الطيب صالح: وجه آخر اعرض عنه الكُتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
من مدارات الحياة
alkanzali@gmail.com
alkanzali@gmail.com
في مقدمة مقالي السابق والذي استعرضنا فيه عن الوجه الذي نعرفه عن الطيب صالح وعدتُ قارئ العزيز أنني سألحق المقال بمقال آخر يتحدث عن الوجه الآخر للطيب الذي أعرض النقاد والكُتْاب من الاقتراب منه. وقد سعدتُ كثيراً بردة فعل المقال الأول لبعض القراء الذين ما بخلوا علي برسالات الإشادة والمدح، وهذا يسعد كل كاتب أن يقرأ ما يكتب ويُعلق عليه ولو سلباً. وها أنذا أدفع بمقالي الثاني راجياً أن لا يحدث خيبة أمل في نفوس من أشادوا بالجزء الأول منه. ولعل القارئ يضع مقالي في إطاره الذي يستحقه، فلا يركسه أو يرفسه، خاصة تلك القلوب التي للطيب فيها محبة وتقدير، وما أنا إلا واحد منهم. قارئ مُحبٌ لكتابات الطيب، ولكنه يجتهدُ أحياناً بأن يكون صاحب فكرٍ ناقدٍ لما يقرأه. فلا شية في اختلاف الرؤية حول المبدع العبقري الطيب صالح. وما الطيب إلا بشر يحمل قوة الإنسان وضعفه. ولعلي أتمثل بقول الشاعر محمود سامي البارودي حين قال:
أسير على نهج يرى الناس غيره
لكل امرئ فيما يحاول مذهب
الوجه الثاني
1-4
هل من تشابه بين الطيبين؟!
سأني من مقالاته وأحاديثه ما جاء عن الصومال والسودان، خاصة عندما يكون حديثه ذو صلة بأهل السياسة والحكم، فيريك الطيبُ عجباً! صِدْقٌ وجراءةٌ في القول لا وجل فيه ولا تأتأة تدفعه للتريث والتروي فيما يقول. حتى قال قولته الشهيرة التي جرت مثلاً سارت به الركبان: "من أين أتى هؤلاء؟". ولعلك تريد أن تقرأ بعض الذي قال عن الصومال: " أذا ما أغدقت عليك الحياة من هبات لم تعد تحسها أو تراها لكثرتها، فأذهب إلى مقديشو، وإذا مللت الدار الواسعة والسيارة الفارهة والمائدة العامرة والثياب الزاهية فأذهب إلى مقديشو. إلى آخر المقال".
أما إذا اتجه قلمه نحو الشمال ولمصر ارمي، أو الشرق، دول البترول أعني، أو المغرب العربي، تونس والمغرب. نَعُمَ حديثه، وطرى قلمه، وأحلو لسانه، ووضح بيانه، حتى تكاد أن تهتز الكلمات على صفحات الورق، لتخرج لنا من وردها وزهرها وينعها رائحة عطرة فواحة أزكى (من فرير دمور). أحسبُ إن في بعضها زلفى لمن أكرم وفادته. ولا ننكر أن أغلب كتاباته عن تلك الدول وأهلها يعكس واقع حقيقي ولكن ذو وجه واحد، كرؤية الناس في زماننا هذا للطيب صالح. فعن هؤلاء لم نجد للطيب كلمة واحدة فيها قسوة حتى ولو كان عتاباً. وقد تقسو الأم على طفلها، أما إن يقسوا الطيب على هؤلاء فذلك رجع بعيد.
كأن بعض حاله شبيهٌ بحال من عشق الطيب شعره وخصه من (المختارات) بإصدارتين. وكأني به يستهدي بعلاقة شاعره (المتنبي) مع سيف الدولة. وفي هذا لن أذهب للوجهة التي تولاها الدكتور طه حسين تجاه المتنبي ليتولاها قلمي تجاه الطيب صالح. فالدكتور طه حسين في كتابه (مع المتنبي) وصفه قائلاً: " ظن نفسه حر وهو عبد للمال، وظن نفسه صاحب رأي ومذهب، ولم يكن إلا صاحب تهالك على المنافع العاجلة التي يتهالك عليها أيسر الناس". ولعل الأمر عند الطيب لم يبلغ هذا القدر من الزُلْفَى، ولكن هل قرأ الناس مقال الدكتور زهير السراج بعموده مناظير بجريدة السوداني، وأهل السلطة الذين قال عنهم الطيب: "من أين أتى هؤلاء؟" يستقبلونه في ابريل ٢٠٠٥ بمناسبة الخرطوم عاصمة الثقافة العربية. كان ذلك بعد غيبة عن الوطن استمرت لعقدين من الزمان أو أنقص منها قليلاً، وهي أخر زيارة له قبل وفاته في ١٨ فبراير ٢٠٠٩. بالشكل دفع د. زهير أن يعبر عن خيبته، مما أغضب الطيب عليه.
انظر لبعض ما قال د. زهير: "نعم.. كنا سنفعل كل ذلك.. لو عاد الطيب صالح ورفاقه.. كما يأتي أي مواطن كادح.. تغرَّب عن وطنه.. ثم عاد يملأه الشوق والحنين للأهل وللتراب.. وللنيل العظيم.. وللقرية الرمز والأقصوصة والمحبوبة الغالية.. «دومة ود حامد»! غير إن الطيب صالح آثر إن يعود إلى وطنه بدعوة!! وان يدخل على أهله وأحبابه عبر الصالة الرئاسية، وحجرة كبار الزوار.. واختار طائعاً مختاراً.. أن يكون أول مستقبليه ومحتضنيه.. هم «هؤلاء» الذين احتار فيهم قبل سنين مضت، واختلط عليه المكان الذي أتوا منه... فكتب يسأل في حيرة ودهشة واستنكار.. «من أين أتى هؤلاء؟". انتهى قول دكتور زهير، ولكن فاته أن يضيف أن الطيب صالح عبر الصالة الرئاسية ليقيم بفندقٍ خمس نجوم. فالطيب لا تسعه نُزلاً في السودان إلا الفنادق ذات الخمس نجوم؟! أما بيوت أهله ورحمه (وكرمكول) لم تعد له بمنزلة ؟!!!
2=4
الطيب صالح والفردوس المفقود؟!
الطيب صالح حقق جزء من فردوسه المفقود، ولكن ما زال هناك فردوس آخر لم يعثر الطيب عليه في حياته رغم أنه يعلم مكانه، وهو على رمية حجر منه. وسنأتي لبيان الفردوس المفقود الذي أصبح هاجساً يتجدد وبصمت غير مريب في دواخل الطيب صالح، وهو يلحُ عليه ويناديه كلما تقدم به العمر وطالت غيبته عن الوطن: " أن أجب نداء قلبك نحو وطنك؟". ولكن ظل الطيب معانداً لا تلين له قناة. واستمر النداء واستمرت المعاندة حتى تحسبها مقارعة بالسيوف بين غريمان يتبارزان وتنازعان في دواخله ويتنازعان عقله، لأن قلب الطيب مع السودان ولكن سيفه مع (معاوية). انتهت المبارزة باستسلام الظاهر للباطن لبعض النداء، فأوصى الطيب أن يدفن في تراب وطنه متى ما الموت حل. وهنا تحضرني قصة قديس أتاه أحد الأثرياء العظام وسلمه وصية تقول: "بأن يعود كل ماله بعد مماته لكنيسة القديس". فشكره القديس بابتسامة يشوبها الحزن. ساءت نبرة القديس الثري المُتَبرع، فقد كان يتوقع رداً فيه حرارة وفرح تخلله صلاة. وسأل مستفسراً: " ما لي أراك يا أبانا كأنك حزين بهديتي أكثر من أن تكون بها سعيداً؟" فأجاب القديس مبتسماً: " يا بني البقرة التي تهب نفسها وهي حلوب، خير من البقرة التي تهب لحمها بعد موتها". ففهم الثري ما يرمي إليه القديس، وتبرع بنصف ماله في الحال؟!!!
قول مصطفى سعيد بطل روايته (موسم الهجرة للشمال)، وهو يخاطب محجوب، يَشْعِلُ فتيل ضوء خافت يعضدد ما نرمي إليه. دعونا نؤب (لموسم الهجرة إلى الشمال) ونتوقف عند قول الطيب صالح بلسان بطل روايته: " أن كل من يتعلم اليوم يريد أن يجلس على مكتب وثير تحت مروحة ويسكن في بيت محاط بحديقة ومكيف هواء، وأن هذا الرجل بعينه - يعني الوزير- يهرب أشهر الصيف من أفريقيا إلى (فلته villa) على بحيرة لوكارنو، وأن زوجته تشتري حاجياتها من هارودز في لندن".
الطيب صالح وبلسان مصطفى سعيد يرمي لحال من تعلم في بلادنا بما عرفه الدكتور منصور خالد بِ(النخبة) وإدمان الفشل. وكأني به يصف نفسه ويؤنبها. فهو واحد من هؤلاء. فالطيب لم يمكث طويلاً على الأرض التي أنجبته ليفلحها بثمار عقله، بل هاجر شمالاً وسكن غرباً، وعندما ضجر من الغرب لم يغفل آيباً لتراب أرضه، كما عاد بطل روايته. بل بقى مرتحلا من بلد لأخر ومدينة لأخرى كما بين لنا في خواطر الترحال.
إن جاز لي مقارنته بمن شاركوه الرحيل عن دنيا المتاع هذه في ١٨ فبراير. أقول: إن حالهم غيره حاله، وشأنهم غير شأنه، فقد تشبثوا بتراب أرضهم، وتمسكوا بالبقاء على ظهرها، واجتهدوا أن يعطوا أكثر مما عندهم ( إسماعيل حسن، محمد إبراهيم أبو سليم، محمد وردي). فإن بزهم الطيب في الصيت والعطاء واعتراف العالم به، إلا أنهم بزوه في التمسك والالتصاق بتراب الوطن وإنسانه. فالذي يحزن القلب ويدميه، أن الطيب صالح نفر من السودان نفور الظبية من أنياب الأسد، والسودان لم ينفر منه. وأنه أنعزل من السودان عزل الفصيل من أمه، والسودان لم يعزله. وحال الطيب صالح مع وطنه لم يأت نتيجة انفصام في شخصيته، بل أتى باختيار ووعي وكامل وإرادة لم يملها عليه أحد.
3 – 4
الطيب والعيش في غرفة العناية المكثفة؟!
لا نُريدَ أن نجادل في حب الطيب للسودان وأهل السودان، فهو يجري في عروقه وأنفاسه وهو الفردوس المفقود. لكن طول غربته واستمرائه للعيش خارج السودان مما جعل من الطيب مثل المريض الذي تستدعي حالته بقائه في غرفة العناية المكثفة بصفة دائمة، قد يتخللها خروج لوقت قصير لتفريق ما في القلب من شجن، ثم الأوبة لغرفة العناية المكثفة. فالطيب صالح لا يمكن أن يعيش إلا في غرفة العناية المكثفة هذه، وأوبته للسودان لا تأتي إلا بعد سنوات، في ربع قرن من الزمان زار الطيب السودان مرة واحدة؟!!! بغرض تجديد الهواء، ولأيام قصار إن بقى لتسع فقد أسرف. وحتى التسع ما هي إلا أفقية سطحية، مما أصاب الكاتب والصحفي الجريء الدكتور زهير السراج، بحسرة وندامة.
اغتراب الطيب صالح عن السودان وأهله شيء يخصه ألزم به نفسه، ولم يلزمه عليه احد. والطيب صالح بوصفه مثقفاً ينتمي للريف عليه دين عجز عن سداده، فلم يترك بصمة له في الريف الذي استوحى منه عبقريته، كان تلكم البصمة مركز صحي أو ما ينفع إنسان الريف ولو جرعة ماء من بئر. فإنسان الريف الذي جاء الطيب من أصلابه لا يعبأ كثيراً بما كتب الطيب صالح من مقالات وكتب وروايات. بل كان يتطلع للطيب أن يبنى له مدرسة يذهب إليها أطفال القرية، أو مركز صحي يعالج فيه مرضى الريف. والطيب ليس بعاجز أن يقيم صروحاً لو أراد! مستثمراً علاقته اللصيقة بأهل المال والقرار في دول الخليج خاصة عندما كان يعمل بدولة قطر، فقد كان قريباً مُقرباً من عيسى الكواري وزير الإعلام ومدير مكتب أمير دولة قطر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، آنذاك. ولكن خدمات أهل الريف والتنمية المستدامة لريف السودان لم تكن يوماً من هموم الطيب أو مشاغله، وما هي إلا أشواق بثها في حنايا كتبه ومقالاته.
4-4
الطيب صالح جافياً لوطنه ؟!
أحسبُ أن الطيب كان جافياً لوطنه، شحيحاً ضنيناً عليه وعلى ما يفيد إنسانه، حتى أدبه الذي أنتجه لم ينل السودان منه إلا شهرة الطيب صالح؟ فهل لنا أن نسأل هل إصدارات الطيب طورت النشر في بلادنا؟ أم هل ساهمت في تطوير قنوات توزيع الكتب وارتفاع نسبة القراء؟ حتى مكتبة جامعة الخرطوم لم يكن لها حظ من أنفاسه؟ حتى مقالاته التي امتدت لعشر سنوات بمجلة المجلة، لم يكن لأي صحيفة سودانية شرف إعادة نشرها ليقرأها العاجزون عن الوصول لمجلة المجلة حتى كاد أن يكون أديب ( النخبة).
لنا أن نتسأل: هل للطيب من أثر كما لشكسبير من أثر في بريطانيا، أو لما فولتير في فرنسا؟ أو حتى نجيب محفوظ في مصر؟ أتدرون إن بيت شكسبير موقعاً سياحياً يحجُ إليه الناس من داخل وخارج بريطانيا طوال العام ويدر أموالاً لا تعدُ ولا تحصى، دع عنك الأثر الثقافي لبيته ومسرحه. كاتب السطور زار مدينة ستراتفورد Stratford وبيت شكسبير في الثمانيات من القرن الماضي ودخل مسرح المدينة الذي لا يعرض إلا مسرحيات شكسبير. أين بيت الطيب صالح في السودان؟ بل أين داره ولا أقول متحفه؟ جزى الله القائمين على مركز عبدالكريم مرغني خيراً. فلو لا جهودهم المثمرة الخلاقة، لتجاوز الناس سيرة الطيب في السودان، وغمر الغبار صفحات كتبه وبني العنكبوت عليها، لانشغال الناس بهمومهم حياتهم اليومية التي تتضاعف كل يوم، و(النخبة) مازالت في غيها، تحدق في هؤلاء الناس، المنهكة أجسادهم، وكأنها شامتة متلذذة بما ترى، وهي تنعم بطموحاتها المحدودة التي لا ترتقي فوق الفم والفرج، لتعيد تجارب الفشل. فالنخبة في السودان منفصلة عن بيئتها مترفعة عليها وعلى والبيئة والأصلاب التي جاءت منها.
قمة جفاء الطيب للسودان تظهر في أسرته الصغيرة وما أظن أنها تعرف أين تقع كرمكول، وربما أين يقع السودان نفسه؟! لهذا لم يكن بمستغرب أن يعود جثمان الطيب للسودان بدون مرافق من أسرته الصغيرة، لا الزوجة ولا البنت (أظن أن له من البنات ثلاث وليس له ولد). لهذا لا نجد من أثر لهذه الأسرة في كتابات من كتبوا عن الطيب صالح، كان ذلك في حياته أم بعد مماته.
هذا الذي أحسبه أقلق الطيب صالح في أواخر عمره فتطلع لزيارة السودان ورضي أن يكون على ضيافة من قال عنهم : " من أين أتى هؤلاء"، وأوصى بدفنه في تراب وطنه، عسى أن يكون بقاء جسده في أرض بلاده كفارة لجفوته ولا أقول عقوقه. وبهذا يكون الطيب صالح قد ضمن من يزور قبره ويترحم عليه، فمنهم من يأتي ليقبر ميتمه، ومنهم من يأتي به الطريق، ومنهم من يقصد الطيب ليترحم عليه.
لعل القارئ يجد ما بين سطور إجابته في لقاء صحفي اعيد نشره بجريدة الخرطوم عدد الجمعة ٢٢ فبراير ٢٠٠١٣، بعض الذي بُحنا به. يقول الطيب صالح: " لدي شعور قد لا يستوعبه كثيرون أن الشهرة توبخني، لذا لا أحس بأي متعة لها أحس بهذا التأنيب الداخلي إذ أنني أدرك أن الشهرة جاءتني بسبب خروجي عن بيئتي ومحاولة إقامة جسور معها من خلال الكتابة فقط". -( وضع خطاً أحمراً على الجملة الأخيرة وعلى فقط) - ويواصل حديثه: " إلا أن هذا يعني جلداً للذات والأمر لا يصل لحد القسوة لكنه إحساس قوي بالتقريع ... وكل إنسان يجد مبررات لأخطائه". ويضيف في مكان أخر " ليست غربة البعد عن المنابع، فأنا شخصياً ووجدانياً عشت غربة المكان فقط".
انتهى قول الطيب صالح الذي يمكن أن نستشفُ من بين سطوره رحلة إنسان تمزق في دواخله يشتعل بركان ويغلي، ولكن الحياء منعه عن رفع غطاء فوهة البركان والسماح للهيبّه أن يخرج لسطح الحياة. ولرب ما أخرجه لخاصته، منهم على قيد الحياة الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، والدكتور محمد إبراهيم الشوش، أمد الله في أيامهما. ففي حياة الطيب صالح جوانب تحاشى الكُتاب من الاقتراب منها أو استعراضها، لكنا في هذا المقال دنونا منها قليلاً، ولا احسبه منقصة للطيب صالح، فما هو إلا بشر، يحمل قوة الإنسان وضعفه، جاء لهذه الدنيا ليكون كاتباً وليس مصلحاً اجتماعياً.
كما بدأت مقالي ببيت شعر فإني اختمه ببيت شعر آخر للإمام الشافعي حيث يقول:
عينُ الرِضا عَنْ كل عَيبٍ كليلةٌ
ولكنَّ عَينَ السُخطِ تُبدِي المساويَ
لهذا أجد العُذْرَ للنقاد والكُتاب الذين كفوا عن الخوض مما خضتُ فيه، ربما يرجع ذلك لتقديرهم وحبهم لإنسان يستحق منا الحب والتقدير. نسأل الله الرحمة والمغفرة للطيب صالح بحق حبه لنبي الرحمة المهداة، وبشارتنا للطيب قول المصطفى: "يُحْشَرُ المرء مع من أحب".