العلمانية في السياق السياسي السوداني: العودة إلى القانون الجنائي المدني !!

 


 

 

 

 

القاهرة، 9 أغسطس 2020

الواثق كمير

kameir@yahoo.com

 


الصراع حول الدين والسياسة: السياق التاريخي

أوشكت مفاوضات "سلام جوبا" بين الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية (جبهتان ثوريتان) على التوصل إلى وثيقة اتفاق نهائية، بحسب الإفادات المتواترة من الطرفين، بينما ظلت مفاوضات الحكومة مع الحركة الشعبية شمال، تحت قيادة الفريق عبد العزيز الحلو، متعثرة يلازمها الجمود. فهذه المحادثات توقفت عند محطتها الأولى في أكتوبر 2019، حينما تم اتفاق مبدئي بحيث يتم أولاً التفاوُض والوصول إلى اتفاقٍ حول القضايا السياسيَّة، ومن ثمَّ الانتقال إلى الشأن الإنساني، على أن تأتي قضيَّة الترتيبات الأمنيَّة كآخر بند في أجندة التفاوُض. لم يتمكن الطرفان من الشروع في التفاوض على القضايا السياسية بسبب خلاف جوهري على مضمون "اتفاق المباديء" الذي سيحكم مسار العملية التفاوضية، إذ تصر الحركة الشعبية على إدراج موضوعي علمانية الدولة وتقرير المصير في صميم أجندة التفاوض، وهذا ما ترفضه الحكومة الانتقالية. وبذلك تجمدت المفاوضات ولم تتقدم خطوة تُذكر، مع تركز الجدل حول مفهومي الدولة الدينية والدولة العلمانية/المدنية، من جهة، وبين مفهومي الدولة العلمانية والدولة المدنية من جهة أخري.
وما أن وضعت الحركة الشعبية شمال هذا المطلب على طاولة التفاوض، حتى انبرى المراقبون وكُتاب الرأي والناشطون السياسيون للتعبير عن آرائهم المتباينة حول هذه المفاهيم، وانقسمت وجهات النظر حتى وسط المناوئين للدولة الدينية بين من يُفضلُّ تعبير "العلمانية" ومن يميل إلى وصف الدولة ب "المدنية". حقاً، لقد رصدت عشرات المقالات المبثوثة في الصحف الإلكترونية والأسافير ومنصات التواصل الاجتماعي، احتوت على تحليلات رصينة ومستشهدة بالتجارب المختلفة، وتسجيلات فيديو وأوديو، وحملت عناويناً جاذبة ومثيرة. ومن ضمن مواضيع هذه المساجلات: "الموقف من العلمانية"، "العلمانية ضرورة للخروج من مأزق خلط الدين بالسياسة"، "المدنية والعلمانية في السودان"، "هل العلمانية حالة غياب للدين؟"، "هل من الممكن أن يتوافق الإسلام مع العلمانية؟"، "العلمانية الضامن للمساواة والعدالة"، "العلمانية وتقرير المصير ورؤية السودان الجديد"، "العلمانية فعل تنويري وليست شعاراً سياسياً"، "حقيقة الصراع بين العلمانية "الصادقة" والعلمانية "الكاذبة"، "العلمانية أو سماية الدولة"، "يسألونك عن العلمانية"، "توطين العلمانية"، "في فض الاشتباك بين دعاة دمج والفصل بين الدين والدولة"، "الدين والسياسة في الدساتير السودانية". أضافت هذه المساهمات إلى الرصيد الفكري والأدب السياسي السوداني حول طبيعة العلاقة بين الدين والدولة، كم أثارت حوار ساخن بين الرؤى المختلفة لقضايا الدين والسياسة التي ستظل موضوعاً للجدال، فأمر تأسيس الدولة هو بمثابة عملية طويلة ومعقدة وليس بحدث عابر.

ومع ذلك، لن أجاري أو أُباري هذه الحوارات، ولا أرغب في الخوض في جدل فكري أو فقهي، قد لا أمتلك ناصيته، خاصة وأنه، في رأيي، جدال قد يُخلقُّ تشويهاً ويسبب غموضاً في الفهم الصحيح للمفاهيم والمصطلحات المستخدمة، ولا يرسو بنا على بر آمن. وأحسب ان الحوار في ضوء هذه الثنائية، بين الدينية والعلمانية/المدنية لن يكون مجدياً او منتجاً، خاصة وان مثل هذه المفاهيم والتداول حولها غير مألوف او مهضوم لسواد السودانيين، مما يُملي علينا استخدام لغة يفهمها المواطن العادي. لذلك، قصدي في هذا المقال أن أُحاول تفكيك مفهوم العلمانية/المدنية وتشريح معناه على أرض الواقع وفي سياق وطبيعة الصراع السياسي المحتدم حوله، حتى نتوصل إلى حلٍّ يحقق السلام العادل ويُعززُّ مباديء دولة المواطنة الحقيقية. بمعنى آخر، أهدف إلى تحرير الخلاف بين المطالبين بالدولة العلمانية، أو المدنية، وبين الرافضين والمناوئين للفكرة بحسبانها لإبعاد الدين عن الحياة والطعن في الشريعة الإسلامية. فإبتداء، فالخلاف في تاريخنا المعاصر، خاصة بعد سبتمبر1983، حول علاقة الدين بالسياسة/الدولة لم يكن على رؤى نظرية أو تصورات مفاهيمية، بل كان على سن التشريعات القانونية المستمدة من دين يعينه، في هذه الحالة التشريعات الإسلامية أو قوانين سبتمبر. وذلك، في بلد تتعدد فيه الأديان والثقافات، ولا يتفق فيه المسلمون على مذهب واحد. لذلك، لا أميل إلى استخدام مفهومي الدولة العلمانية والدولة المدنية، بل أفضل أن أوصف الدولة التي يتطلع إليها السودانيون ب "دولة المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات المتساوية لكل المواطنين، بغض النظر عن الدين أو النوع أو العرق".

لذلك، تتلخص أطروحتي في هذا المقال في أن العلمانية في السياق السياسي السوداني تُعني إلغاء قوانين سبتمبر 1983 المدمجة في قوانين 1991، وأزعم أنه لن يكتمل نصاب السلام العادل ودولة المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات المتساوية والمساواة أمام القانون إلا بإلغاء هذه التشريعات والإحتكام ّإلى القانون المدني الذي أرست قواعده تجربة ربع قرن من الإرث التشريعي والقانوني (1956-1983). فجدل المفاهيم بين علمانية ودينية لن ينتهي إلى يوم يبعثون، ونقرة واحدة على محرك قوقل تنبئك بذلك، فلنحرر الخلاف واقعيا بالتركيز، ونضع أصابعنا على قضية التشريعات!

إن أمر إلغاء تشريعات سبتمبر ليس بمطلب الحركة الشعبية ‏"الموحدة"، بعد سبتمبر 1983، أو الحركة الشعبية شمال في فبراير 2019، إنما هو أهم مطلوبات دولة المواطنة، التي يتساوى مواطنوها في الحقوق والواجبات، بل وهو أمر أقرته انتفاضة مارس/أبريل 1985، ومن ثم حسمته كل القوى السياسية الشمالية، ما عدا بالطبع الجبهة الإسلامية القومية يومذاك، في كوكادام في عام 1985، وفي اتفاقية الميرغني-قرنق 1988، وفي أسمرا 1996. سأتعرض في هذا المقال إلى حيثيات الصراع السياسي حول هذه التشريعات، التي تمت حولها حوارات عميقة ونقاشات مطولة، أفضت في نهاية المطاف إلى هذا التوافق على إلغائها في إطار مبادئ أساسية تحكم علاقة الدين بالدولة والسياسة. وفي رأيي، أنّ المُلزم سياسياً والواجب أخلاقياً على كل القوى السياسية والمجتمعية، بما فيهم أطياف الإسلاميين، خاصة تلك التي وقعت على قرار أسمرا للقضايا المصيرية، إدارة حوارٍ جاد حول هذه القضية المفصلية، بحثاً عن إجابة على سؤالين متلازمين: لماذا نبقي على قوانين سبتمبر؟ ولماذا ينبغي إلغائها؟


كيف، ومن سنَّ قوانين سبتمبر؟

العلمانية فُرضت على الخطاب الوطني منذ 1968 عندما رفعت بعض الأحزاب الشمالية شعار الدستور الإسلامي. فلم تكن القضية مطروحة عند الاستقلال، ولم تكن جزءاً من الخطاب السياسي الجنوبي، ولم يرد حوارُّ بشأنها في محاداثات أديس أباباب للسلام في 1972. فالقضية، إذن، قضية سياسية أقحمها على الدين من أقحمها، وكان له فيها تخريجات، كما سأُبينُّ في هذا المقال. فبعد أن تضعضت التحالفات السياسية للرئيس نميري، لجأ إلى حيلة أخيرة لعلها تمِدُّ عُمرَّ حُكمهِ وتعزز من سلطاته المطلقة، فنصب نفسه إماماً للمسلمين ووليُّ على أمرهم، ولم يعدم المبايعين من أهل الحل والعقد، وحاشية سلطانه. ومن بين هؤلاء جوزيف لاقو، الجنوبي المسيحي، الذي وصفه د. منصور بأنه "أدى البيعة لأمير المؤمنين قبل أن يخطو الخطوة الأولى التي ينبغي أن يخطوها قبل المبايعة، ألا وهي الدخول في الإسلام" (منصور خالد، شذرات من، وهوامش على سيرة ذاتية، الجزء الثالث، ص 39، 2018، دار رؤية، القاهرة) . عهد نميري بمهمة صياغة التشريعات الإسلامية لثلاثة من "المشعبذين والمشعوذين القانونيين" ممن كانوا يحيطون به حينذاك: عوض الجيد والنيل أبو قرون، وبدرية سليمان التي اُشتُهِرت ب "بدرية الترزية" تلميحاً لما أظهرته من قدرات فائقة على تطويع القانون لرغائب الحكام. ومن الطرائف أن من قام بصياغة قوانين الشريعة الإسلامية، عوض الجيد وأبو قرون، قد بلغا من الشعوذة القانونية ما ذهب بهما إلى الإيحاء للرئيس نميري بأن يقوم عند دخول مكتبه بتحية المقاعد الخالية، ويُسلم عليها تسليماً لأن الملائكة، في زعمهما، تجلس عليها. لم يقف الأمرُّ عند تدمير الاقتصاد، بأسلمة البنوك وإلغاء الضرائب واستبدالها بالزكاة، بل تبعه تدمير للقانون والدستور، وذلك بإلغاء أهم إصلاح قانوني تم منذ مطلع الاستقلال، ومن بينها قوانين مثل قوانين الوكالة، البيوع، والعقود، التي أشرف عليها جهابذة القانونيين المخضرمين، وشملت مراجعات في القانون الجنائي وقوانين الإجراءات. ويضيف د. منصور، بحد تعبيره: "ومن المؤسي أن نميري عندما عهد بتلك المهمة لحديثي العهد بالقانون هؤلاء، حرِصَّ على أن يقصي من تلك المهمة حتى الأقربين إليه من رجال القانون القادرين: حسن الترابي، والرشيد الطاهر، رغم مبايعتهما له ولياً للأمر. ذلك الإقصاء، فيما نُقدِّر، كان مقصوداً حتى لا يكون لأي منهما فضل في إقامة الخلافة الإسلامية التي وهبا عمريهما لتحقيقها" (نفس المصدر، ص41). هذه الحقائق تؤكد أن الأخوان المُسلمين ليس هم من سنّ وأصدر قوانين سبتمبر، ولكنهم لم يعارضوها بالطبع، بل وأبقوا عليها حتى انشطرت البلاد. وبالرغم من أن الشيخ حسن الترابي لم تكن له يدُّ في صياغة التشريعات، إلا أنه في رأي د. منصور "قد أقدم على المبايعة، وهو يروي على جمهور المبايعين حديثاً مشكوكاً في صحته يقول "سيقوم على رأس كل مئة (أي مئة عام) من يجدد لهذه الأمة دينها....وهكذا "تآزرت فتاوي المقتحمين على الدين، وتسييس العلماء الحكماء له لتُصيب إسلام أهل السودان في مقتل" (نفس المصدر، ص 41).


مقاومة قوانين سبتمبر

أجج فرض هذه القوانين نار الحرب الدائرة في جنوب البلاد، إذ اعتبرتها الحركة الشعبية لتحرير السودان خرقاً جوهرياً لاتفاقية أديس أبابا في سلسة قرارات نميري الفردية الرامية إلى تقويض الاتفاقية تماماً، وهو ما وقع بالفعل. ومن جهة أخرى، كان نظام نميري يلفظ أنفاسه الأخيرة وعلى وشك الانهيار حتى أجهزت عليه انتفاضة مارس/أبريل 1985، التي كانت إزالة قوانين سبتمبر على رأس أولويات مطالبها الأربعة. اتفقت كل القوى السياسية على أن أي طرف لا يملك أن يُملي واقعاً على الآخرين دون إحتكام للإرادة الشعبية، لأن قوانين سبتمبر، وقوانين الجبهة الإسلامية القومية المنسوبة إلى الإسلام، لم تصدر بإرادة شعبية وبذلك، أضحى إلغائها هو البند الرئيس في أجندة للحركة الشعبية، وعظمة النزاع في كافة جولات حواراتها مع قوى الانتفاضة، وفي مفاوضاتها مع الحكومة الانتقالية، عقب سقوط نظام نميري. وعليه، فقد توافقت القوى السياسية والنقابية (ما عدا الاتحادي الديمقراطي يومذاك) على إلغاء قوانين سبتمبر في أول لقاء جمع قوى الحكومة الانتقالية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، في كوكادام، إثيوبيا، صدر بيانه الختامي في 21 مارس 1986.

ومع ذلك، فشلت حُكومة الفترة الانتقاليَّة في إلغاء قوانين سبتمبر، ليس بحسب ميثاق الانتفاضة فحسْب، بل حتى بعد التوافُق على هذا الإلغاء في كوكادام، وإن كان ذلك في نهايات الفترة الانتقاليَّة. ومن المُدهش أن تنجح الأحزاب والقُوى النقابيَّة والمُجتمعيَّة التي تمثل الحاضنة السياسيَّة لحُكومة الانتفاضة في التجاوُب مع الحركة الشعبيَّة في قضيَّة القوانين، بينما تعجزُ الحُكومة التي تُمثلهم عن مثل هذا التجاوُب. لكن، يبدو أنَّ الإحساس بقُرب الموعد المضروب للانتخابات، دفع الأحزاب لترك موضوع الإلغاء للمجلس العسكري الانتقالي، المُسيطر على المشهد وعلى سُلطة التشريع، والذي كان يخشى من ابتزاز الإسلاميين ووصمِهِم له بمُعاداة شرع الله. وتحاشياً لاتخاذ أي قراراتٍ صعبة، فضَّل كُلٌ من المجلس العسكري والحُكومة الانتقاليَّة ترحيل هذه المُهمَّة إلى الحُكومة المُنتخبة. وجود المجلس العسكري في السُّلطة، والإبقاء على قوانين نميري، لم تترُك للحركة الشعبيَّة مجالاً للانخراط في العمليَّة السِّياسيَّة التي خلقتها الانتفاضة.

ظلت القضيَّة عالقة حتى تشكَّلت الحُكومة المُنتخبة برئاسة السيِّد الصَّادق المهدي في مايو 1986، والذي دمَغَهُ الكثير من المُراقبين وكُتَّاب الرَّأي بالتلكؤ والتردُّد في اتخاذ قرار إلغاء القوانين. صحيح أنَّ السيِّد الصَّادق المهدي أطلق عبارة داوية من مخاطبته الشهيرة في الميدان الشرقي لجامعة الخرطوم بأنَّ «قوانين سبتمبر لا تُساوي الحبر الذي كُتبت به»، وكرَّرها في كُلِّ مخاطباته اللاحقة حتَّى قيام الانتخابات وتولِّيه منصب رئيس الوُزراء في 6 مايو 1986، إلَّا أنه طوال فترة حُكومتيه الأولي والثانية لم يمسَّ أياً من قوانين سبتمبر بأي مُراجعة. وذلك، إلى أن جاءت حُكومته الثالثة، وأصبح الدكتور حسن التُرابي وزيراً للعدل والنائب العام في 15 مايو 1988، ودخول القانوني الفريق شرطة عباس أبوشامة وزيراً للداخليَّة. تكوَّنت لجنة لمراجعة قوانين سبتمبر ضمَّت في عُضويتها: د. الترابي ود. أبوشامه ومولانا شوقي الأفندي، إضافه لكبار المُستشارين في وزراة العدل، وبعض الرُموز القانونية من خارج العمل الحُكومي، أشهرهُم حافظ الشيخ الزاكي. أكملت اللجنة مهمَّتها بإعداد مشروع القانون الجنائي لسنة 1988 لمجلس الوزراء، وتولَّى تقديم القانون من حيث البناء الفني د. أبوشامة، ومن حيث المضمون د. التُرابي. الغريب في الأمر، أنه يفطُن المُطلَّع على مشروع القانون أنه يُقنِّن الحُدُود الإسلاميَّة في العُقوبات الجنائيَّة، بما يتعارض مع هدف المشروع الرَّامي لتدقيق الصياغة القانونيَّة في العُقوبات الحدِّيَّة والتعذيريَّة، وفي أذهان الجميع يَرِنُّ ويهتف حديث السيِّد رئيس الوزراء بأنَّ «قوانين سبتمبر لا تستحق الحبر الذي كُتبت به». ذلك، بينما مشروع القانون الجنائي المطروح، يقول أنها تستحق ذلك الحبر الذي كُتبت به، بإدخال بعض التعديلات الصِّياغيَّة لاستدراك الترهُّل في القانون المراد تعديله، وذلك بالاستغناء عن بعض الصِّياغات وإحالة بعضها لقانون الإجراءات الجنائيَّة.

أمرٌ غريبٌ ثانٍ، ربَّما الأكثر أهميَّة، أنه بحسب المحاضر المُدوَّنة لجلسات مجلس الوزراء، لم يكن السيِّد رئيس الوزراء مُقتنعاً بجدوى المُؤتمر الدُّستُوري، بالرغم من أنه ظلَّ وعده ومُطالبته به حاضراً في كُلِّ خُطبه. ففي تقديمه للمنهج الذي اعتمدته اللجنة في إعداد مشروع القانون، قال السيِّد الصَّادق: «نحن نستعرض اليوم مشروع القانوني الجنائي الذي تأخر طويلاً، وليعلم الجميع بأننا لن ننتظر به المُؤتمر الدُّستُوري كما هو في مخيِّلة الجميع... لأنَّ هذا المُؤتمر الدُّستُوري لن يترك المسيحي يُصبح مُسلماً ويقبل بتطبيق النصوص الشرعيَّة عليه وفق هذا القانون، ولن يُقنِع المُسلم أن يترك المُطالبة بأن يُحكَمَ بموجب مقتضيات ومطلوبات الشَّرع بحُجج المُساواة بين الأغلبيَّة والأقليَّة، ولذلك علينا أن نتوكَّل على بركة الله للتداول في مشروع القانون، الذي خضع لدراسة متأنية وفحصٌ عميق وفق ميزان الحُقوق الأساسيَّة». وانتهي الاجتماع بالمُوافقة علي مشروع القانون، كما قدَّمه د. التُرابي، ليأخذ طريقة لاستكمال المسار التشريعي، الذي لم يكتمل. وبذلك، لم يَرّ القانون النور، إذ تلاحقت الأحداث والتطوُّرات، كما سأبيِّن في الموقف من قوانين سبتمبر، وهو الأمر الذي عجَّل بسُقوط الحُكومة المُنتخبة. وهُنا يثورُ سؤالٌ هام: إن كان السيِّد الصَّادق غير مقتنع بفكرة إحالة قضيَة القوانين إلى المُؤتمر الدُّستُوري، فلماذا يتبنى هذا الموقف الآن من نفس القوانين؟! وهذا يدعم موقف حُكومة الثورة الانتقاليَّة في إلغاء قوانين سبتمبر والعودة إلى القانون الجنائي المدني، تبعاً لآليَّات الانتقال التشريعيَّة.

في نوفمبر 1988، وقع تطوُّرٌ هامٌ وذلك باكتمال عقد المُطالبين بإلغاء القوانين بعد توقيع رئيس الحزب الاتحادي الدِّيمُقراطي، مولانا الميرغني، اتفاقيَّة سلام السُّودان، مع رئيس الحركة الشعبيَّة، د. جون قرنق، والتي أقرَّت بأنَّ «لا تصدُر أيَّة قوانين تحتوي على مثل تلك المواد وذلك إلى حين قيام المُؤتمر الدُّستُوري»، والذي حُدِّدت مواعيد انعقاده. ومع التأكيد على إلغاء قوانين سبتمبر وسائر القوانين التي تَحِدُّ من الحُريَّات، تمَّ التوافُق في كلا التفاهُمين على مشاركة الحركة الشعبيَّة في حُكومة انتقاليَّة مُوسَّعة، وفي الإعداد للمؤتمر القومي الدُّستُوري. كان اتفاق الميرغني/قرنق بمثابة تحوُّل نوعي في مسار العمليَّة السِّلميَّة واختراقٌ في قضيَّة الدِّين والدَّولة التي طرحتها الحركة الشعبيَّة، كما أثار موقف مولانا حينئذٍ جدلاً سياسياً واسعاً. وبالرغم من ضغط الجبهة الإسلامية على السيِّد رئيس الوزراء، إلَّا أنه لم يستطع أن يُعارض صراحة اتفاق الميرغني/قرنق، بل اختار أسلوباً على شاكلة الأغنيَّة الشعبيَّة “دور بينا البلد ده.. نحرق الاتفاق يا الوابور جاز”، فأعلن قبوله للاتفاقيَّة بإضافة العبارة المشهورة “بتوضيحاتها”.وهي كانت توضيحات فنيَّة في مُبتدرها قدَّمتها الاستخبارات العسكريَّة، في اجتماع مجلس الأمن والدفاع الوطني برئاسة السيِّد الصَّادق، وطالبت أن يكون البند الأوَّل في الاتفاق إعلان وقف إطلاق النار، وليس أي شيء آخر. قدَّم السيِّد رئيس الوزراء بديلاً للنظر في إلغاء قوانين سبتمبر النظر بواسطة لجنة قانونيَّة من أحزاب الحكومة للمداولة في كيفية تجميد القوانين، برئاسة مولانا دفع الله الرَّضي، ومُمثلاً فيها حزب الأمَّة بشخص مولانا حامد محمَّد حامد، مع متابعة لصيقة لأعمال اللجنة من السيِّد مُبارك الفاضل. ومع ذلك، ضربت اللجنة بفكرة تجميد القوانين عرض الحائط، حيث أقرَّت بأنه لا يجوز ولا يصِحُّ قانوناً وقانونياً تجميد القوانين، فإمَّا أن يكون القانون نافذاً أو سارياً، أو يتم الإلغاء كليَّةً، أمَّا تجميد القوانين فهو مصطلحٌ لا مكان له، لا في ظاهر ولا في باطن علم التشريعات.

من جهةٍ، رحَّبت باتفاق الميرغني/قرنق قطاعاتٌ سياسيَّة ومجتمعيَّة مُقدَّرة، شكَّلت ضغطاً على رئيس الوزراء، السيِّد الصَّادق المهدي، حتى أعلن عن قبول المُبادرة وتكوين حكومة “الجبهة الوطنيَّة المُتحدة” التي ضمَّت طيفاً عريضاً من القُوى السِّياسيَّة والنقابيَّة، في 22 مارس 1989. ولكن الرِّياح لم تأت بما تشتهي السُّفُن، فاختلطت الأمور وظلت قوانين سبتمبر باقية. فقد رفضت الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة اتفاقيَّة السَّلام بذريعة مُعاداتها للوطن وتخليها عن الشَّريعة الإسلاميَّة. وبذلك، عزلت الجبهة الإسلاميَّة نفسها، ولم يعزلها أحدٌ كما تُروِّج بعض قياداتها عن الحُكومة، وما تحقق خلفها مِن إجماع، واختارت الانتقال إلى خانة المُعارضة لثلاثة عشر أسبوعاً فقط، لتستولي على السُّلطة بمُفردها دون حاجة لحُكومة ائتلافيَّة، في 30 يونيو 1989! وهكذا، قطع الانقلابيُّون الإسلاميُّون الطريق على المُؤتمر القومي الدُّستُوري، الذي أصبح لأوَّل مرَّة مُضمَّناً في برنامج الحُكومة، وتمَّ تحديد تاريخ انعقاده في 18 سبتمبر 1989. على أيَّة حال، فقد كانت المُفارقة، أنَّ الفترة التي سادت فيها قوانين سبتمبر في العهد الدِّيمُقراطي والتي كانت في مُقدِّمة أسباب قيام الثورة، كانت أطول من الفترة التي سادت فيها في عهد النميري.

بعد إستيلاء الجبهة الإسلامية القومية على الحكم، ظل موضوع الدين والدولة وإلغاء قوانين سبتمبر حاضراً بقوة في أجندة أعمال تحالف القوى المعارضة ممثلاً في "التجمع الوطني الديمقراطي". فبالرغمِ من توافق الأحزاب السياسية، خاصة حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي، مع الحركة الشعبية على إلغاء قوانين سبتمبر في عامي 1986 و1988، إلا أن حسم الأمر باتفاق شامل استغرق زمناً مُقدراً والعديد من الاجتماعات والتفاهمات الثنائية. ففي لقاء لقوى التجمع في 17 أبريل 1993، بنيروبي، تم الاتفاق على قرار بعنوان "الدين والسياسة في السودان" تضمن أربعة مبادئ أساسية: أولهما؛ المواطنة أساس للحقوق والواجبات، وثانيهما؛ التعددية عنصر رئيس في التشريع ورسم السياسات، وثالثهما؛ تعهدات واتفاقيات ومواثيق حقوق الإنسان، الدولية والإقليمية، صالحة للجميع والالتزام بها يغلق أبواب الجدل، ورابعهما؛ جميع المسائل المرتبطة بالأديان والمعتقدات لا يتم البت فيها عبر تغليب رأي الأغلبية على الأقلية، أو اعتماد الأغلبية الميكانيكية، بل يتم حسمها عبر التوافق والاجماع. فتح إعلان نيروبي الباب واسعاً للعبور إلى اتفاقيات ثنائية بين الحركة الشعبية والأحزاب الشمالية، فوقع حزب الأمة في 12 ديسمبر من نفس العام، 1993، اتفاقاً مع الحركة في شُقدوُم (شرق الاستوائية) جدد فيه التزامه باتفاق نيروبي حول الدين والسياسة.

هكذا، كان لاتفاقي نيروبي وشُقدم دور هام في تذويب الاختلافات مما مهد لاحقاً لصدور قرار أسمرا حول قضية العلاقة بين الدين والدولة، الذي تطابق في مضمونه ومعانيه مع نفس القرار الذي أُتفق عليه في نيروبي. وعليه، تم تثبيت القرار الخاص بالعلاقة بين الدين والدولة، في "إعلان اسمرا"، والقائم على مبدأ عدم استغلال الدين في السياسة، وذلك بإقرار العديد من التدابير الدستورية التي تكفل المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيساً على حق المواطنة، بما في ذلك الاحتكام للقضاء، وتطابق كل القوانين مع المبادئ والمعايير المعنية بحقوق الإنسان والمضمنة في المواثيق والعهود الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان، وتقضي ببطلان أي قانون يصدر مخالفاً لذلك وتعتبره غير دستوري. ومن الملاحظ، أن تفادي القرار لاستخدام الكلمات "الشفرية" مثل العلمانية، واتجاهه مباشرة إلى موضوع استغلال الدين في السياسة، أزال كل لبس كان عالقاً بالأذهان حول ما يعنيه دعاة العلمانية بالفصل بين الدين والسياسة، كما قضى على أي محاولة لتشويه ذلك الفهم. ومن أهم ما في ذلك القرار هو ربط قضية الدين والسياسة بإعلان وعهود حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، وهو أمر لا يتعارض، بل ينسجم مع الدعوة الإنسانية لأي دين، لأن الدين الحقيقي قيمة مضافة للإنسانية.

رفضُّ حكومة الجبهة لإلغاء، وتمسكها بقوانين سبتمبر، وقف في طريق التوصل إلى سلام يضمن وحَدة البلاد، بينما فشل تجمع المعارضة في تحقيق هدفه في "إقتلاع النظام من الجذور" بما يمكنه من تنفيذ مقررات أسمرا، وعلى رأسها قرار الدين والسياسة. درجة التوازن السياسي والعسكري بين المعارضة ونظام الإنقاذ قادت إلى تسوية سياسية، تُرجمت في اتفاقية السلام الشامل، طرفيها الرئيسين هما حكومة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، من جهة، وبين الحكومة وبقية أطراف التجمع (اتفاقية سلام القاهرة)، من جهة أخرى. في حقيقة الأمر، قادت مفاوضات السلام بين الحكومة والحركة إلى إعلان مباديء الإيقاد، ومن ثمَّ إلى بروتوكول مشاكوس، واتفاقية للسلام الشامل التي قامت على صيغة "الدولة الواحدة بنظامين"، مما مهد لانفصال سلس. لم ينجح نموذج دولة بنظامين لا في تحقيق وحدة البلاد، بعد أن حقق الجنوبيون هدف إقامة دولتهم العلمانية، ولا في حسم الخلاف الرئيس حول قضية الدين والسياسة في جمهورية السودان الذي ظل عالقاً حتى اليوم.


إلى قوى التغيير: لماذا لا نُلغي قوانين سبتمبر؟

موافقة الحركة على بقاء واستمرار قوانين الشريعة في الشمال بحسب نصوص اتفاقية السلام عرضها لانتقادات لاذعة من البعض الذي رأى في قبول الحركة هذا تنكراً صريحاً لموقفها المبدئي المعلن بشأن العلاقة بين الدين والدولة وإلغاء قوانين سبتمبر. ويعكس هذا الاستنتاج قراءة خاطئة لنتائج المفاوضات وعجزاً عن فهم منطقها وأحكامها، حيث أن اتفاقية السلام الشامل لا تمثل برنامج الحركة أو مشروعها، بل هي تسوية سياسية تم التوصل لها عن طريق التفاوض. لذلك، ليس هناك طرف في موقف يؤهله لفرض شروطه بالكامل، فالحركة الشعبية (والتجمع الوطني الديمقراطي لنفس السبب) لم تهزم الحكومة، وبالتالي لم تحقق الشرط الضروري لتمكينها من إلغاء القوانين السائدة والتوجه لبناء نظام سياسي جديد بناءاً على مقررات مؤتمر القضايا المصيرية. ففي ظروف المفاوضات كان أمام الحركة خياران فقط. الخيار الأول أن تتمسك وتصّر على فصل الدين عن الدولة في السودان ككل، وبالتالي إدخال المفاوضات في مأزق قد يؤدي إلى انهيارها. ومثل هذا الموقف لا يرضي قاعدة الحركة في الجنوب (خصوصا الانفصاليين) أو الوسطاء، على حدٍ سواء. والأخطر أنه يعود بالبلاد مرةً أخرى إلى حرب مدّمرة. والطريق الثاني كان يتمثل في البحث عن حلول عملية لإنهاء الحرب، دون مساومة في مواطنة غير المسلمين ليس فقط في الجنوب وإنما في كل السودان. واختارت الحركة الطريق الثاني من خلال تقديم عدة مقترحات شملت الاتفاق على عاصمة قومية لا تحكمها قوانين الشريعة أو إقامة منطقة إدارية لا تخضع لقوانين دينية. فإذا لم تجد هذه المقترحات مكاناً في النتائج النهائية للمفاوضات فليس من العدل أن نحمّل الحركة مسئولية ذلك. والسؤال الذي يجب توجيهه للمنتقدين والمتشككين هو: ماذا فعلوا هم وكل القوى السياسية والاجتماعية في الشمال لدفع الأجندة العلمانية إلى الأمام؟ ولو على سبيل مساندة موقف الحركة التفاوضي حول الدين والدولة.

كنت قد نشرتُّ مقالا قبل ثلاثة عشر عاماً، في أغسطس 2007، قلت فيه أن العلاقة بين الدين والسياسة تمثل أمّ القضايا التي تستوجب النقد والتحليل وتستدعي ابتداع النهج الملائم لمعالجتها. وكان المرء يتوقع من المعارضين لبعض جوانب اتفاقية السلام الشامل، إثارة الحوار الوطني و الجاد بشأنها، خصوصاً من طرف حلفاء الحركة السابقين في التجمع الوطني (الأمة، الإتحادي الديمقراطي، والحزب الشيوعي) والذين مهروا إعلان أسمرا حول الدين والدولة بتوقيعاتهم، أم هل تنصلوا عن اتفاقهم ذلك واعتبروه قد سقط بتقادم الزمن؟ أو ربما اكتفوا بصب جام غضبهم على "ثنائية الإتفاقية" و"قسمة السلطة"، بينما غضوا الطرف عن قضية جوهرية لا تستقيم وحدة السودان بدون إيجاد معالجة جذرية لها، وكأنما الحل "المؤقت" الذي ارتضاه الطرفان المتفاوضان قد جبّ هذه الثنائية، أو صادف هوىً في نفوسهم ولسان حالهم يقول: "الحمد لله الذى خلصنا من اتفاق لم نتحمس له أصلا"؟ كما يمكن الإستهداء بتجارب الآخرين في الإتفاق على صيغة تكفل المساواة في حقوق المواطنة، وفي الوقوف أمام القضاء، بغض النظر عن المعتقد الديني للفرد.

إن توقيع حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي لإعلان كوكادام واتفاقية الميرغني-قرنق ومقررات أسمرا للقضايا المصيرية بتوافقهما على إلغاء قوانين سبتمبر، هو بمثابة عودة إلى الإدراك العميق لزعيمي أكبر طائفتين دينيتين في السودان للمخاطر العملية من تديين السياسة، منذ أواخر خمسينات القرن الماضي. فنتيجة لذلك التحدي، أحجم السيد على الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي عن الضغط على الأحزاب الموالية لهما لإنشاء دولة ودستور إسلاميين. وهكذا، فإنها ليست مصادفة أن كلاً من الزعيمين الإسلاميين البارزين و"اللذين يُفترض أن تسيطر النزعة الدينية على رؤيتهما السياسية، ظلا يعهدان بالحكم دوماً إلى ساسة شبه علمانيين. بالإضافة إلى هذا، ظلت دساتير السودان في فترة ما بعد الاستقلال (بما في ذلك عهد عبود) دساتير شبه علمانية. ولا ريب أن السيدين كانا يتمتعان، إلى جانب الدهاء السياسي، بالحكمة التي مكنتهما من التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي على المستويين الأيديولوجي والعملي، ومن ثمًّ تركا إدارة السياسة العملية لساسة دنيويين" (منصور خالد، أهوال الحرب وطموحات السلام: قصة بلدين، 2003، ص 1009، دار تراث، القاهرة). حقاً، لقد كان السيد المهدي يُدركُّ جيداً أن القضية التي نذر نفسه لها، قضية "السودان للسودانيين"، لن يُكتب لها النجاح من خلال منظور ديني للسياسة، ناهيك عن رؤية تتصل بتوجه ديني محدد. ذلك، بينما تبنى السيد الميرغني تجمعات سياسية كانت، بطبيعة تكوينها، أكثر ميلاً لقبول الفصل بين الدين والدولة. ولذلك، ظل الحزب السياسي الذي يدعمه الميرغني موقعاً تقليدياً لصفوة المثقفين الداعين لهذا الفصل في المراكز الحضرية، ولغير المسلمين الشماليين، خاصة الأقباط. ولعل هذا يفسر خطوة السيد محمد عثمان الميرغني الشجاعة في نوفمبر 1988، وفي توقيع حزبه في يناير 2020، على "إعلان دعم قضايا السلام والوحدة الطوعية" في جوبا، مع الحركة الشعبية شمال، تحت قيادة الفريق عبد العزيز الحلو. فإعلان جوبا المُشترك هو بمثابة تثبيت للقرار الخاص بالعلاقة بين الدين والدولة، في "مؤتمر أسمرا"، والقائم على مبدأ عدم استغلال الدين في السياسة، وذلك بإقرار العديد من التدابير الدستورية التي تكفل المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيساً على حق المواطنة. وعلى حزب الأمة، الموّقع على إعلان نيروبي واتفاق شُقدُوم وقرار مؤتمر القضايا المصيرية حول الدين والسياسة أن يُعلنًّ موقفاً واضحاً، لا يقف فقط عند حد تحويل الأمر بِرُمته إلى المؤتمر الدستوري، فما هكذا قامت هذه الاتفاقات التي أقرت إلغاء القوانين ومن ثمًّ الذهاب للمؤتمر. أما الحزب الشيوعي السوداني، أول المنادين بالدولة العلمانية في التاريخ السياسي للسودان، فقد كان من الطبيعي أن يكون هو المبادر بإلغاء هذه القوانين. أم هل اكتفى الحزب بتوقيع سكرتارية تجمع المهنيين، المحسوبة على الحزب، مع بيان جوبا السياسي مع الحركة الشعبية شمال، تحت قيادة الفريق عبد العزيز الحلو؟


المؤتمر الدستوري وحقوق المواطنة

من جهة أخرى، يبدو أن أغلبية قوى الحرية والتغيير المدنية، والتي عبر عنها وفد الحكومة الانتقالية في مفاوضات السلام في جوبا، ترى أن موضوع الدين والدولة، بما في ذلك القوانين، يُمثلُّ قضية قومية ينبغي ترحيل الحوار حولها إلى مكانها الطبيعي في المؤتمر الدستوري المُزمع. وفي رسالتي المنشورة إلى السيد رئيس مجلس الوزراء، في 3 سبتمبر 2019، ذكرتَّ له أن تحدي السلام، القضية العالقة أبداً، "أضحى الآن هذه المرة أكثر تعقيدا كونه جاء مرادفا لعملية تحول سياسي واجتماعي عميق لم يتوفر لثورتي أكتوبر وأبريل، وذلك على أنقاض نظام استبدادي دام ثلاثين عاما، تبدلت فيه الأوضاع الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة في أعقاب ترتيبات اتفاقية السلام الشامل التي أفضت إلى انقسام البلاد. وهكذا، فإن ما تبع انفصال الجنوب من ثورات مسلحة في جنوب البلاد وغربها وشرقها (الجنوب الجديد) يفرض نفس الأجندة التي تضمّنتها الاتفاقية من قضايا تتصل بإعادة هيكلة الدولة السودانية بما في ذلك ترتيبات أمنية شاملة نحو بناء جيش وطني كامل الدسم، والوحدة الطوعية وفصل الدين عن الدولة. ما سيتم طرحه على طاولة مفاوضات السلام هي نفس قضايا المؤتمر الدستوري التي ظل مطلبا لقوى المقاومة المسلحة تتمسك بقيامه منذ أن دعا له جون قرنق في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي" (الواثق كمير، إلى رئيس الوزراء: كلمة المرور للعبور!، سودانايل، 5 سبتمبر 2019).

وللمفارقة، توافقت رؤية الحكومة الانتقالية مع موقف حركات الكفاح المسلح، المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية (الجبهتان)، على تأجيل النظر في موضوع الدين والدولة، والتشريعات المضمنة في القانون الجنائي لعام 1991. لم يستثن هذا الاتفاق الحركة الشعبية شمال، تحت قيادة الفريق مالك عقار، التى كان إلغاء قوانين سبتمبر على رأس قائمة أجندة الحركة الأُم، منذ أن فرضها الرئيس جعفر نميري رغم أنف الشعب السوداني في سبتمبر 1983. ومع ذلك، أزعُمُّ أن قيادات وقواعد هذه الحركات تقف قلباً وقالباً مع إلغاء هذه القوانين، ولا أجد تفسيراً لغياب طلب الإلغاء هذا عن أجندة التفاوض إلا الغيرة السياسية والتوجس من إضافة رصيد للخصم السياسي الذي يضع هذا المطلب كشرط للمشاركة في العملية السياسية. وهذا، في رأيي، إن صحًّ، لأمرٍّ مُحزنٍّ. وكما تعرضت له بالسرد، في الصفحات السابقة من المقال، فأصلاً فكرة المؤتمر الدستوري منذ أن نادى بها جون قرنق في الربع الأول من عام 1985، وتبناها تجمع المعارضة في كوكادام ولاحقاً في أسمرا، كانت تهدف إلى البت في، وحسم كافة القضايا القومية الدستورية، ومن بينها العلاقة بين الدين والدولة. ولكن، إطلاقاً لم تكن مسألة إلغاء قوانين سبتمبر ضمن تلك القضايا، بعد أن تم حسمها في كل محطات اتفاقيات قوى التجمع الوطني الديمقراطي، من جهة، وأصبحت بنداً أساساً في أجندة التفاوض للحركة الشعبية، قادت إلى اتفاق الدولة الواحدة بنظامين، وإلى انفصال الجنوب في نهاية المطاف، من جهة أخرى. قضية الدين والدولة، فيما يتعلق بقوانين سبتمبر، ضمن قضايا جوهرية أخرى، يجب حسمها الآن ولا يمكن أن تُرحل للمؤتمر الدستوري، الذي ينبغي أن يكون بمثابة تتويج للجهد الدي يُبذلُّ قبل انعقاده.

وبجانب وضع العصي في دواليب عملية السلام، فإن الإبقاء على هذه القوانين يتناقض مع الوثيقة الدستورية الانتقالية، القانون الأعلى للبلاد، كما أنها تتعارض مع مفهومي "المدنية" و"حقوق المواطنة"، الشعاران الرئيسان للثورة والثوار. ويتضح هذا التناقض بصورة سافرة: في "ديباجة" الوثيقة التي تعترف بالتنوع وتركز على المواطنة أساساً للحقوق والواجبات، وتعلي قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، والمادة 4 (الخاصة بطبيعة الدولة والسيادة)، والمادة 8 (2) (مهام الفترة الانتقالية) والخاصة بإلغاء كل القوانين التي تميز بين للمواطنين، ونص المادة 47 من وثيقة الحقوق (المساواة أمام القانون دون تمييز)، والمادة 42 من الوثيقة والتي تعتبر كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان، والمُصادق عليها من قبل جمهورية السودان، جزءاً لا يتجزأ من الوثيقة، والمادة 51 التي تحظر التعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية اللإنسانية او المُهينة أو الحاطة بالكرامة الإنسانية. ففي دولة المواطنة التي تنادي بها الثورة لا يجوز أن يحرم الإنتماء الديني، بغض النظر عن الأغلبية والأقلية، المواطن من إمكانية المنافسة بمطلق الحرية وعلى قدم المساواة، على كل المواقع السيادية العليا فى البلاد وبدون أي قيود دستورية.
إذا شعر السودانيون، غير المسلمين في كل أرجاء البلاد، واقتنعوا تماما بامكانية المنافسة بمطلق الحرية وعلى قدم المساواة، على كل المواقع السيادية العليا في البلاد وبدون أى قيود دستورية، أفلا يمثل الإصرار على تطبيق قوانين ذات أصول دينية في شمال السودان عائقاً ونوعاً من الموانع المؤسسية والثقافية والإجتماعية، الذي يصبح معه الحق الدستوري لغير المسلمين في المنافسة على هذه المواقع، خصوصاً منصب رئيس الجمهورية، مجرد مظهر خادع وأمنية طيبة؟ ومن ناحية أخرى، ألا يتناقض إخضاع السودانيين غير المسلمين إلى أحكام الشريعة الإسلامية على المستوى القومي، بينما يتم تطبيق قوانين مدنية في بعض الولايات، بموجب مقترح مطروح لتفادي إلغاء القوانين اتحادياً، مع مبدأ مساواة مواطني البلد الواحد أمام القانون؟ هل من المُساواة أمام القضاء في شيء أن يتمُّ تطبيق قوانين غير إسلامية على المواطن من جنوب كردفان أو النيل الأزرق، بينما يُحاكم بقوانين سبتمبر وتُطبق ُّعليه العقوبات الحدية حينما يكون في الخرطوم أو في دنقلا؟ جدير بالذكر، أن إشارة أصحاب هذا الرأي إلى فيدرالية القوانين في شمال أمريكا لا علاقة له بواقعنا، فسلطات الولايات الأمريكية أو المُقاطعات الكندية في التشريع المحلي لا يميز بين مواطني أي ولاية أو مُقاطعة في التنافس بنفس القدر من المساواة في الوصول إلى رئاسة الحكومة الفدرالية، بينما التشريع على أساس الدين يقلل من فرصه إن لم يبعد تماما غير المسلمين من المنصب الأول في البلاد، فكيف للمواطن غير المسلم أن يكون رئيساً لدولة مدنية تحاكم مواطنيها على أساس تشريعات لدين مواطنين آخريًّن؟ ثم كيف لقاضٍّ غير مسلم، وصل لمنصبه بمبدأ حقوق المواطنة المتساوية، أن يجلس على منصة القضاء ليحاكم المواطنين بالشريعة الإسلامية؟ بذلك، أفلم تمنحه الحق باليد اليمنى وتنزعه عنه باليد اليسرى. وفوق ذلك كله، ألا يمثل هذا التمييز، القائم على دين المواطن، إنتقاصاً بيّنا لحقوق المواطنة وإخلالاً بتكامل عناصر وحدة البلاد، التي لا تقبل الإجتزاء أو الإختزال. فالإصرار على تطبيق قوانين ذات أصول دينية تُمثلُ عائقاً ونوعاً من الموانع المؤسسية والثقافية والإجتماعية، الذي يصبح معه الحق الدستوري لغير المسلمين في المنافسة على هذه المواقع، خصوصاً منصب رئيس الجمهورية، مجرد مظهر خادع وأمنية طيبة.

ومن جانبٍ آخر، فمن المهم الاستهداء بتجارب الآخرين من الدول الإسلامية (مصر، تركيا، ماليزيا، إندونيسيا، سنغافورا) في الاتفاق على صيغة تكفل المساواة في حقوق المواطنة، وفي الوقوف أمام القضاء المدني، بغض النظر عن المعتقد الديني للفرد؟ لقد نجحت، على سبيل المثال، الجارة مصر في تحقيق التوازن بين حقوق المواطنة، وتطلعات الأغلبية المسلمة في البلاد. فالتعديلات الدستورية التي أجازها مجلس الشعب المصري في مارس 2007، أبقت على المادة (2) المثيرة للجدل في الدستور المصري، والتي تجعل من "مبادئ التشريع الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع". وبرغم ما أثارته هذه المادة من شكوك وتخوف وسط الأقباط المصريين، إلا أنها وجدت قبولاً لدى قطاعات واسعة من القوى السياسية المصرية، كما لم تعترض عليها الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، طالما ظل كل المصريين، سواء كانوا مسلمين أم أقباطاً، يخضعون لنفس القوانين المدنية الموحدة للبلاد، فيما عدا تلك المتعلقة بالأحوال الشخصية. وفى لبنان، حيث تقوم السياسة على المحاصصة الدينية-الطائفية، يحتكم كل المواطنين اللبنانيين إلى القانون المدني، فيما عدا قضايا الأحوال الشخصية. وهاهو حزب إسلامى عتيق، حزب العدالة والتنمية التركي، يكتسح الانتخابات التركية الأخيرة، وفق دستور يفصل بين الدين والدولة وجيش مكلف دستوريا بإنفاذ العلمانية، بدون أن يتشكك أحد في، أو ينتقص من إسلاميته! وتكفي نظرة واحدة لما هو عليه الحال من حولنا في العالمين الإسلامي والعربي، لتُكشِفُّ أن بضع دول في عدد أصابع اليد تقوم بتطبيق أحكام الشريعة في القانون الجنائي.

تسببت هذه القوانين في إزكاء وتأجيج نار الحرب بالبلاد، وأفضت إلى إنشطارها، والآن تحول دون التوصل إلى سلام، فلماذا، ولمصلحة من تبقي عليها حكومة الثورة؟

 

إلى الإسلاميين: لماذا نُبقي على قوانين سبتمبر؟
ولو ذكرت في مقدمة المقال بأني لن أتعرض للجدل الفقهي، ولكني سأتعرضُّ إلى دفوعات ومواقف مجموعات الإسلاميين المتعددة، كُلٍّ بحكم المدرسة الفقهية التي يتبعها، من قضية إلغاء التشريعات الدينية. الحقيقة، أنه ليس كل الإسلاميين على قلب رجل واحد من هذه القوانين، بل أن بعضهم يؤيد بشدة العودة الى القانون الجنائي المدني. فقد أجريت بواسطة صديق ليًّ من الإسلاميين استبياناً في شكل سؤال طرحناه على عينة محدودة: ما هو رأيك في الإبقاء على، أو إلغاء قوانين الشريعة، فكانت الإجابات متنوعة، إن لم تكن متباينة، وتُعبِرُّ عن مذاهب ومناهج مختلفة. فبطبيعة الحال، من جهة، هناك من يمكن أن نصفهم بالتيار "الصمدي" أو "العقدي"، أو السلفيون عموما، من الملتزمين بأن الدين عقيدة ودولة، لا ينفصمان عن بعضهما البعض. وبذلك، فحدود الله ثابتة بدليل القرآن والسنة، وهي جزء لا يتجزأ من التشريع الإسلامي، من ناحية قانونية (شرعية) إسلامية، وعلى المجتمع المسلم تطبيقها كاملة غير معدلة أو منقوصة. باختصار، تشدد قيادة هذا التيار على أن الحدود الشرعية من عند الله تعالى لخير الأمة في الدنيا والآخرة، ولا مجال حتى للنقاش حول هذا الأمر. ربما، عبرت عن هذا التيار المجموعات التّي خرجت للتظاهر في 17 يوليو، في ما أسموه بجمعة الغضب، بعد صدور التعديلات الطفيفة على بعض مواد القانون الجنائي لعام 1991 (التي للمفارقة يرى بعض الإسلاميين أن هذه التعديلات أكثرُّ مقاربةُّ للشريعة من القوانين الأولى)، تحت شعارات: لا تلاعب بالدين ولتحريف حدود الله، وأن الإسلام خط أحمر دونه الدماء والأرواح. يميل دعاة هذا التوجه لمحاولات زرع تخوف غير مبرر بإشاعة أن إلغاء قوانين الشريعة هو بمثابة دعوة ضد العقيدة والدين وستفضي إلى غضب شعبي يهزُّ أركان الحكم الانتقالي. هذا ما توقعته نفس هذه الجماعة في أعقاب عودة مولانا الميرغني من أديس أبابا، في نوفمبر 1988، بعد توقيع اتفاق مع جون قرنق بتجميد قوانين سبتمبر، ولكن خيّب ظنهم وكذبَّ أمنياتهم الاستقبال الجماهيري غير المسبوق لمولانا الميرغني في مطار الخرطوم، والذي أغرى البعض لمحاولة اغتياله لاحقاً. قد يقول قائل أن الوضع الآن مختلف، فذلك الاستقبال وقع في وقت لم يتشرب فيه بعد جيل الشباب الحالي بالقيم الإسلامية وانحاز لتشريعات الدين، وهذا منطق هزمته ثورة هذا الجيل كله التي لفظت المشروع الحضاري وحكم الإسلاميين الإنقاذيين برُمته.

وكما ذكرت، بالطبع لن أخوض في جدلٍّ فقهي، وأكتب هذا المقال بصفتي مواطن وليس لكوني مُسلِماً، وكل ردي أن هذا ليس بموضوع المقال إنما جوهر سؤالي هو: من هو، أو ما هي الجهة، التي تملك الحق في تطبيق حدود الله وشرعه، وما مصدر أمر تكليفها بهذه المهمة؟ في رأيّي، إن الذين يعاودهم الحنين لمحطة الدستور الإسلامي، إنما يتصرفون من منطلق أن الدولة السودانية الراهنة هي دولة دينية، مما يدخلهم في مغالطة بشأن فكرة أثبتت التجارب عدم جدواها في مجتمعات متعددة الأديان، لا تفيد أصحابها ولن تفيد السودان في شئ. فإن سيطرة الدولة أو هيمنة أجهزتها الرسمية على الدين، إعتقاداً وممارسةً وطقوساً ومؤسسات، حسب تجارب السودان، لم تُقدمُّ للدين شئياً، بل أصبحت وسيلة لتسويغ القهر والاضطهاد السياسي باسم الدين، على أن عدم الإعتراف بالدولة الدينية لا ينكر حق أي مجموعة دينية في أن تعبر عن أفكارها سياسياً، وأن تنشئ أحزاباً لذلك تعكس عبرها أفكارها، طالما احترمت هذه الأفكار التعدد السياسي، وطالما لم تلجأ إلى مصادرة الحقوق الأساسية للآخرين، وطالما نأت بنفسها عن إحتكار الدين من أجل إضفاء طابع مقدس على الممارسات السياسية، وكثير منها لا تبيحها الأديان نفسها.

يتفرع من هذا المنظور موقفُّ آخر مفاده أن إلغاء قوانين سبتمبر سيتسبب في إفساد وفساد المجتمع، بإباحته للخمور والأفعال الفاضحة والرذيلة. وهذا حديث ممجوج لا سند له، وتُكذبه الحقائق في أرض الواقع المعاش للمُواطنين السودانيين المسلمين. فمقارنة بسيطة للأوضاع الاجتماعية والأخلاقية، في كل مناحي الحياة، وخاصة بعيون رجل سبعيني مثلي عاصر وشاهد، تُكشف كيف تبدلت الأحوال إلى سؤٍّ حتى أصبح السودانيون أنفسهم يتندرون على حالهم. أقصد التوضيح بأن القانون الجنائي المدني لم يٌفسدُّ مُطلقاً الحياة في السودان، ولم يمس الإسلام كدين ولم تستهن بقيمة ومبادئه، كما لم يتحول مسلمو السودان، في ظل قوانين الشريعة، إلى مسلمين أرفعُّ شأناً أو أكثرُّ إسلاماً. إنما أقول لمن يدعي بأن هذا هو شرع الله لا يقبل الحياد تجاهه، وأن الدعوة لالغاء قوانين سبتمبر تناقض الإسلام في بلد أغلبيته مسلمة، أفلم يكن السودان بلداً مسلماً أو أن أهله لم يكنوا بمسلمين قبل 13 سبتمبر 1983؟ وهل نادى مسلمو السودان طوعياً وشعبياً بهذه التشريعات، ولو حتى عن طريق برلمان منتخب؟

وثم حجة أخرى للإسلاميين المنافحين للإبقاء على القوانين، أنها لن تُلغى إلا بالإرادة الشعبية الحرة عن طريق برلمان منتخب خلال عملية حرة ونزيهة! فلماذا إذن؟ فابتداءً، هل جاءت هذه التشريعات عبر هذا الطريق، أفلم يُعلنُّ نميري نفسه في "تجمع للسودانيين في زيارة إلى أبي ظبي في ضيافة الشيخ زايد رحمه الله بأن "الشريعة دي خازوق غزيته أنا ولن يزيله أحدُّ غيري". كثيرون من أهل السودان أصبحوا في حيرة من ذلك الإعلان عن الشريعة الخازوق، فالخازوق هو عمودُّ مُدبب الرأس كان يوضع في دُبر المُذنِب ليخرج من أعلاه عقاباً له. أوترون معشر المسلمين ما الذي فعل بكم نميري، وبِمن بايعه منكم من الإنس والجن؟" (منصور 2018، نفس المصدر، الجزء الثالث، ص198). وأيضاً، قد يقول أحد فلتخضع القضية إلى استفتاء شعبي، فهل هي جاءت عن طريق استفتاء؟ وهل تستفتى الشعوب في قوانين أم في دستور يضمن حقوق المواطنة المتساوية؟ ويضيف هؤلاء الإسلاميين أن الدعوة إلى العودة لقانون 1974 تتناقض مع حجة الداعين لها، إذ أن هذا القانون هو نفسه قانون نميري الحاكم المستبد. وهذه قراءة غير صحيحة، فالعودة إلى قوانين 1974 ليس مقصود بها القانون في حد ذاته، بل المعني هو الرجوع إلى التشريعات الجنائية والعقوبات المدنية، كما أننا بذلك نعود لإرث ممتد من التشريعات والقوانين، مع توفر المراجع والتجارب والفطاحلة من أساتذة القانون والفقه الدستوري، وعلى استعداد لإعداد مسودة قانون جنائي مدني جديد يُرفدُّ أحكامه هذا الإرث. بالعكس، فإن المنهج والنهج الصحيحان يُمليانِّ على حكومة الانتقال، بآليتها التشريعية المتوفرة، بحكم الوثيقة الدستورية، إلغاء قوانين سنها نظام جائر ومن ثم تقرر الحكومة المنتخبة إن رغِّبت، وفقا للإرادة الشعبية الدستورية، في التشريع لهكذا قوانين.

ومن جهة أخرى، فهنالك موقفان آخران، أولهما من داخل المؤسسة الفقهية التقليدية، وثانيهما مُؤسسُّ علي الحداثة الانسانية، يتميزان بالمرونة في النظر إلى موضوع إلغاء قوانين الشريعة، خاصة الحدود، وأتباعهما لا يعترضون على إلغائها.
يرتكز الموقف الأول علي مؤسسة الفقه ويُجددُّ في إطارها، وضمت قياداته رواد النهضة والتجديد في القرن التاسع عشر، أمثال محمد عبده ورشيد رضا، ثم الجيل التالي أمثال محمد أبو زهرة وعبد الرزّاق السنهوري، إلى مجددي القرن العشرين أمثال آية الله الخميني وحسن الترابي وراشد الغنوشي ومحمد الغزالي ومحمد سليم العوا. كل هؤلاء وغيرهم تعاملوا مع قضية الحدود الشرعية باعتبارها موضوع مفتوح لاجتهاد واسع، ومن ذلك رفضهم جميعاً لحد الردة باعتبار الآيات الكثيرة المتناصرة التي تقر بألا إكراه في الدين واجماعهم على بطلان الرجم، ثم تحفظهم كلهم على المطابقة بين ربا النسيئة وربا الفضل وهما الصيغتان المعروفتان في الجاهلية وبين الفوائد المصرفية والقروض الاقليمية والدولية. كما تكاد جميع الآراء الفقهية القديمة والمحدثة أن تكون متحفظةً علي حد السرقة المعروف، ولا تقره إلا من حرز، أي السرقة التي قد تتعدي إلى الاذي لجسم الانسان اذا قاوم السارق. فمثلاً، كان الخميني يعِدُ السارق ضحيةً يحتاج لتأهيل تربوي، فلم تشهد إيران خلال أربعين عاماً أي تطبيق لحد القطع في سارق ثبتت التهمة عليه، إضافة لتحفظهم جميعا علي تطبيق الحد علي المعتدين على المال العام بسبب شبهة حق للسارق أو المختلس فيه، فهو مال الأمة وهو بعض منها. أما حد الخمر، فحتّى الذين اعتبروها جريمة أقروا بأن عقوبتها تعزيرية يقدرها القاضي، ومن ذلك إقرار حسن الترابي أن للقاضي أن يستبدل الجلد بالسجن في تعديل القانون الجنائي في عام 1978.

أما الموقف الثاني، فيعتبر كل الحدود وآيات الأحكام تاريخية، حتمها الظرف الاجتماعي الاقتصادي، بما في ذلك أحكام الوصية والإرث والرضاعة والرق والأحكام المعروفة لدى الفقهاء بالحدود، رغم أن القرآن لم يطلق وصف حدود إلا في أحكام وقضايا الأسرة. في رأي هذه المدرسة، أن القرآن لم يبتدع أي حكم ابتداءً، بل كلها سوابق من أعراف الجاهلية سواء أُجري عليها تعديلاً جوهريا أو غير جوهري، أو هي أحكام توراتية سبق إليها أهل الكتاب أو من قانون حمورابي أو من القانون الروماني. إن القرآن يوافق في أحكامه نظرية القانون العام، وهي عدم ثبات القوانين لعدم ثبات المجتمعات الإنسانية، بل هي متحولة متطورة. يتبّنى هذا الموقف كل مُفكِّري تيار الحداثة في الدراسات الاسلامية ومنهم محمد اركون ونصر حامد ابوزيد وعبدالمجيد الشرفي ومحمد عابد الجابري والمستشار عبد الجواد ياسين صاحب دراسة الدين والتدين.

ومن متابعاتي وحوارتي مع نُخبةٍّ من الإسلاميين، وما كشفت عنه نتائج الاستبيان النوعي، الذي قمنا به، تبينَّ لي أن عدداً مُقدراً من قيادات الرأي وسطهم، من جهة، وكمُّ مهولُّ من شباب الحركة الإسلاميه من جهة أخرى، اجتمعوا على ضرورة الاندياح المدني وتكريس الحريات، قبل السلطة والدولة. كما تبينَّ ليَّ أن شباب الإسلاميين قد تجاوزوا حتى مدرسة، زعيم الحركة الإسلامية، د. الترابي، القائمة على الاجتهاد الواسع، فانتقلوا إلى مدرسة الحداثة الإنسانية المؤسسة على أن القرآن يوافق في أحكامه نظرية القانون العام. فهؤلاء يؤمنون بأن الجانب الأخلاقي للدين يُحرجُّ الحاكم المستبد فيتجاوزه ويُعوض عنه بالركون إلى الجانب القانوني، الذي يمكن التلاعب فيه بإقامة الحد على الضعيف دون الشريف. ذلك، بينما في نفس الوقت يتمكن من قهر الشعب وفرض الأمن بقانون الطوارئ وقمع المخالفين والخصوم، باستخدام حد الردة وحد الحرابة، على سبيل المثال. فأصحاب المراجعات الجادة وشباب الإسلاميين ينطلقون من واقع الدراسة التجريبية الإمبريقية لتجربة الإسلاميين في الحُكم، التي تؤكد القدر الهائل من التناقض والاضطراب الذي شاب التجارب المعاصرة التي حاولت تطبيق الحدود وفقاً لاجتهاد الاسلام التاريخي حتّى العصر العباسي. ومن ذلك أيضاً، تجربة نميري 1983 وتجربة الإنقاذ 1989 _2019 والتي أقرت الحدود في القانون وعجزت عن تطبيقها ما عدا عام ونصف من حكم النميري، كان عدد الأيادي التي بُتِرت أضعاف ما قطع في كل التاريخ الاسلامي. مع ذلك، للمفارقة، الإنقاذ ذات الصوت الإسلامي الأعلى لم تستطع تطبيقها خوفاً من ردود الفعل الدولية. كما تشير الاحصاءات والدراسات كافة الي فشل قانون 1991 ومنع بيع الخمور في محاصرة ظاهرة الخمر بل تضاعفها، مع تزايُد تعاطي أخطر أنواع المُخدِرات وسط الشباب. إضافةً إلى تجلي التناقض والنفاق في اعتماد الفوائد في معاملات السودان مع المؤسسات المالية وإقرار ذلك من البرلمان رغم ترداد جماعة المؤتمر الشعبي لآيات الحرب من الله والرسول على من يتعامل بالربا. فقد سبق لزعيم المؤتمر الشعبي نفسه إقرارها لنظام نميري حتّى لا يقع اضطراب في نظام الدولة المالي. اقتصرت القوى السياسية الإسلامية مفهوم الشريعة على الشق القانوني الجنائي، الذي بدوره انحصر في الحدود، كما اتخذوها شعاراً لاستقطاب وتعبئة الجماهير ولإحراج الأحزاب السياسية المنافسة، كما يحدث في الوقت الراهن. فبالرغم من أن إسلاميي الإنقاذ عجزوا عن تطبيق الحدود، خوفاً من الخارج، لكنهم أبقوا عليها اسماً ويستخدمونها الآن سلاحاً في المعركة السياسية ضد خصومهم، رُغم اقتناعهم باستحالة تطبيقها. وعلى الإسلامويين الإجابة على سؤال مُلح: طالما العقوبات الحدية مجمدة التطبيق، ليس باختيارهم بل بسبب الضغط الشعبي ضدها، فما جدوى وجودها في ديوان القوانين؟ أم هي مجرد لافتة لمخزن مهجور؟

وفي ظني، أن المراجعات الصادقة عند هذا القطاع من الإسلاميين، خاصة الشباب، بعد تجربة في الحكم امتدت لثلاثين عاماً، أصبحت سمة عامة بينهم ووسط الإسلاميين عموماً. ويبدو أن تجارب تركيا وتونس وماليزيا، وغيرها، قد تركت أثراً ملحوظاً، بما هزَّ أهل العقيدة والتفكير السلفي. وفي تقدير بعض الإسلاميين الشباب أنّ الذين ما زالوا على عهدهم القديم قد قلَّ عددهم، مما يُشيئُّ بأن ما نشهده من مدافعة شرسة عن الشريعة والحدود ما هي إلا مُزايدةُّ سياسية من الطراز الأول. وبهذا الفهم، فعلى أصحاب المراجعات وشباب الحركة الإسلامية السعي لبذل هذه الأفكار المناصرة لحقوق المواطنة، وإثراء الحوار حول قضية قوانين سبتمبر، وعلاقة الدين والدولة عموماً، والتصدي الفكري للجماعات التي لا تتحسبُّ لتداعيات هذه القضية على عملية البناء الوطني. هذه مسؤولية وطنية تقع على عاتق الإسلاميين أنفسهم للمساهمة الإيجابية والفاعلة في تخطي الخلاف المحتدم حول وضع التشريعات الدينية الراهنة، بما يوقف الحرب ويحقق السلام المستدام ووحدة البلاد. وعلى الإسلاميين قاطبة الشروع في إثارة "نقاش جاد في القضايا الحيوية التي لم تحسم بعد في العالم الإسلامي بأسره، وعلى رأسها قضية مواءمة الشريعة الإسلامية، طبقا للفهم السائد لها، مع مبادئ دستورية أساسية مثل المساواة بين المواطنين أمام القانون التي لا سبيل معها للتفريق بين المواطنين على أساس الدين أو الذكورة والأنوثة، ولقضية حرية الاعتقاد والدين، الأولوية للبحث ومحاولة الإجابة على الأسئلة الحقيقية" (أسامة عثمان، ماهو أبعد من غازي وعرمان، صحيفة الصحافة، 13 مايو 2009).

فالتحدي أمام الإسلاميين في السودان هو الإجابة عن إمكانية إقامة دولة إسلامية في إطار الدولة القومية (الوطنية) في عالم اليوم، وهو سؤال لم تجب عليه تجربة السودان أو غيرها حتى الآن. والتحدي الآخر أمام من يعتقدون من بينهم بضرورة تعميم أحكام الشريعة الإسلامية، هو أن عليهم أن يقروا بضرورة مواصلة ما انقطع من حوار بدأ منذ استقلال السودان عن جدوى تطبيق الأحكام الشرعية في القوانين في دولة متعددة الثقافات. وعليهم أن يقِروا بأن أحكام الشريعة التي طبقت في السودان حتى الآن، لم تأت لأن أغلبية الشعب قررت ذلك عن طريق البرلمان أو الاستفتاء، وغيره من وسائل إقرار الشرعية المعروفة، ولكنها فرضت فرضا وفقا للملابسات التي سردتها في متن هذا المقال. أو لا يتسآل الناس: لماذا تفرض قوانين الشريعة في ظل الحكومات العسكرية الانقلابية قهراً، بينما يتعثرُّ إقرارها بالطرق البرلمانية المعروفة؟ ولماذا تظل الشريعة في السودان لا تزال تبحث عن شرعية، طالما كانت هي خيار غالب أهل البلاد كما يقول الخطاب السياسي للإسلاميين؟ (أسامة عثمان 2009، نفس المصدر). من تناقضات هذا الخطاب لمنطق الإسلاميين نفسه، فهل عطلت التشريعات الدينية من نشؤ ونهوض حركة الأخوان المُسلمين في السودان منذ الثلث الثاني من القرن الماضي؟ وهل أوقفت القوانين الجنائية المدنية المد الإسلامي في مصر أو تركيا أو تونس أو الجزائر، وغيرها من الدول الإسلامية التي لا تُطبقُّ قوانين الشريعة؟ تبقى القول في النهاية، أن القوانين التي توصف بأنها إسلامية التي وُضعت في السودان، تعكس رؤية (الأفراد) للأحكام الشرعية والمدرسة الفقهية التي ينتمون إليها، وبطبيعة الحال، هذه الرؤى محل خلاف بين المسلمين أـنفسهم قبل غيرهم من غير المسلمين، وأمثلة ذلك معروفة ولا داعي للخوض فيها في هذا المقام.


خاتمة: فلنسمو فوق ما يُفرِّقنا!

بعد هذا الاستعراض المطول، لا أرى مسوغاً موضوعياً أو تبريراً مقنعاً للإبقاء على قوانين سبتمبر وأن تستغرق بلادنا قرابة الأربعة عقود في جدل ونزاع حولها، لدرجة إعلان الجهاد على مواطنين سودانيين، قدر الله أن ألا يكونوا مسلمين. هذه التشريعات لم تسبب إلا الاستقطاب السياسي والمجتمعي، وأزهقت روح زعيم ديني، شيخ سبعيني، صالح لم يُعرف عنه غير التقوى والاستقامة والنزاهة، ولم تُفض في نهاية الأمر إلا إلى إنشطار البلاد. الآن بعد أن تم اقتلاع نظام الإنقاذ، الذي أبقى على قوانين سبتمبر ووظفها لخدمة أجندته في الحفاظ على سلطته، بل زادها تعسفاً بعد دمجها في قوانين 1991، بثورة شعبية حدادي مدادي، مدعومة بتوافق مسبق بين القوى السياسية كافةً لإلغائها على إلغائها،، لم أعثُر خلال هذا الاستعراض على أسباب موضوعية، أو مصلحة وطنية خالصة، تُسوِغُّ الإبقاء عليها؟

إن علاقة الدين والدولة قضية دستورية محورية يشكل التوافق السياسي والمجتمعي حولها إحدى ركائز بناء دولة المواطنة السودانية. فلا شك أن السودان، بالرغم من ذهاب الجنوب بأغلبيته غير المسلمة، سيظل متنوعاً دينياً، بينما تتعدد مذاهب ومدارس المسلمين، مما يستدعي إعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة ومراجعتها، مع الاستفادة من تجارب الآخرين في التوفيق بين مصادر التشريع ومستحقات دولة المواطنة. مثل هذه المواضيع في العلاقة بين الدين والدولة، بجانب قضية الهوية الثقافية وشكل نظام الحكم، قد يكون المؤتمر الدستوري هو المكان المناسب للحوار حولها، أما إلغاء قوانين سبتمبر فلا أجد مُبرراً للإبقاء عليها في انتظار انعقاد المؤتمر. هذه القوانين صدرت بقرارٍّ سياسي قُحٍ، وبيد الحكومة والآلية التشريعية بحُكم الوثيقة الدستورية الانتقالية، سواء كان عن طريق اجتماع مُشتركٍّ لمجلسي السيادة والوزراء، أو المجلس التشريعي المُترقب، على أن يكون الأمر على رأس قائمة أجندته.

فإن تم الإعتراف بأن وحدة السودان يتهددها الخطر، مما أحدث اختراق في أسمرا بشأن العلاقة بين الدين والسياسة/الدولة، فما الذي يمنع القوى السياسية السودانية من التوصل إلى اختراق ثالث في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان؟ اختراق أخير للوصول إلى توافق على إلغاء قوانين سبتمبر تخرجنا من شرور الدعوة لتقرير المصير، ومن أي تهديد لوحدة البلاد، ويمثل نقلة جديدة في طريق التأسيس لدولة المواطنة. إن المعركة ضد هذه القوانين لن تقف عند حد الحركة الشعبية، بل حتى وإن أخمِدت الآن، فستنفجر مجدداً، عاجلاً أم آجلاً، وبأشكال مختلفة، مما ينتكسُّ بنهضة بلادنا، فهل نُهدِرُّ هذه الفرصة الأخيرة؟

وعلى شباب الثورة التي سقوها بدمائهم أن يدركوا أن شعار "مدنيااااوو" الذي يهتفون به لا يعني المدنية مقابل العسكرية، أو تعيين المدنيين مكان العسكريين، إنما يعني في جوهره إرساء دعائم دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. لن تكتمل أركان ثورة ديسمبر 2018، واسعة النطاق كماً ومضموناً، ولن تحدث فرقاً وتصنع نقلة نوعية حقيقة، لبناء هذه الدولة، في ظل تشريعات دينية فُرِضت بالجبروت ونشوة الاستبداد. وبالطبع، إن إلغاء قوانين سبتمبر ليس بالحل السحري لأزمات البلاد المعقدة ولكنه يمهد إلى نثر بذور دولة المواطنة السودانية القائمة على المساواة والحقوق والواجبات المتساوية لكل السودانيبن أمام القانون والقضاء.

 

نقلاً عن صحيفة الصيحة السودانية

 

آراء