الصراع حول وجود حميدتي … الحقيقة تنتج وتستهلك حسب الطلب

 


 

إبراهيم حمودة
30 December, 2023

 

أمر مثير للمتعة أن ترى مثل المعركة الكبرى التي دارت على منابر التواصل الاجتماعي حول وجود حميدتي من عدمه. كنا نظن ان اثبات حياة شخص من عدمها تخضع لوجوده المادي والظواهر الحيوية، القابلة للقياس، التي تميز الكائن الحي.
بالذكاء الاصطناعي يمكن تركيب أخيلة، صور وفيديوهات متحركة بالصوت والصورة والألوان، لكنها ذات بعدين. يمكن طباعة هذا الخيال بآلة طابعة ثلاثية الابعاد فتخرج نسخة طبق الأصل كما نرى في متحف الشمع، ولكنها لا تتحرك ولا يستطيع أحد أن ينفخ فيها الروح.
أن يظهر شخص مهم في خضم صراع يؤثر على مصير كامل المنطقة، مثل حميدتي، ويزور دول أخرى هي جزء من الاسرة الدولية ويقابل رؤسائها، يتحدث معهم ويؤاكلهم، وهو غير موجود أو تحت التراب، فهو أمر يشهد على جنون يستحق التسجيل. أو يشبه مؤامرة دولية كبرى تليق بأتباع دونالد ترامب، الذين استقل أحدهم سيارته المشحونة بالأسلحة من فلوريدا الى مدينة نيويورك، لأنه يؤمن بأن هنالك شبكة لاستغلال الأطفال تحت مطعم للبيتزا هت تديرها مرشحة الرئاسة وقتها هيلاري كلينتون.
أين الحقيقة الآن؟ حميدتي حي أم ميت؟ حي ولكن تم تغيير في اعداداته؟ الحقيقة خارج تبسيط صح وخطأ.
الحقيقة في مرحلتنا الحالية من العولمة الاستهلاكية، تنتج حسب الطلب وبالمقاس وتستهلك. في وسائل التواصل الاجتماعي التي يتصفحها كل منا يختلف المحتوى المعروض للفرد باختلاف اهتماماته وتفضيلاته والمواقع التي يزورها، التي يتسوق منها، قائمة أصدقائه وما يعرضه على التايم لاين في مختلف المناسبات..
يصل الأمر الى ان محرك مثل قوقل يعرض لكل منا نتائج بحث مختلفة بناء على هذه الخوارزميات التي ترصد السلوك والاهتمامات وتسجل كل نقرة يقوم بها. الحقيقة لكل فرد هو ما يهتم به ويتوقعه ويكون عالمه. بهذه الطريقة لا تعرض لك منابر التواصل الأشياء التي تنسجم مع تصورك للعالم فحسب، ولكن تلك التي تساعدك في دعم هذا التصور وابقاءه متماسكا.. مع التركيز على أن كل شخص يحصل على ما يناسبه تماما مثلما تدخل السوبر ماركت فتجد زبدة فول سوداني بالسكر وأخرى بدون سكر وثالثة بحبات الفول المجروش.
كي نفهم هذه المرحة من تحول الحقيقة لمنتج اعلامي يجب العودة لتاريخ الحقيقة منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى يومنا هذا. استعين هنا بكتاب الفيلسوف الهولندي الشاب "روب واينبرخ" رئيس تحرير صحيفة المراسلى"كورسبوندنت". والحاصل من قبل على كاس سقراط لأحسن فيلسوف شاب.
عنوان الكتاب "لكل حقيقته الخاصة" ويلخص، كما قلت، تاريخ الحقيقة من قبل الميلاد لحقبتنا الرقمية الحالية.
400 ق.م – 1600 والتي سماها بالعصور قبل الحديثة:
الهدف من الحقيقة في كامل هذه الحقبة التي تشمل ظهور الأديان السماوية الثلاثة، الهدف هو خلاص الانسان من العالم الذي يعيش فيه بظروفه المعيشية المهولة وصعوبة الحياة في هذه الحقبة.
نوع الحقيقة: حقيقة منزلة أو موهوبة ومعطاة.
طبيعة الحقيقة: متعالية أو دينية.
مكان الحقيقة: خارج الانسان وخارج إمكانية وصوله.
طريقة حدوثها: الوحي والالهام
منبع الحقيقة: متعالي – ميتافيزيقي.
تطلعات الانسان: التصالح مع نظام الطبيعة
نوع الانسان: طائع ممتثل.
طبيعة المجتمع: اقطاعي بطرياركي.
المرحلة الثانية 1600- 1950
وفق هذا الجدول يتم استعراض الحقيقة في المرحلة الصناعية والكشوفات العلمية لنرى أن طبيعة الحقيقة صارت علمية، تتواجد خارج الانسان ولكن داخل امكانياته من الوصول اليها، والحقيقة هنا مكتشفة. طبيعة الحقيقة موضوعية علمية، تحدث بالاكتشاف، مبعثها العالم الفيزيائي المحيط بالإنسان. طبيعة المجتمع هنا تميزه ظهور الدولة القومية والأسواق المحلية والنظام السياسي الليبرالي الكلاسيكي.
نوع الانسان مواطن يتمتع بحقوق وفق عقد اجتماعي، وتطلعاته تفارق التصالح مع السائد الى التطلع للتقدم والرفاهية له ولأحفاده القادمين.
المرحلة الثالثة 1950 والرابعة حتى الآن:
هي المرحلة التي شهدت ظهور الأيديولوجيات الكبيرة والحرب العالمية الثانية التي انتهت باستخدام القنابل الذرية. قرر فيها الفلاسفة والمفكرين وأصحاب الرأي محاولة تجنب اهوال الحرب مرة أخرى في لقاء صغير بسويسرا من حضوره فريدريك حايك وميلتون فريدمان الاقتصادي المغمور وقتها. تم الاتفاق على إطلاق يد السوق والعمل على تحقيق مفهوم الفرد الحر من أجل التخلص من فكرة الخضوع الجماعي للأيديولوجيات التي تسوق الناس بشكل اعمى لمصائر كارثية ومحارق.
ظهرت نتائج هذه القمة الثقافية المصغرة اعتبارا من بداية الثمانينات بفوز مارغريت تاتشر في بريطانيا التي أعلنت ان المجتمع لا وجود له، هناك افراد مستهلكين وهناك سوق.. ليس الا.
منذ هذه اللحظة بدا أن هدف الحقيقة هو التحرر والاستهلاك وليس الرفاه والتقدم للمجتمع وافراده واحفاده، الامر الذي اعتبر حدا فاصلا بين الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة.
عاصر ذلك أيضا ظهور الرئيس الأمريكي رونالد ريغان على المسرح السياسي، وابتدار فكرة بطاقات الدفع البلاستيكية التي تتيح الدفع المؤجل.. أحصل الآن على حريتك وجنتك وادفع فيما بعد.
شهدت هذه الحقبة أيضا ظهور الفلسفات البنائية واللغوية، هايدغر، فوكو، جاك دريدا وجيل دولوز، و ويتغنشتين.. والتي ذهبت الى أن الحقيقة عبارة عن تركيب من حزمة عوامل ثقافة ولغوية وسلطوية.. بالتالي هي لا تكتشف كما في السابق ولكن يتم تركيبها. فوكو يذهب الى ان الصراع حول الحقيقة هو صراع حول السلطة في طبيعته.
طبيعة الانسان هنا ما يعرف بالإنسان الحر الاستهلاكي، الذي لا يؤمن بحزب سياسي معين أو فكرة معينة يدافع عنها ويخلص لها. له ولكن ينظر لبرنامج الحزب كمن يتأمل مواد استهلاكية ومن ثم يختار ما يخدم توقعاته.. هي المرحلة التي شهدت تفكك الأحزاب التقليدية في غرب اوربا وظهور الأحزاب الشعبوية التي تبيع الاحلام.
تطور الامر بظهور الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي تسيطر عليها قلة قليل تتحكم في مصائر البلايين من البشر وما يصلهم من معلومات واخبار. وضعية صار فيها الفرد المتصفح في العالم الرقمي عبارة عن سلعة، او قل ان اهتمامه هو الذي صار سلعة وبالتالي استهدافه بواسطة خوارزميات تسجل بدقة رغباته وتصوراته للعالم من اجل خدمته كفرد، وتفعل ذلك مع كل فرد بشكل مختلف.. النتيجة وجود ذوات متباعدة لكل عالمه ونسخته وتصوره للحقيقة المختلفة عن الآخر.
هذه مرحلة تحرر الانسان وموت المجتمع، نوع الحقيقة في هذه المرحلة مصنوعة، ذات طبيعة ذاتية وثقافية. لا يتم التوصل اليها بالاكتشاف العلمي ولكن بالتركيب. كل فرد وكل مجموعة صغيرة ذات خصوصية وحساسية ثقافية تركب حقيتها التي تحقق لها التحرر وتشكل لها العالم كما تريد.
الحقيقة هنا منتج استهلاكي في المرحلة الراهنة، والافراد يستهلكون ما يروقهم. حدوث هذه الحقيقة ليس بالوحي والالهام ولا بالاكتشاف العلمي ولكن بمفعول السوق الذي خلقته الشركات الرقمية العملاقة، مبعثها الشاشات التي تبحلق فيها الجموع البشرية التي تغذيها الخوارزميات وكم المعلومات الخام الهائل.
الانسان أو الفرد هنا عبارة عن مستهلك يحب اشباع رغباته وحاجته الخاصة التي تتمثل في تأكيد ذاته المتخيلة المركبة التي صنعها هو كي تأكد له أن العالم كما توهمه وتخيله هو.. ليحصل على ما يريد داخل وسائل التواصل الاجتماعي والعالم الرقمي.
نرى الان في ظاهرة نشطاء التواصل الاجتماعي هذا التجول وسط سوبرماركت السياسية الخرب عندنا، تجد الفرد يؤيد حميدتي اليوم، وبرهان في مرحلة أخرى، ثم لعنهم الاثنين في مرحلة ثالثة..
المشاهدات العالية لهؤلاء النشطاء لا تبرر بمفهوم الحقيقة بتعريف الالف واللام، ولكن الحقيقة كمنتج استهلاكي يبحث عنه الافراد لتأكيد ظنونهم وذواتهم في عالم ووسط جعل من هذه العملية نموذجه للكسب.
تجدر الإشارة الى أن المجتمعات الاستهلاكية التي نحتت مفهوم الفرد الحر المستهلك، توفر المناخ العام والمواعين السياسية والقانونية التي تتيح للافراد معايشة حرياتهم وممارسة خياراتهم بشكل مسئول.. الامر الذي لا ينطبق بالضرورة على ظروف بلد مثل السودان لايتوفر فيه مناخ حريات فردية أو صحفية ولا توجد فيه دولة قانون تحمي الفرد ولا نظام تعليمي يدعم العقلانية واستقلالية التفكير، ولا قنوات إعلامية تتيح التمثيل العادل للافكار والثقافات داخل المجتمع.. والنتيجة هي ملهاة حميدتي والذكاء الاصطناعي التي تتورط فيها مجموعات يفترض انها حصلت على احسن تعليم جامعي متوفر.

ibrahimhamouda777@hotmail.com

 

آراء