المليشيا بديلٌ للدولة

 


 

 

دكتور الوليد آدم مادبو

اعتمد النظام العالمي المليشيات بديلا للجيوش النظامية حتى يتمكن من توظيف حيل التبادل التجاري التي جعلت الدولة الوطنية عاجزة عن أداء مهامها الدستورية ووجِلة لا تَقْدِر على تحمل أعبائِها الوظيفية.المليشيا ظاهرة عالمية فشت فُشُواً كبيراً بعد فشل تجربة الإصلاح الهيكلي وسياسات النيو-ليبرالية الاقتصادية التي أقعدت الدول النامية وأعجزتها عن تقديم الخدمات للمواطنين، فلم يجد أباطرة هذه الدول وحكامها الفاسدون بُدّاً من استخدام العنف وسيلة لقمع الاحتجاجات وإذا استدعى الأمر فلتشمل الخصخصة وظيفة الجيوش التي لم تعد تعبأ بمعاناة الجماهير بعد أن تم شراء ولائها، وارتأت أنّ من الأفضل لها التفرغ للتجارة فيما قد تتولى المليشيات دورها في قمع الحركات المناهضة للسلطة وقد تتوسع هي الأخرى في بسط نفوذها الاقتصادي ملبيةً احتياجات السوق العالمية من الموارد.

إن الطريقة التي أُدمجت بها الدولة في الاقتصاد العالمي هي التي تشجع، بل تقنن هذا الوضع الشائه من الممارسة ما لم تراجع دول الشمال أساليبها المعوجة والشرهة التي تعتمد الحصول على البضائع من دول الجنوب بِأبخس الأثمان، فإن نموذج آل (Weberian State) سيبقى غاية صعبة المنال. وكلما سعى المجتمع الدولي لتقويم ما فيه من اعوجاج معتمداً على منهجية الإصلاح الأمني (Security Sector Reform)، باتت الأجهزة الأمنية فاغرة فاهها لابتلاع هذه الموارد كما حدث في العراق والصومال وأفغانستان وجنوب السودان دون الوصول إلى الهدف المنشود لتقنين دور الدول كمؤسسة محتكرة للعنف.

كل الشواهد التاريخية التي أدرجها (Joshua Craze) في مقالته الرائعة (Rule by Militia) تشير إلى أن الدول كانت دوماً معتمدةً على المليشيات في الوصول إلى أغراض تلتمس فيها التنفيل في الإبانة عن رغبتها في الاستحواذ على الموارد بغض النظر عن التكلفة البشرية. وإذا ما اندلعت الحروب وانتُهكت المحارم وأُحرقت المنازل ونُزِّحَت الشعوب وشُرِّدت فاللائمة تقع على تلكم القبائل الهمجية المتوحشة التي اعتمدت على الاغارة واستضعاف الغير، وليس على النظام الرأسمالي العالمي الذي أثقل دول الجنوب بالديون فأقعدها عن أداء دورها في تطوير اقتصاداتها، وتوفير فرص عمل للشباب، وتشييد البنية التحتية، واكتناز القيمة المضافة من التصنيع التي تؤهلها للتغلب على هشاشة التكوين الاقتصادي والاجتماعي وتساعدها للاندماج تدريجياً في الاقتصاد العالمي. ظل الغرب الإمبريالي يَنُوسُ بين طرفي معادلة مستحيلة الحل: استبقاء دول العالم الثالث في خانة التبعية الاقتصادية عبر التقنين لآلية الديون (التي تسبب فيها الاستعمار إلى حد كبير) مع الإمعان في صد الهجرة للشباب الذي ركب عباب البحر الأبيض المتوسط عَلَّه يجد مهرباً من الفقر والحروب التي أصبح لزاماً عليه أن يكون وقوداً لها أو ميسراً بالعمل مع أحد لورداتها الذين ظلت أوروبا منذ القرن السابع عشر والثامن عشر تدفع لهم ثمن تهريب العبيد والعاج والذهب، فيما باتت اليوم تمولهم لقنص الشباب في الصحراء قبل أن يغامروا فيخوضوا لُجج البحر، الذي ابتلع منهم في العام الماضي وحده 25,000.

لا غرو أن قد شجع هذا المسرح العبثي على وجود دولة هزيلة لا تعبأ بمصير شعوبها أو تحس بالولاء لها قدر ما تخاف بطش قادة المليشيات الذين باتوا لا يكتفون بأداء دور الوسيط وقد صار بإمكانهم الاستئثار بالسلطة السياسية والعسكرية بالإضافة إلى النفوذ التجاري. إن الحديث عن الإصلاح الأمني (SSR)، ذاك المنوال الذي سارت القوى السياسية على مِطماره حِذفاراً هو مجرد عبث وسردية لا يقوم أودها إلا بكشف المنطق الخفي الذي تستبطنه المنظمات الدولية لصرف هذه الأموال دون أن يكون لها الأمانة أو الجرأة للإفصاح عن دور التجارة العالمية في شرعنة دور المليشيات التي لم يعد لأي قوى محلية أو عالمية قدرة على كسر شوكتها أو كف غائلتها. فقد أصبحت هي القوى المهيمنة في ليبيا واليمن والسودان وستظل ما لم تدرك المنظومة العالمية أهمية إجراء إصلاحات هيكلية وبنيوية عميقة على طبيعة الاقتصاد العالمي المسرف والغارق في حيل "الهنبتة" و"الشفشفة" (السَّرِقة بالدارجي السوداني) .

لقد اتَّخَذْت هذه المقالة مدخلاً للتطرق لمنطق العلاقات الذي بات أكثر خطورة من منطق الهَوِيات. لا أخالني أتبع منطقاً ماركسياً (Marxist) قدر استلهامي لمنطق المعجبين بالنظرية الشيوعية (Marxian)، فهنالك تداخل حيوي بين الاقتصاد والثقافة. لقد برع ماركس ونيتشه وفرويد في "بيان فصل المخادعة الذي تنطوي عليه ظواهر الاجتماعي والإنساني" (عبد الإله بلقزيز، الثقافة، المعرفة والإيديولوجيا، ص:77)، كل منهم على طريقته. وإذ بيَّن ماركس أن الإيديولوجيا تحدوها الرغبة في الحفاظ على بنية النظام الاجتماعي القائم، فقد كشف نيتشه أن الإيديولوجيا تسعى لإخفاء أوهام المستضعفين الثاوية في لا شعورهم بالغبن، أمّا فرويد فقد أقر بأن الإيديولوجيا هي السبيل المتخذ لإخفاء قانون اللذة الحاكم للسلوك الإنساني.

يتسم الفكر التاريخي بالكثير من سمات التفكير الإيديولوجي، لا سيما تلكم اللحظات التي تحتاجها الجماعات لاستحداث عملية يقصد منها طمس الحقيقة وحجبها من طريق الإيجاد بعكسها (نفس المصدر أعلاه، ص: 72). سنركز في الحالة السودانية على ماركس ونيتشه، ولا نزعم أن المجتمع السوداني يبرأ قليل بُرْءٍ من الحالة الفرويدية، لكنها طبيعة المقال التي تتطلب الاختصار.

لقد سعت الأحزاب الطائفية والعقائدية لاستخدام الدين كوسيلة لاكتساب المشروعية لكنها مشروعية أيديولوجية أنكرت الفاعلية الاجتماعية للسياسة التي من المفترض أن تقوم على المصالح وليس العقائد إذا جاز لنا استعارة تعبير الأستاذ محمد سبيلا، ومن هنا وفي هذه اللحظة بالذات يمكننا أن نعتبر أن السلطة قد حادت عن دورها في استخدام الإيديولوجية الدينية كرافعة لتهيئة النفوس وصهرها بقدر من "العنف اللطيف" ولجأت إلى القوة العارية من أي مبدأ أخلاقي كوسيلة لتطويع الإرادات وكسرها؛ الأمر الذي كانت له نتائج سالبة أثّرت على مسار البلاد، وقوضت أركان الدولة القومية وضربت النسيج الاجتماعي مما تسبب في وقوع وتناسل الحروب الأهلية.

لا محيص من استخدام العقلانية كوسيلة لاكتساب المشروعية التي قد لا تأتي مبؤورة في بؤرة واحدة، لكنها تتمفصل على نهج غرامشي الذي يبين أن المشروعية يمكن أن تأتي من طريق الهيمنة، أو لوي التوسير الذي يبين أن المشروعية يمكن أن تأتي عن طريق الأيديولوجيا، أو هابرماس وبول ريكور اللذين يبينان أن المشروعية يمكن أن تأتي من طريق العلم والتكنولوجيا. ليس تزيداً منا أن نقول إنّ النخب المركزية، من منظور سوسيولوجي، قد استخدمت الإيديولوجيا للتعبير عن نفسها والوعي بذاتها، فيما كان ذلك تعبيراً عن مصالحها المادية من وجه وتبريراً لنفوذها من وجه آخر. أمّا من مدخل ثقافي - أنثروبولوجي، فإنّ نخب الهامش قد استخدمت الإيديولوجيا كوسيلة للتعبير عن مجموع تراثها القومي الذي ربما حدد تصوراتها، تمثلاتها ونظرتها للعالم من حوله.

إن الإفاقة ستحدث على نحو غير موعىً به عندما تكتشف نخب الهامش أن شعار "دولة 56" هو مجر استعمال نيتشوي لأيديولوجيا المراد منها إيهام المستضعفين أن "الجلابة" في هذه الحالة هم عبارة عن "مصاصي دماء" تجرى في عروقهم أفانين الكذب والاستهبال والخداع. سيكتشف من يرث الدولة بعدهم أنه مجرد "كمبرادور" في نظام اقتصادي عالمي قائم على نظام السُّخرة ونظام سياسي قائم على شرعة التبعية. ما لم يتغير هذ الوضع فكلاهما "الجلابي" (التاجر الشمالي)و "الغرابي" (عامل السُّخرة من غرب السودان) سيكونان ضحايا سردية حددت إطار التمركز الذاتي دون ان تنتبه إلى طبيعة التفاعل بين الأنا والآخر أو دون أن تتخفف من ثقل نرجسيتها أو تَعْرَى من داء الانمياز الآني أو اللحظي.

تسكت سردية الحانقين عن كل ما في الآخر من موارد الثراء المعنوي والإرث التاريخي والشهامة والكرم، وعن كل ما في الأنا من مواطن العوار وما يعتور أفعالها من بشاعات تُقَبِّح من معيار العدل وقيم المدنية والأخلاق والحس الإنساني. ما لم نتحرر من هذه الثنائية الأبستمولوجية العقيمة فسنظل نستشكل كما يقول هيغل حقيقة الأنا التي تنسى أن الآخر هو صدر جديدها الذي به افتقرت أو اغتنت.

ختاماً، إن الصراع الدائر اليوم بين الغرابة والجلابة هو صراع بين نخبتين من قومية واحدة ما كان ينبغي لهما أن يتبادلا "التلاسن والتماحك والتفاخر بنفاسة المحتد وخالد المآثر" (التعبير مستعار من المصدر أعلاه، ص: 181)، ولا أن ينفلتا من عقالهما فيقتتلان دول الالتزام بقواعد الاشتباك، فالصراع بين الأخوين يجب أن يؤطر بسياج قيمي وأخلاقي. بيد أنّ هذا الانفلات مرده في نظري إلى ميراث الدولة الاستعمارية التي أسهمت سلباً في تكوين المجال السياسي الذي اعتمد معادلة صفرية لا تقصى الآخر فقط إنما أيضاً تسعى لإفنائه. سيما إذا كان التنافس على الموارد التي يجب ان تؤدّى للسوق العالمية كاملة غير منقوصة وبأبخس الاثمان.

يجب أن يتراجع العسكريون تدريجياً كي يفسحوا المجال للقوى الثورية الصاعدة والتي انتظمت أنحاء الريف كآفة بعد التأكد من اتخاذ المحاذير التي لا تسمح لأي جهة الاستفراد بالقرارات الاستراتيجية والمصيرية التي تهم الأمة وليس العصابة التي تمّ اقتلاعها بقوة العلي القدير. وحده فقط التكاتف المدني والتضامن الأهلي قادر على وضع شروط للتفاوض السوي مع المنظومة الدولية التي تضمن الإدماج العادل لدول العالم الثالث في منظومة التجارة العالمية. بغير ذلك سيظل العالم متراجعاً نحو الحروب الأهلية، بل ومستسلماً للداروينية الاجتماعية التي أصبحت أكبر مهدِّد للبيئة واستدامة الحياة على الكون، وكل ما ننشده من استقرار ونماء سيصير مجرد زفيرٍ وعواء.

auwaab@gmail.com

 

آراء