحريَّة في اختيار سبلهم ومناهجهم في الحياة.
أيَّاً كان من الأمر، فقد قاوم رجال الطوائف الدِّينيَّة ورجال المال والأعمال ومن أسمَّوا أنفسهم بالأشراف، وأولاد البلد، وألبسوا على أنفسهم جلاليب الحسب والنَّسب، قاوموا كلهم أجمعون أبتعون مساعي الدولة لتحرير الرَّقيق، وباتوا يزعمون أنَّ في مسعى الحكومة الحثيث في هذا الأمر لسوف يضر بالاقتصاد والأيدي العاملة والمشاريع الإنتاجيَّة. فهناك المذكِّرة الشهيرة التي بعث بها الأسياد الثلاثة (علي الميرغني والشريف يوسف الهندي وعبد الرحمن المهدي) بتاريخ 6 (أذار) مارس 1925م إلى مدير المخابرات في الخرطوم يقولون إنَّهم لواجبهم أن يشيروا إليهم برأيهم في موضوع الرِّق في السُّودان، ويأملون أن توليه الحكومة عنايتها. وقد حثَّت المذكِّرة – فيما حثَّت – السلطات الاستعماريَّة يومئذٍ على عدم إعطاء العبيد أوراق الحريَّة، بل طلبت من الحكومة الاستعماريَّة أن تصدر أوامرها لكلِّ موظَّفيها في مواقع السلطة بأن لا يصدروا أيَّة أوراق حريَّة للعبيد، وأن يبقى الأرقاء للعمل في الزراعة.
إذ علَّق مدير المخابرات على مذكِّرة الأسياد أنَّه مما يستلفت النَّظر حقاً أن يكون هناك أي موضوع يتفق حوله الأعيان الثلاثة، وهذا في حدِّ ذاته يدفعني للاعتقاد أنَّ المذكرة تستحق عناية فائقة. أما السكرتير الإدارى – وبناءً على المذكِّرة إيَّاها – فقد رأى في خطابه إلى السكرتير القضائي بتاريخ 11 نيسان (أبريل) أنَّه سابق لأوانه إصدار إعلان مفاده أنَّ كل شخص حر، مما يستلزم إصدار توجيهات للقضاة الشرعيين لينطلقوا من ذات الافتراض، وسوف يثير مثل هذا الإعلان سخطاً وضجراً، وحسب علمي فإنَّ مدير مديريَّة جبال النُّوبة لسوف يتوجَّس من تأثير مثل هذا الإعلان على العرب في مديريَّته. ثم استطرد السكرتير الإداري قائلاً إنَّه ليميل إلى الاتِّفاق معه أنَّه من الناحية العامة يطالب الوالد العربي بأطفال السريَّة لأنَّه يريد أن يستحوذ على عملهم، وليس بدافع مشاعر المودَّة والرأفة تجاههم، وأنَّ الأطفال ربما عانوا أقل من كونهم أبناء سفاح تحت رعاية أمهم الجارية، عما لو ظلوا تحت رعاية والدهم العربي.
ومع الاسترقاق جاءت مناقص أخرى مارسها الاستعمار على الأفارقة، فقد وصف هؤلاء الاستعماريُّون الأوروبيُّون بعضاً من القبائل الإفريقيَّة بأنَّهم من آكلي لحوم البشر، ومنهم على سبيل المثال إتش سي جاكسون في مذكِّراته "ما وراء السُّودان الحديث" (1955م) (Behind the Modern Sudan). إذ جاء ذكره لذلك في إطار حديثه عن قبيل الأزاندي في الجنوب الغربي من السُّودان، والممتد إلى مداخيل الكونغو وجمهوريَّة إفريقيا الوسطى. فقد زعم جاكسون أنَّ لجوء هؤلاء الأقوام إلى التهام لحوم البشر يعود إلى قلَّة اللحم في ديارهم، والحاجة الماسة إلى تعويض غذائهم عن الفاقد البروتيني. بيد أنَّ الاضطرار أيما اضطرار هو الذي كان قد دفع الأفارقة، أو غيرهم من شعوب العالم الأخرى، إلى أكل لحوم البشر. ويتمثَّل هذا الاضطرار في البحارة الذين قذفت بهم سفينتهم المحطَّمة في جزيرة نائية بلا مأوى أو مأكل أو مشرب؛ أو من سقطت بهم طائرة في حادثة كارثيَّة في خلاء مكفهر، أو جبال شاهقة بلا غذاء أو ماء؛ أو ضحايا الحصار الطويل؛ أو الجياع المتضورون من مسغبة في أم درمان (مجاعة سنة 1306ه/1878-1879م). إذ أنَّ الأسقف أوهولدر الذي كان سجيناً في سجون المهديَّة – كما أشرنا سلفاً – يحدِّثنا بإسهاب واستغراب عن أحوال وأهوال سكان العاصمة أم درمان، وكيف بلغت بهم حال المسغبة حتى استطاع مع جيرانه أن ينقذوا طفلاً سمعوا صراخه الذي بات مدويَّاً ذات ليلة، وكان مرتاعاً مستغيثاً، وخرجوا سراعاً ووجدوه صريخاً بكيَّاً يجره أحد الرجال، وتدخلوا لإنقاذ الطفل، وحرموا الرجل من وجبة بشريَّة كان يحلم بها في تلك الليلة اللعينة، حيث لم يكن الأطفال في مأمن في حال ظهورهم في الشوارع ليلاً، وإلا بالتأكيد يتمُّ القبض عليهم بواسطة المتضورين جوعاً لقتلهم والتهامهم.
وهناك ثمة كثرٌ من الأمثلة العالميَّة في هذا الأمر. ففي العام 1846م – على سبيل المثال – تعرَّضت الطلائع الأولى في قافلة دونر، وهي في طريقها من الوسط الغربي إلى كليفورنيا إلى محنة كارثيَّة. فبسبب الاستشارة السيئة، وسوء التخطيط تاهت الطلائع في سيرا نيفادا، وفي هذه الأرض الصحراويَّة الجرداء القاحلة نفد غذاؤهم، واضطرُّوا في أشدَّ ما يكون الاضطرار إلى أكل لحم البشر، حتى بقي 48 منهم على قيد الحياة من جملة 87 شخصاً. وفيما كانوا في هذا الوضع الكارثي كانت المخلوقات الشرسة تحلِّق فوق رؤوسهم، وتبدو على الآفاق، وهي تلتهم وتقضم الأطفال والمرضى على قارعة الطريق. وقد جاءت هذه التراجيديا في كتاب "الجوع" (2018م) للكاتبة ألما كاتسو، وكان له تأثير فعَّال بعد إذاعته في النَّاس مثل دهشة النَّاس حين يرون مَنْ خرج من نفض ينفض، أو من بات يمشي وهو ميَّتاً. ثمَّ هناك المجاعة المعروفة باسم هولودومور (Holodomor) وتعني "وباء الجوع" أو "القتل بالتجويع"، وهي المجاعة التي حاقت بأوكرانيا السوفييتيَّة في الموسم الزراعي (1932-1933م)، واعتبرت أسوأ الكوارث في التأريخ الأوكراني. فقد قضت هذه المجاعة على ما تراوح بين 2.2-3.5 مليون من البشر في أوكرانيا، وفي هذه الأثناء علَّقت السلطات السوفييتيَّة ملصَّقات كتبت عليها عبارة "إنَّ أكل أولادك يعتبر فعلاً بربريَّاً!" هذا مما يعني أنَّ الأوكرانيين الجياع شرعوا في قتل أطفالهم وأكلهم، وهل ينبغي أن نذكِّركم أنَّ النَّاس الجياع يقومون دوماً بفعل أشياء لا تخطر على البال!
وكذلك هناك قصة الفتية الذين اعتاشوا على صيد الحيتان، والإتجار بها، والتي قذفت بهم سفينتهم المنكوبة في جزيرة مهجورة نائية لا حياة فيها، وذلك بعد أن حطَّم الحوت سفينتهم، وأجبرتهم المسغبة على قتل أحد رفاقهم بعد أن وقعت عليه القرعة، ثمَّ أكلوه. وبعد عودتهم إلى الولايات المتَّحدة، تمَّت محاكمتهم، ولكن برَّأتهم المحكمة من تهمتي القتل وأكل لحم البشر نسبة للظروف التي أمسوا فيها، إلا أنَّ والدة القتيل لم تستطع أن تغفر لهم أبداً. وقد ألهمت هذه القصة المأسويَّة هيرمان ميلفيل في تأليف رواية "موبي ديك" (1851م) والفيلم الذي حمل الاسم نفسه العام 1956م. ثمَّ هناك فريق الرُّكبي الأرغواي وأصدقائهم وعائلاتهم، الذين تحطَّمت بهم طائرتهم على قمم جبال الإنديز في 13 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1972م، وبقي الناجون منهم على قيد الحياة بتناول لحوم الموتى منهم.
ومن جانب آخر، زعم أولئك الاستعماريُّون بأنَّ ممارسة أكل لحوم البشر ناتجة من شعوذة رؤوف، والتي نمت عبر العصور، وفي أجزاء كثيرة من العالم. إذ تقول هذه الأسطورة أو الاعتقاد بأنَّ من يأكل جزءً من جسم المقاتل أو الحيوان المفترس فإنَّه ليكسب شجاعة هذا الفارس أو ضراوة هذا الحيوان! وبالطبع، فإنَّ لهذا الاعتقاد طابع تفكهي مضحك إذا ما طبَّقانه حرفيَّاً على أكل بعض أجزاء الحيوان، والتي لا نود ذكرها هنا، بل نكتفي بالإشارة إليها، والابتعاد عنها، وللشُّعوب الصينيَّة قولٌ على قولٍ في ذلك.
مهما يكن من شيء، فلعلَّنا نستطيع أن نذكر هنا مثالاً لطائفة من الصفوة التي ورثت الاستعمار، ونخص بالذكر هنا المتأفرنج آنذاك في المظهر والسلوك عبد الفتَّاح المغربي، وزوجه الإنكليزيَّة. ففي مذكراتها عن حياتها في السُّودان، وصفت إزمي زوج جراهام توماس عبد الفتَّاح المغربي بأنَّه كان شخصاً مدهشاً، وفي كثرٍ من الأحايين كان أوربيَّاً جداً حتى الهندام، ولكنه كان غارقاً عميقاً في تقاليد العرب الموصوفة بالكبرياء. فبينما كان المغربي يتحدَّث عن الموظَّف السُّوداني الذي نال ترقية سريعة في خدمة سكك حديد السُّودان، فاض تعليقه بما كان مكنوناً في نفسه وطفح به الكيل؛ إذ قال بشيء من الازدراء شديد وهو يشير إلى هذا الموظَّف أنَّه أحسن عملاً لأنَّ أهله من الجيل السَّابق له كانوا يباعون كعبيد في سوق النَّخاسة. وبالطبع، يمكن أن ندرك وندري أصول هذا العامل المشار إليه بالعبوديَّة حتى عهد قريب! وهل كان ذلك الاسترقاق هو خطأه أم خطأ الذين شرعوا في ابتكار تجارة الرِّق في بادئ الأمر، وابتياع النَّاس في أسواق النَّخاسة في نهاية الأمر، ومطاردتهم في جبالهم وقراهم ووديانهم كأنَّهم حمرٌ مستنفرة! وهذا الظلم الذي كان قد حاق بأحد أفراد أهله لم يكن بيده بل بيد غيره، فهو لا يدَّعيه لنفسه، ولا نحن ندَّعيه له. ومع ذلك سمعنا حفدة أولئك النَخاسين يدافعون عنهم، ويزجون لهم آيات الثناء، وبطاقات البراءة، وكم سمعنا من أغلب الجناة القابعين في السجون يحتجون بملء أفواهم، وبفخر واعتزاز بأنَّهم أبرياء، ولكن في الآن نفسه لتجدنَّهم مجرمون في أعظم ما يكون الإجرام!
مهما يكن من شيء، فالمهديَّة في المبتدأ قد بدأت بنزعة قوميَّة صارخة ضد الأجانب الأتراك-المصريين – كما أبنا آنفاً، ثمَّ سرعان ما التحق بهذا الاحتجاج المهدوي العارم تجار الرَّقيق الذين وجدوا في مساعي الدولة بأخرة في مكافحة الرِّق وحرمانهم من مصدر رئيس من مصادر دخولهم، وأسباب سعادتهم في بيوتهم. ومن ثمَّ أخذ احتجاجهم طابعاً طبقيَّاً، ثمَّ ما لبث أن نحت الثورة المهديَّة نحواً سياسيَّاً. وفي نهاية الأمر، اصطبغت الثورة بصبغة دينيَّة جهاديَّة في سبيل الله، وبخاصة حين رأى أنصار المهدي معاركهم ضد الحكومة تنتهي بنصرة تلو الأخرى، برغم من قلَّتهم في بادئ الأمر. وها هم هكذا يزدادون يقيناً وإيماناً بمهدويَّة المهدي: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" (البقرة: 2/249)، دون أن يعوا بأنَّ الجيوش تكسب أو تخسر الحروب بناءً على الخطة الحربيَّة الموضوعة، وقد يتداخل ويتضافر بعض العوامل البشريَّة والماديَّة ويلعب دوراً رئيساً في النَّصر أو الهزيمة. ولكن مهما تباينت مفاهيم أي مجتمع أو حركته عن الفضيلة، أو جهودها المتواضعة لتحقيق مثالياته، فإنَّه لمن الملمح الرائس والأمل المأمول أن يجد ذلك المجتمع أو تلكم الحركة مبرِّراً لذلك، وذلك ليذيعه في النَّاس أنَّ مشروعه الضخم إيَّاه ينبع من نوازع مستعظمة وإيمان عميق بالهدف سرعان ما أخذ يعلو متَّصلاً ملحَّاً.


وللحديث بقيَّة،،،

 

آراء