القيادة الفكرية فى السودان
9 July, 2009
القيادة الفكرية فى السودان
بقلم: التيجانى يوسف بشير
mahmoud rizig morizig@hotmail.com
تقديم: محمود عثمان رزق
مقدمة:
لقد وعدت نفسى منذ زمن بعيد أن أعيد نشر هذا المقال القيّم الدسم الذى يناقش مشكلة الفكر والكتابة والكتّاب فى السودان وفاءا للفكر الذى يلزم أهله دائما وأبدا بمشاركة الآخرين فى ديمقراطية فريدة تنبذ أنانية المعرفة وتشرك الجميع فى ملكية التحف الأدبية و المقالات الفكرية والحقائق التاريخية النادرة. فمن منطلق هذه الإشتراكية الفكرية قمت بإعادة نشر هذا المقال و قد قدّمت له بهذه المقدمة داعيا غيرى للتمعن فى مفرداته وعباراته ومراميه علنا نتناوله جميعا بالنقاش الهادف والهادئ فيكون لنا فاتحة خير لتحديد معالم وأهداف وأصول الفكر السودانى إن كان له وجود أصلا، وإن لم يكن فبالجد والإجتهاد نشيّد أركانه وجدرانه. فقد عرفنا التيجانى شاعرا وقليل منا عرفه ناقدا ومفكرا، وليكن هذا المقال شاهدا على عبقرية ذلك الفتى الذي لم يتجاوز عمره 27 عاما، وكان هذا المقال من أواخر ما كتب!.
فقد حبت السماء التيجانى بقلم ندى، وفكر ثاقب، وعبارة سلسة، وموضوع مرتّب تقودك عباراته من الألف الى الياء فى غير ملل ولا ضجر من قراءة سطوره وإعادتها مرارا وتكرارا. موضوع يدغدغ فيك الأفكار ويحجب عنك الأسرار لتمشى فى درب السالكين عسى أن يفتح الله لك فتحا مبينا تزول به عنك كثافة الحجب ، فترى من لطائف الفكر ما يكشف لك جمال الوجود وجمال الخالق الذى أبدع العقل وجعله يدور فى فلك الخيال تدفعه رياح المعرفة لتتلاقح فيه الأفكار عند سدرة الوجود فيقف مع الشهود مندهشا حرا لا مكرها يشهد ويهتف ألا إله إلا هو، فتنعقد له حينئذ بيعة الخلافة الكبرى على الكون الفسيح على بصيرة وعلم. يا له من موضوع يعمل عمل العين التي نميّز بها الأقزام من العمالقة. و يا له من قلم ندى! ويا له من فكر ثاقب! ويا لها من شجاعة أدبية نقدية نادرة! تنبيه:. نشر هذا المقال بالعدد الأول من مجلة أم درمان بتاريخ 10-9/1936 وكل كلمة أو جملة ما بين قوسين هكذا ( ) هى إضافة من عندى لتسهيل عملية القراءة والفهم. يقول التيجانى: الا لست أريد بها القيادة الفكرية فى التاريخ وإن كان هنالك الأفراد الذين وضعوا فى الحياة أثرهم الذى يقود الحياة، وأعلنوا فى الأرض سلطانهم الذى يقهر الدهر. وخلقوا هذا التاريخ فهو عليهم وقف يشرد من ذكرهم فى الآفاق، وينشر من مبادئهم فى العالم، ويجدد من جهودهم فى الإصلاح، ويسير بهم الآناء ويستقيد بهم الدهر، فلا يفتر وهم فيه ولا يشح وهم عنده. ألا لست أريد بها هذا وإنما أعنى بها القيادة المحلية لهذا الفكر السوداني في حين لا الأمر عليه بواضح ولا المسلك لديه بمعروف. وهذه الحياة من حوله تستجد فى كل يوم أحوالا من التقلب وألوانا من الأوضاع يدفع بعضها بعضا الى ضرب من الحياة أشبه بالسحر وأدنى الى الخيال، فيه بهجة الفردوس واضطرام الجحيم وحركة العاصفة، وهو يقف من هذا كله موقف المأخوذ يقلب نظره الحائر على ألم الحرمان ان لم يكن له من يدفع به فى هذا الضرم الفكرى وقد صهر الأجناس على شتى أنواعها من الناس، واحترقت به الأمم التى تعود اليوم أشد صفاء فى العنصر على نسب بيننا وبينهم فى الحلف قريب، وانحدار كذلك من منفذ للوجود واحد .... هؤلاء الناس هم الذين قرروا فى الأرض جبروت الإنسان وانتصاره على قوى الكون الهائلة واغرابه فى صوغ الحياة الصوغ الذى عرف الفكر كيف يوجد به دنيا سحره ومضطرب اعاجيبه فهنا العلم يغزو ويفتح منتصراابدا مبدعا اليوم مفزعا غدا وقد عقد له اللواء واكتمل له السلطان وانحنت امامه الحياة خاشعة مطرقة ترقب ما يفاجأها به من فتح جديد، وهنا النظريات التى تصطدم وتتآلف، وتفترق وتلتقى، والمذاهب المحتربة المتضادة، والآراء المختلفة المتغايرة والنضال المستمر بين العلم والطبيعة وبين الفكر والدين وبين الباطل والحق.
والدنيا القائمة القاعدة التى تشهد من هذا كله ما يزحمها بالنشاط ويضرمها بالحركة على حين تحمل فى طرفها الآخر شعبا هو هذا، تهدهده رعشة الزلزلة فى الطرف الآخر فينام على ضور ويتهدم على فتور، فمن المسؤول عنه وما هى الوسائل المجدية فى استجماع أمر قيادته الفكرية عند من يحرصون ان يواجهوا به وجهة الحياة والنور.
من العجيب ألا يكون للمذاهب الفلسفية أو الأدبية على كثرتها أثر فى هذا البلد. والنضال الذى يحتدم ويستعر فى بطون المؤلفات وعند انصار رأى واشياع آخر، ودعاة مذهب واتباع آخر ، يصرخ بعيدا عن عالمنا هذا. وحتى الذين يقبسون لنفوسهم شيئا من هذا القبس الفكرى لم يوجد لديهم الإيمان القوى بأنّ الترويج بهذه المذاهب والاراء والنظريات يصح ان يتقدم بالحياة هنا خطوة واحدة. ولهذا فانك غير واجد عند أحدهم ايمانا صحيحا أو مناصرة حقيقية لما قرأ من مذاهب او شدا من أفكار.
لأنّ الواقع أنّ الذى يحيا هذه الحياة الفكرية يضرمه شوق عنيف الى الحديث عنها والدعاية لها بشتى الوسائل غير مبق جهدا فى سبيل تعميمها وسوق الناس اليها وبثها فى ارواحهم مؤمنا بقوة الحق الذى فيها، مطمئنا الى ما تحمل من خير ونور.
ولن تجد أيضا من يدعو أو يبشر بمذهب أدبى خاص يقتنع بضرورة الأخذ به ويكافح مخلصا فى الدفاع عنه والتعريف به والتحبيب اليه.
فهل معنى هذا أن ليس فى العالم فكر؟
وهل معنى هذا أن ليس في الوجود مذهب؟ أم هل معناه إنا أمة أكبر همها أن نحيا الحياة فى أخف أوضاعها فتلتفت بها الأيام ويلتوي عليها الدهر وكأن لم تتمتع أبدا بشعاع من نور العقل!.
الواقع أنّ السودان اليوم على رغم ما يروجون عنه من دعاية للفكر كاذبة ليس هو إلا بلدا لا سلطان للفكر فيه بحال وليس يألف –أن اتفق له من هذه الحياة (الفكرية) شي- إلا أخفها على العقل وأيسرها على النفس وإلا أطرافا من الفكر الذي لا يمكن إلا أن يدفع بها فى كل مجتمع يتألف من هذا المخلوق الناطق.
ولو كان هذا هو كل ما يصح أن يقوم به أمر الإنسان فإنّ الغرائز وحدها لكفيلة أن تسدّ مسده فلا حاجة لنا بفكر لا شأن له إلا أن نعرف به بسائط الوجود. وتلك أوفى خدمة يفرض على الفكر إرواؤها ليخدم بها الحياة هذه الخدمة الضئيلة التي تمسكها على أبسط الأنظمة حتى يكفل لها (أي للحياة) الإستمرار فى طريق الموت! وحياتنا الآن ليست بخير (بأكثر) من هذا فلا فكر كما قلنا يزحمها بالنشاط، ولا مذاهب ، ولا آراء، ولا حركة للعلم، ولا دماء من المعرفة، ولا قيادة في كل هذا تحاول أن تقدم لنا الغذاء (الفكري) الصالح لنندرج به في سبيل العقل الذي يمسك بطرفي الدنيا فيفرجها عن كنوز هي نصيب وحده وبها يملك من معاني الإنسانية أروع برهان على خلافته في الأرض.
وإذا كان لدينا من يؤمنون بوجود هذا الفكر الذي يخلق التاريخ وينضّر الحياة ويحقق السعادة ويخلّد الإنسان، فإنّهم لا يبشرون به ولا يدعون إليه حتى لقد ألفنا يوم كان لنا أن نعرف أنّ فى العالم فكرا هو غير هذا الذي نحمله على نسيان له، ونشقى به على تغاف عنه أن نقتنع بأنّا لم نخلق لمثل هذه الحياة (البسيطة)، وما تزال بنا هذه الإلفة حتى لتوشك أن تعود حقيقة لا مفيض من الوقوع لديها ما دام الواحد من هؤلاء المثقفين لا يطمع فى أكثر من أن يقود نفسه الى القراء ولن يفرضها (أى القراءة) عليهم وهم يجهلون كل شي عن مدى ما تأخذ الحياة الفكرية منه.
الحق أنّ المكلفين بقيادة الفكر فى هذا البلد قوم لا يقودون إلا أنفسهم الى الناس فى ألوان من الكتابات ليس لها من القيمة ما يهيئ لها النفوس ويستلفت لها النظر.
.
والكاتب إن لم يفن فى الحياة ويدن (يقترب) الى الأمة فيما يحمل لها من صور وآراء ويضع فيها نفوذه الشخصى وإيمانه وحريته ودم قلبه وآثار روحه فى صدق النبيين وإخلاص المجاهين قاصرا كل قواه على ان يثير فيها (أى فى الأمة) من الشؤون والأفكار ما هى مؤمنة به لا محالة، عاملة له من غير تردد، فإنّه (إن لم يفعل ما ذكرنا) لن يكون فى إنتاجه لها إلا منسيا أبدا مستنفذا جهده فى غير ما طائل من ذكرى أو أثر.
وتلك هى الحقيقة التى يقع تحتها كل كتّاب هذا البلد على قلة من نعنى باسم الكتّاب، وإنّ الواحد منا ليكتب كثيرا ولكن إن رجع الى كل ما كتب ليقيس مدى ما ترك من أثر فى تحويل الفكر أو توجيهه أو تلقيحه باللقاح الذى يقدر له أن يخلق فى نفوس قرائه ما كان يقصد به إليه، لم يلق إلا كتابات تطول وتقصر على محض كلام هو كل ما لا حاجة ببلدنا إليه، لأن أصحابه يزورونه على نفوسهم وختلقونه إختلاقا محاولين أن يصبحوا به من طبقة الكاتبين لا غير، هذا وإنّهم ليخطئون جدا فى محاولة الوصول الى لقب الكاتب أو المصلح أو المفكر من وراء هذه المحاولات ، وما هى بمحققة من ذلك شيئا إلا أن تنعكس دليلا على أنا نجهل طبيعة الفكر الذى يقود وخصائص الكاتب الذي يصلح (أن يكون مفكرا)، ونغرر بأنفسنا ونستخف بقرائنا ونخادعهم عن حقيقة ما نحمل في أنفسنا من خواء فلا نطلب إليهم أن يلتمسوا بأيديهم أثر الفكر الحي فيما عند غيرنا من حياة.ولو فعلنا هذا ونفضنا أيدينا عن الكتابة لأعنا هذا البلد على بلوغ ما يدفع عنه الكسل والفتور والموت الفكري الذي جنيناه عليه.
ولكن أفليس من طريق لأن نستخلص لنفوسنا القيادة الفكرية الصادقة التى تلهب عليه الحياة نارا عقلية يضرمها التعهد ويذكى من وقدتها الإنقطاع الى العمل فى إلهابها كلما خبت بتقديم الوقود وبذل الجهود.
أعتقد أن ذلك سهل ميسور إن استطعنا أن نستخدم الوسائل المجدية فى استجماع أمر هذه القيادجة، ولكن الصعوبة فى أنّ هذه الوسائل ليست باليسيرة الهينة حتى فى هذا البلد الذى يخيل الى الكثيرين أن خلو الجو فيه من الأفكار القوية معين على أن يبلغ الأنسان منه الى ما يريد من قيادة وتأثير. على أن الطور الذى تمر به بلادنا الآن يجعل الوصول الى قيادة فكرية يناصرها الجميع ويخلص لها الكل أمرا أعسر مما نتصور له من عسر ومطلبا أن يتحقق فإنما بعد عمل متواصل وجهاد وصبر شديدين –إذ أن المرحلة التى تقطعها بلادنا اليوم هى مرحلة الغرور الكاذب الذى يصاب به الجاهل فما يكون أشد عليه منه الوقوف به حيث هو يعطى نفسه من الثقة، ويسوغها من الكمال، وينتحل لها من الرشد ما يملؤه استخفافا بكل من يتقدم ليأخذ بيده مما يتردى فيه من ظلام.
وأى الناس ممن تلاقى وتعرف وتصادف من لا يرى أنّه غنى بمعارفه راض بوفرة نصيبه من الفكر، قانع بما حصل عليه من ثقافة لا مزيد عليها، مطمئن الى أن فى مكنته (إمكانه) وحده أن يقود البلد فى طريق الفكر حتى يزحم به مسالك الفلسفة والعلوم والآداب!!
وحتى الجهلاء من سواد الأمة يأنسون فى أعماقهم الى ثقة تتهم المفكرين وتتحدى المصلحين.
وهذه الحالة هى كل ما يجعل أمر القيادة فى السودان أسمى من ضعف أنّهم يعيشون فيه ويترددون فى سبيله ويختلفون الى مجامعه، كان مجرد وجودهم فيه يجعل من المستحيل أن يعترف بهم ويطمئن إليهم فى أمر من أمور الفكر.
ولكن مع هذا فلا بد لنا من قيادة فكرية محلية تدفع فينا الحياة وتبعث فينا القوة وتروضنا على حرية الفكر وتسلك بنا فى حياة أدبية رافهة الصور مملؤة بالسحر والجمال. ولا شك أنّ هذه القيادة لن تخلق خلقا ولن يقلدها عضو واحد من هؤلاء الناس، وإنّما هى عمل وكفاح ومنافحة وسلطان تكوّنه شتى عوامل (من عوامل) اليقظة الفكرية من فرد أو أفراد تميزوا بهذه اليقظة واتصلوا بالوجود اتصال فهم ومعرفة وتفسير، وأفرغوا فى رؤوسهم نفسية الأمة وعقلية الشعب كله وأخلصوا له الولاء وأصدقوه العمل.
ويومئذ يقودون الأمة مرغمة أو غير مرغمة إلى مثلهم وغاياتهم، ويصرفونها على مختلف الأوجه مؤثرة فيهم متأثرة بهم بالغين بها المرفأ الأمين من مرافئ الحياة التى يصنعها الفكر ويتأله فيها بسلطانه.
وإذن فلا مطمع فى هذه القيادة لمن لا يعرف أولا كيف يقرر سلطانه الفكرى ويدل على مواضع الحياة والقوة والقهر منه (أى من الفكر): فماذا أعددنا لهذا من وسائل وأساليب؟؟