المحبوب عبد السلام في دائرة الضُّو وخيوط الظلام: قراءة نقدية ونقضية
(5 من 12)
محمد وقيع الله
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]
يشدد الفكر التقدمي الذي يزعم المحبوب عبدالسلام انتماءه إليه على ضرورة التخلص من الولاءات الزائدة لأنماط القيادات (الكارزمية) والإتجاه نحو قبول الإجراءات الموضوعية التي يمليها العقل الخالص المجرد عن العواطف الغائمة والتزامات التبعية غير اللازمة لأشخاص القادة الطائفيين.
البيروقراطية أم الطائفية؟
وهذه هي خلاصة الإفادة القيمة التي جاء بها كبير مفكري علم الاجتماع الوضعيين المنطقيين العلامة الألماني ماكس فيبر الذي أكثر من الحديث في شجب التوجهات اللاعقلانية في العمل السياسي والإداري ونعى مبدأ التبعية العمياء باعتباره أثرا تالفا من مخلفات القرون التي خلت قبل عصر التنوير الأوروبي.
وقد قدم ماكس فيبر بديلا علميا لممارسات الأداء الطائفي.
هذا البديل هو النمط الموضوعي المؤسسي المتراكب الذي يعرف باسم البيروقراطية.
ولا تفهم البيروقراطية هنا بمعناها السوقي الذي يعني التعقيد المكتبي.
وإنما بمعناها الراشد الذي يعني التنظيم الإداري القانوني العقلاني الدقيق المحكم الذي شيدته البشرية لضمان تنفيذ أهداف الحياة الكبرى وتحقيق التقدم في مضمار الحضارة.
عندما كان رشيدا راشدا:
ولا أتردد، كما لا يتردد أكثر المراقبين المنصفين، في القول بأن الحركة الإسلامية السودانية، بقيادة حسن الترابي كانت تتبع مبدأ العمل التنظيمي، الإداري، العلمي، الدقيق التوصيف.
ولا تدع قائدا ذا شعبية أو خطيبا واعظا ذا تأثير عاطفي يستميلها إلى حيث يريد ولا تريد.
وكان زعيم الحركة الإسلامية السابق، حسن الترابي نفسه، على ما اتصف به من (كاريزما) باهرة، على اقتناع كبير بأفكار ماكس فيبر التي نوهنا بها قبل قليل.
بل كان هو أجرأ من جلبها إلى ساحة الحركة الإسلامية، وأقوى من غرسها بإصرار في ثقافة الحركة الإسلامية السودانية وأساليب أدائها، مخالفا بذلك جوانب السقم في الثقافة السودانية، وفي ثقافة الحركة الإسلامية العالمية، وكلتاهما معلولتان بعلل تقديس الزعامات الطائفية بإفراط.
وعندما أثمله الشَّمول:
بيد أن حسن الترابي ما عتّم بعد أن ثمل برحيق السلطة، أن لفظ قناعاته الفكرية القديمة بشأن القيادة الإدارية العقلانية (البيروقراطية)، وقدم نفسه زعيما طائفيا ملهما، صاحب كلمة نهائية فاصلة في شؤون الحركة الإسلامية السودانية كافة، بحسبانها إقطاعية طائفية مملوكة له، يديرها كيف يشاء، تماما كما كانت تدار دائرة المهدي وطائفة الأنصار وحزب الأمة.
وهذا ما لم يتسنى له .. وهيهات .. وهيهات!
إذ لم يكن رجال الصفوف الأولى من بواسل الحركة الإسلامية السودانية وأُباتها ممن يمكن أن تستخفهم (كاريزما) القيادة مهما أنار وهجها وأضاء الخافقين.
وما أسرع ما قام هؤلاء الكماة الصِّيد لكي يحموا مصالح الحركة الإسلامية ويثبتوا نهجها ويرفضوا استبداد زعيمها ويفندوا طغواه.
العاطفة أولا والعاطفة أخيرا:
وبهذا لم يبق مع حسن الترابي من رجالات الصفين الأول والثاني من شيوخ الحركة الإسلامية السودانية وشبابها إلا من غلبهم هوى التبعية الطائفية الغلاب وأسرتهم العاطفة الشخصية. ومن جملة هؤلاء وفي ذؤابتهم وطليعتهم الأستاذ المحبوب عبد السلام.
ففي جل فصول كتابه هذا الذي قدمه للدنيا شهادة زور ضد الإنقاذ يتجلى داء الطائفية العُقام تجليا صارخا حتى وسم الكتاب بميسمه الخاص ودل على أن صاحبه ما سطره إلا لكي يدفع به عن زعيمه (الملهم) ويهجم على خصومه الإنقاذيين ويتهجم عليهم بالباطل قبل الحق.
وبذلك انخلع الأستاذ المحبوب عبد السلام عن سمت الوضعية المنطقية ونضا أكسية علم الاجتماع التي ارتداها في الجامعة وحافظ على بهائها طوال عهده بالتورع عن الخوض في مماحكات السياسة وصغائرها.
وحتى إذا خاض في أوحال ذلك المستنقع الوخيم استحال إلى شخص آخر ذي تهور فادح غير محمود في الدفاع عن الزعيم (الملهم).
وهو تهور قل أن تجد له نظيرا إلا عند غلاة الباطنية وغلاة أتباع الحزبين الطائفيين السودانيين الذاويين.
أعراض الداء العقام:
وفي غضون اطلاعنا على كتابه هذا اعتنينا بتتبع أعراض هذا الداء المستشري فيه. وفيما يلي نعرض لنماذج منها تدل على ما سواها.
فبينما يؤكد جميع المراقبين المنصفين أن قبضة دولة الإنقاذ كانت قوية باطشة في أكثر سنوات عقدها الأول، ولما كان هؤلاء في جملتهم يعدون البطش العشوائي سبة كبرى لعد الإنقاذ الأول، فإن المحبوب يسارع ويجهد في تبرئة زعيمه من تلك التهمة مع أنه كان صاحب النصيب الأوفى فيها.
وأكثر من ذلك فإن المحبوب بولائه الطائفي يحاول أن يوحي أن شيخه كان ضد تلك الممارسات الباطشة، وأنه هو الذي كان يدعو إلى الحرية أو بعبارتهم الأثيرة (بسط الحرية).
ويشرح المحبوب عبد السلام ذلك فيقول إن :" خُلاصة الخلاف تجلَّت في قضيَّة (حاكِمِيَّة الحركة) أم (حُكم الدولة). وإذ حَرَصَ الأمينُ العام علي خُلوص الحاكِمِيَّة للحركة، تنحازُ إليه وتُعاضِده كثيرٌ من العناصر المدنيَّة في قيادة أجهزة الحركة الخاصة أو أذرعها الفكريَّة والإعلاميَّة، فقد أضاءت له سنوات التجربة الماضية نحو العام السابع في الدولة والحكم وأكَّدت ضرورة المُسارَعة نحو بَسْطِ الحريَّة وفتح المُشاركة الواسعة، وضبط معادلة قسمة السُلطة والثروة بين أنحاء السُّودان كافة، فقد شملت ذات الخُطة التي دفعت بالحركة كلها إلى العَلَن حزباً سياسياً باسم (المؤتمر الوطني) رُؤى انفتاح الوطن كله للحريَّة توالياً في التنظيم وإباحةً للتعبير، ولامركزيَّةً تَرُد أمر الولايات خارج المركز إلى أهلها ".
هذا ما قاله المحبوب ولكن خلاصة الخلاف لم تتجل كما زعم في قضيَّة (حاكِمِيَّة الحركة) أم (حُكم الدولة)، وإنما في قضية أخرى تحمل عنوان (حاكمية حسن الترابي) أم (حكم الإنقاذ).
هذا إذا اعترفنا بالواقع الماثل الذي يقول بأن الحركة الإسلامية السودانية قد ذابت في دولة الإنقاذ أو أن الإنقاذ أصبحت هي الحركة الإسلامية السودانية.
ولكن ما يخايل للمحبوب من الرأي هو أن الحركة الإسلامية السودانية قد ذابت وانحلت في شخص الترابي، أو أن الترابي قد أصبح هو الحركة الإسلامية السودانية.
وهذا هو عين الفهم الطائفي غير المستنير لتفسير تاريخ الحركة الإسلامية السودانية، وهو المنهج غير المعلن الذي استعان به المحبوب في تحريره لكتابه التطفيفي المختل المذموم.
أوشك أن يخطئ:
ومرة واحدة فقط كاد المحبوب أن ينزلق فيتهم الترابي بارتكاب خطأ ما وذلك عندما قال:" لقد كشفت لحظة الانتقال بما حملت من تكاليف مواضع الهشاشة والخلل في البناء، فالقيادة ظلَّت تختار وتقرِّر والقاعدة ظلَّت توافِقُ وتُقِرُّ، ولكنها غافلةٌ عما تموجُ به عضويَّتها من حركةٍ وانفعال يستشعرُ ظُلماً وتهميشاً ويطلُبُ العدل والإنصاف حتى داخل الصف التنظيمي ".
فها قد كاد المحبوب أن يتهم الترابي بممارسة الدكتاتورية في قيادته للحركة الإسلامية أو بممارسة التهميش (هذا اللفظ الاتهامي الذي يكثر من استهلاكه أفراد التنظيم العسكري للمؤتمر الشعبي ممثلا في فلول العدل والمساواة)!
ولكن المحبوب احتاط فلم يرم الترابي بهذه التهمة الغليظة وآثر أن يطلقها بصفة التعميم على القيادة.
وبالطبع فقد كان بإمكان المحبوب أن يتغافل عن إيراد هذه التهمة الغليظة كما تغافل عن إيراد اتهامات كثيرة غليظة يمكن أن توجه إلى حسن الترابي، ولكنه اضطر إلى النطق بهذا الاتهام بالذات إرضاء لعناصر العدل والمساواة التي تتهم الإسلاميين زورا بهذا الاتهام!
بيعة الفتنة الطائفية للترابي:
وعندما اندفع الترابي إلى اقتراف ممارسات طائفية سافرة كان ينهى عنها فيما مضي، جاء المحبوب ليتلاعب بمفردات اللغة عن حتى ينفي عن شيخه هذه الممارسة الشائنة.
كان ذلك عندما طفق الترابي في حمى الصراع الضروس على السلطة يستصفي لنفسه الولاء الشعبي ويتقبل البيعة لنفسه من المواطنين ومن الزعامات الصوفية والمحلية.
وفي تبرير هذا قال المحبوب:" وبدعوة أمين عام الحركة الإسلاميَّة الجماهير التي احتشدت لسماعه في أيُّما مركز حضري أو ريفي حلَّ فيه عبر سُوح السودان للتبايُع وليس أخذ البَيْعَة ".
وهكذا ظن المحبوب أنه وجد عذرا سهلا يعتذر به لشيخه.
وبدلا من أن يكف المحبوب عن هذا التلاعب غير المحبوب بألفاظ الضاد.
وبدلا من أن يثوب إلى خطة تقوى ورشد يعترف فيها بمخططات زعيمه لانتزاع القوة السياسية لنفسه أثناء الصراع.
أساسيات العلوم السياسية الإسلامية:
وبدلا من أن يستدعي لنا للموعظة الحسنة الحديث الذي رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وزهير بن حرب، حيث سمع كلاهما جريرا عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة الصائدي أنه قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: " إنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول في حديث طويل: ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ".
أو الحديث الذي رواه مسلم أيضا عن عثمان بن أبي شيبة عن يونس بن أبي يعفور عن أبيه عن عرفجة بن شريح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ".
أو الحديث الذي رواه مسلم أيضا عن وهب بن بقية الواسطي عن خالد بن عبد الله الطحان عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا بويع لخليفته فاقتلوا الآخر منهما ".
وعن الحديث الذي رواه مسلم أيضا عن محمد بن بشار عن محمد بن جعفر عن شعبة عن فرات القزاز عن أبي حازم أنه قال: سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في حديثه: إنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ".
بدلا من أن يستجلب لنا المحبوب عبد السلام عبرة هذه الأحاديث الصحيحة الشريفة، التي يعرفها معرفة أكيدة، بلا شك، ويعرف أنها من أساسيات العلوم السياسية الإسلامية، فإنه جاء يتمحل ويسوق تلاعبات لفظية بدافع المدافعة عن صنيع زعيمه الطائفي.
وإنما تجاهل الأستاذ المحبوب عبد السلام هذه الأحاديث الصريحة المتواترة
لأنها تنافي مبتغاه وتنفي مبتغى زعيمه في مرامي الصراع الذي قاده لشق الحركة الإسلامية السودانية.
وهو الصراع الذي خسره المؤتمر الشعبي، وخسره المبطلون جميعا، فسدروا من ثم متسارعين متضافرين في تلبية دواعي الإثم والعدوان ومعصية الرسول والسعي المحموم لتقويض دولة الإسلام في السودان.