هنالك علاقة ما بين الرياضة والعبادة في ثقافات الشعوب، فكثير من العبادات تتم تسميتها بالرياضات الروحية والذهنية إضافة للتمرن الجسدي المصاحب لأداء بعض المناسك في جميع الأديان. وهناك في الإسلام أحكام إيقاف الأنشطة الرياضية عند التنادي للصلوات، فينتقل اللاعب بسهولة ومرونة من التركيز الذهني في الرياضة الاحترافية إلى خشوع الصلاة.
وقد تم استخدام كرة القدم بصورة تعبدية في الجزائر في الأربعينات، حين راودت أحرار الجزائر فكرة تجميع شباب المقاومة ضد المستعمر الفرنسي الغاصب، في ملاعب كرة القدم عبر إنشاء فرق تجْمَعهم.
وخوفا من مثل هذه السيناريوهات كان المستعمر يشترط إشراك فرنسي أو معتنق ديانة غير الإسلام في تشكيلة الأندية، كي يكون عيناً على أي تحركات واتصالات بين شباب المقاومة، ومع ذلك نجحوا في تأسيس فريق الشلف، الذي ذكرنا بالأمس خسارته الثلاثية النظيفة أمام مريخ السودان. كما كان فريق القرن الأهلي المصري هو نادي المقاومة ضد المستعمر، والذي خسر بدوره بالثلاثية النظيفة أمام هلال السودان !
وقامت كثير من الأندية العربية في افريقيا بواجبات تعبدية في الجهاد ضد الاستعمار الأوروبي.
وليس بعيدا عن الرياضة والعبادة، يحرص رواد الملاعب على دخولها قبل ساعات من بدء المباريات، ويحرص الممتحنون فيها من منازلهم على فتح الشاشة قبل نصف ساعة من انطلاق المباراة، لحضور الاستديو التحليلي.
ما يجذب لحضور المباراة قبل انطلاق صافرة الحكم، هو الإثارة المرجوة من استعراض مهارات اللاعبين. وما يجذب المنزليين للحرص على الاستديو التحليلي، هو متعة العرض التقديمي للمحللين في بعض القنوات الفضائية.
لا يبدو من الغريب أن نفس مشاهدي المباريات ليسوا بنفس درجة الحرص لحضور صلاة الجمعة باكرا، والهرولة للاستمتاع والاستفادة من خطبة الجمعة.
طالما أن العرض للخطبة يتحمل وزره الإمام، حين يكون نسخة مملة عن نفسه وعن غيره من الأئمة، دون أي اجتهاد لتطوير مقدراته، أو تنويع لمعارفه، رغم أن القرآن يدعو للقراءة، ونبي الإسلام يدعو لمزيد من التعلم حتى توسد القبور !
يقوم بعض خطباء الجمعة بتكرار نفس الأفكار في كل خطبة، وباستخدام نفس الأسلوب، ونفس الصراخ أحيانا، رغم ملاحظتهم لعدم تجاوب لغة الجسد ولغة العيون للمستعمين في المساجد.
ويمارس بعضهم هواية القراءة من ورقة مثل بعض محاضري الجامعات، في حين كان يكفي توزيع نسخة من ورقة الإمام التي تشبه أحيانا روشتة الصيدلي، عند مدخل المسجد !!!
وقد قمت بإحصاء عدد كلمات أول خطبة جمعة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم أجدها قد تجاوزت ال500 كلمة !! وهي تقارب طول هذا المقال ! مما يعني أنها مثل عمود صحفي خفيف ولطيف على النفس، ولكن ما يشبه فن الاختزال فيه، يجعل من الممكن استخراج مئات العبر والحكم واللطائف والدروس من عدة زوايا.
ومن المهم معرفة أن رسولنا أوصى بإطالة صلاة الجمعة وتقصير خطبتها، ومعلوم أنه كان يصلي الجمعة غالبا بسورتي الأعلى والغاشية، مما يمكن أن نقيس به الطول الموصى به للخطبة الأسبوعية !!
كما نحتاج لإعطاء مزيد من الاهتمام للخطب النبوية في أيام الجمع وهي مما لم ينل حظه في التعريف مثل حظ الأحاديث ! وقد كانت تناسب الزمان والمكان والشريحة المستهدفة آنذاك. ولم يكن في الخطب مثلما نرى من تفلتات لخطباء يثيرون الخصام والغل والاقتتال والتعالي بين بعض المسلمين وطوائفهم، وهو ما لا ينبغي للحاكم أن يتركه دون ضوابط. وما على إمام المسجد إلا أن يطيع أولي الأمر منا.
ينادي الكثيرون اليوم بشعارات "ربط السماء بالأرض"، و "تنزيل قيم السماء على الأرض"، وذلك على المستوى الشخصي والمستوى المجتمعي والوطني. ولكن يندر أن تجد الخطباء الذين يحاولون الربط للمسلمين بين القيم والتعاليم وبين شؤون الأرض، سواءً من ناحية تحليلية للأوضاع الراهنة أو من ناحية توجيهية لمراحل آتية.
لو كان كثير من الساسة المحترفين في دول العالم الثالث عاجزين عن تقدير الموقف بصورة سليمة، وعن تحليل الواقع والعلائق بين الأحداث والدول، وبعيدين عن استشارة مجالس الشورى ومراكز الدراسات، فلا غرو أن يعاني خطباء المساجد المحترفين من نفس المشكلة. ولذلك تظهر فكرة أن يكون لكل مسجد أو لكل خطيب مجلس استشاري صغير، يقوم خلال الأسبوع بمراجعة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، ثم تقديم مشورته كمركز دراسات مصغر لخطيب صلاة الجمعة.
مما يعني إسناد الخُطبة بالسند العلمي والأكاديمي والواقعي، فلربما استطاع بعدها الإمام أن يواكب عالم الحضور بصياغة خطبة جاذبة في مضمونها وشكلها، ومانعة لأجفان المصلين من ممارسة الغروب على شواطئ العيون.