ان الاسلام بنى فكره على الجدال والحوار والإقناع لثقته أنه هو الغالب كما حض على التفكر والتدبر في كل أمر وأخذ العبرة وأقام منهجه على الشورى وإشراك الآخر والأخذ برأيه حتى ولو كان أقل فهماً وإدراكاً لأهمية قيمة الشورى والحوار فأول من بدأ ذلك الله عزوجل وهو الغني عن ذلك عندما قال للملائكة :( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)فحاوره الملائكة:(قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ثم أمر رسله بذلك بأن يجادلوا قومهم ويشركوهم الرأي فجادل ابراهيم النمرود وقد قال:( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)وجادل موسى وهارون فرعون وقد قال:( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)فقال الله لهما:( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)،كما أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم بالشورى وذلك في قوله:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)فكان صلى الله عليه وسلم يقول:( أشيروا عليَّ أيها الناس) وكان يأخذ برأيهم في كثير من الأمور مع علمه المسبق بالرأي الأصوب والأنفع ثم أمر ان يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن وأنه (لا اكراه في الدين )،(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)،لان الهداية من الله سبحانه وتعالى إنما عليه البلاغ وعلى الله الحساب وذلك في قوله:( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)،( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)ولا يعني هذا التردد وعدم الإحكام والإحاطة بما كان وما يكون والعلم بالأفضل ولكنه تأكيد بقيمة الحوار والشورى وإن الإسلام جاء هين لين وان الله ذو رحمة واسعة لا مانع عنده أن يغير في أحكامه رحمة منه بسبب دعاء أو ضعف أو لطف منه أو بسبب تسبيح او ذكر او إستغفار وهو القادر أن يفرض على خلقه ما يشاء ولا يسأله أحد عما يفعل كما في قوله:( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66))،أو كقوله:( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ) كل هذه الاستدلالات تشير ان الأمور يمكن أن تتغير من حال الى حال حسب الحال نفسه , اذن الاسلام لم يسمح بمناقشة الثوابت من أركان وقواعد لكن جاء السماح في فهم النصوص الفهم الذي لا يتعارض مع هذه الثوابت ومن هنا برزت المذاهب الفقهية والتوحيدية وهذا ما إمتاز به الاسلام على سائر الأديان والنظريات أنه جعل في ذلك سعة للفهم وإستنباط الأحكام بسبب تفاوت الأفهام وإختلاف الزمان والمكان وهذا الذي جعل الاسلام مواكباً ومعاصراً وفيه لكل مشكل حل وعنده في كل أمر قول وهذا الإختلاف حصنه قول الإمام الشافعي"فلنتعاون فيما إتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضاً فيما أختلفنا فيه" وهذه السعة في الفهم والإختلاف تتعارض تماماً مع أصحاب الفكر الإقصائي والفهم الأحادي والذي استدركت المملكة اخيراً مضاره وانعكاساته على وحدة الأمة وتماسكها والذي بنى فكره على وكأنه يقول:( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) والذي كفر وبدع دون مراعاة للإختلاف في الفهم مصادمين بعض آراء أئمتهم ودون إعتراف بالمذاهب الأخرى التي أجمعت عليها الأمة. كما نأمل بقدر ما انفتحت المملكة واتجهت نحو المعاصرة والمواكبة أن تنفتح نحو المذهبية والأخذ بأرآء المذاهب واحترامها والتي أجمعت عليها الأمة و أظن ان في هذا سوف يكون العلاج للغلو والتشدد ولما كان الحوار من أصل الدين هذا لا يمنع أن تجتمع الأمة وتتحاور في كيف توحد صفها وتجمع شملها الذي مذقته الإختلافات والطوائف والفرق. وخلاصة ما إستعرضناه من أقوال وأفعال وآيات تثبت أن الغلو والتشدد والاستغلال بالرأي ليس له ما يسنده من الكتاب والسنة ومن مرتكزات الدعوة ان يكون الداعية ذا أمانة علمية وإلمام بما يدعو اليه وان يتعرض لكل الآراء الفقهية ولا مانع أن يعتمد على مذهبه في فتواه وان لا يزكي نفسه ولا يفضل مذهبه على بقية المذاهب وأن يتعامل في إسلوبه الدعوي بالترغيب لا الترهيب . على علماء المسلمين ان يكونوا علماء للرحمن لا علماء للسلطان وان يكونوا رجال دعوة لا موظفي دولة يميلوا مع السلطة حيث مالت ويفتوا لها بما أرادت.