الوطنية العابرة للحدود من الأسفل بعد الحرب العالمية الأولى: ثورة 1924م في السودان الإنجليزي-المصري (2 /2)

 


 

 

Transnationalism from Below after the First World War: The Case of the 1924 Revolution in Anglo-Egyptian Sudan

Elena Vezzadini إلينا فيزاديني
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

نشر المركز الفرنسي للدراسات الإثيوبية هذا المقال في موقع Open Edition Books https://books.openedition.org/cfee/1149، وهذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمتي لبعض ما جاء فيه.
تعمل مؤلفة المقال أستاذة بمعهد العالم الأفريقي بجامعة السوربون. وقد حصلت عام 2008م على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة بيرجن النرويجية بأطروحة عن حركة 1924م، وأستلت منها عددا من الأوراق من بينها ورقة تُرْجِمَتْ للعربية بعنوان "برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م" (1). ونشرت الكاتبة أيضاً في 2015م كتاباً عن ثورة 1924 عنوانه:
(2). Lost Nationalism: Revolution, Memory and Anti-colonial Resistance in Sudan
المترجم
*********** ************ **************
"كان هناك شيء اسمه رويترز": النشطاء والحرب العالمية، والأخبار العالمية
النشطاء يردون (ويوضحون)
اِتَّبَع نشطاء جمعية اللواء الأبيض استراتيجيات مبتكرة للاحتجاج كانت غير مسبوقة في تاريخ السودان، مثل تنظيم المظاهرات وإرسال برقيات احتجاج للسلطات الحاكمة. ولا يمكن فصل هذا العمل من النظام العالمي الجديد الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى، ومن "ربيع" الأمم التي تسلطت عليها القوى الكلولونيالية. بل استخدم أولئك النشطاء لغة سياسية واستراتيجيات كانت، في ذات الوقت، سهلة القراءة والفهم في إطار الدعم الدولي لحق تقرير المصير بعد انتهاء الحرب، وكانت أيضا لغة قويةً بما يكفي لتوعية الرأي العام الدولي (أو هكذا كانوا يأملون)، ويبدو أنها أصابت نجاحاً كبيراً في نضالات أخرى لمناهضة الكلولونيالية. ويمكن القول بعبارة أخرى أن السياق العالمي كان قد أثر على شكل الاحتجاج وعلى تنظيمه بطريقتين على الأقل: فقد كانت الاحتجاجات تُنْظَمُ بطريقة تجعل الآخرين "يرونها" من الخارج؛ وكانت عابرة للحدود الوطنية، ومتماثلة مع الحصيلة الأقدم التي تبنتها الحركات المناهضة للكولونيالية في أجزاء مختلفة من العالم.
لقد كان من المهم جداً لمصر أن تحصل على مساندة واسعة لقضيتها من الأطراف الدولية المختلفة مثل "عصبة الأمم"، وأيضا من الرأي العام العالمي في أوروبا (خاصة بريطانيا). وبالمثل، كان على السودانيين أن يخبروا العالم الخارجي بما يجري في بلادهم، فشرعوا عام 1919م في إرسال نصوص ومقالات إلى الصحافة المصرية. غير أنه لا توجد لدينا معلومات دقيقة عمن كَتَبَ تلك المقالات، وكيف وصلت لمصر، وكم كان عددها. غير أنه من السهل أن نتصور أن العاملين المصريين بالسودان (المتعاطفين مع الوطنيين السودانيين) كانوا هم من ساعدوا في إيصال تلك المواد للصحافة المصرية. ولا بد لنا أن نتذكر أن قوة وفعالية الكُتَّاب السودانيين كانت محدودة وتتوقف على ما تسمح به الرقابة التحريرية في مصر. وقد كان الصحافيون المصريون قد اعتادوا على إعادة النظر في الأخبار والمقالات التي تصلهم، دون اعتبار للدقة أو الصِحّة. وكانت هناك أجزاء من "مواد تحريضية" في الأرشيف كان من المقرر تداولها داخل السودان مثل رسائل لأعيان البلاد وكبرائها، أو منشورات قصيرة مناهضة للكولونيالية، أو منشورات كانت تُعْلَقُ على الجدران. وكانت تلك الوثائق مجهولة المصدر دوماً، أو موقعة بأسماء مثل "لجنة الطوارئ" و"اليد البيضاء واليد السوداء"، وهو الاسم الذي اُسْتُخْدِمَ أيضاً في المنشورات المصرية المجهولة. وكانت تلك المنشورات تهاجم الكولونيالية البريطانية واستغلال السودان. غير أن ما يعيب مثل هذا التحليل هو أن تلك المواد ليست متاحة إلا في شكل ملخصات نشرتها جهات بريطانية.
وواصل النشطاء في نشر نصوصهم ومقالاتهم بالصحف المصرية. ولكنهم قاموا أيضاً بانتهاج وسيلة أخرى لنشر أفكارهم وتوزيعها عبر إرسال برقيات احتجاجية للسلطات. ولكي نعي تماماً معنى ذلك الضرب من الاحتجاج، من الضروري أن نركز على ذلك النوع من طرق التواصل الذي أختاره أولئك النشطاء. فإرسال التماسات وعرائض للسلطات الإمبريالية الحاكمة ليس بالأمر الجديد، بل على العكس، فهو أمر قديم جدا، ويمكن تتبعه عبر فترات تاريخية سحيقة القدم. غير أنه ظهرت في القرن التاسع عشر وسيلة تقنية جديدة استخدمت لنقل بعض العرائض والالتماسات، وغدت أيضاً إحدى وسائل التعبير السياسي. وكان السبب وراء كل ذلك يكمن في "الثورة" التي فجرتها تقنية البرق (التلغراف). وكانت "آلة الإمبراطورية" تلك قد طورت إدارة الإمبراطورية إلى حد بعيد، خاصة فيما يتعلق بإدارة المديريات النائية. وأحدث "التلغراف" ثورة في مجال نشر الأخبار حول العالم، كما في حالة القصص التي يرويها النشطاء عن رويترز. وقد ساهم ذلك في خلق شعور بالتزامن والترابط بين القراء حتى في أبعد الأماكن، بما في ذلك الشعور بتقاسم المصير كـ "دول مضطهدة". وأَخِيرًا وَلَيْسَ آخِراً، غدت البرقيات هي إحدى أهم وسائل الإعلام والاتصال التي تستخدمها الدبلوماسية الدولية، ووسيلة تعبير مخصصة للاتصالات الرسمية وتبادل المعلومات بين الحكومات. ونتيجة لذلك، كان بعث عرائض سياسية عن طريق البرقيات هو عمل مشحون بالمعاني والدلالات. فمن خلال اِستِلاف أحد أشكال الاتصالات الرئيسية المستخدمة في السياسة والدبلوماسية الرسمية، شق الكاتب طريقه (وفي حالات قليلة شقت الكاتبة طريقها) لرفع قضيته إلى السلطات الحكومية، مدعياً بشكل رمزي أن صوته كان موثوقاً بدرجة كافية تؤهله للدخول في حوار مع هيئات مثل هذه، وأن رأيه مهم وينبغي الاستماع له. وبالإضافة إلى ذلك، كانت برقيات الاحتجاج وسيلة لتجاوز الهرمية السياسية التي كان من المستحيل التغلب عليها لولا ذلك.
لقد كانت البرقيات الاحتجاجية واحدة من الوسائل المستخدمة في السياسة الراديكالية المضادة للإمبريالية في مختلف بقاع العالم من قبل قيام الحرب العالمية الأولى بفترة طويلة. فعلى سبيل المثال تناول أستاذ الأنثروبولوجيا يونغ مينغ تشو أثر البرقيات الوطنية في الصين إبان العهد الامبراطوري في القرن التاسع عشر، وكتب أرسان عن "حملة البرقيات" في جبل لبنان عام 1912م. وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى ازداد انتشار برقيات الاحتجاج التي تعبر عن آراء سياسية. ففي مصر مثلا أرسلت مجموعات سياسية مختلفة (منهم مهنيون من الطبقة الوسطى والطلاب والعمال) الكثير من البرقيات في عام 1924م من مدن مختلفة شملت الإسكندرية والسويس وبورسعيد وأسوان والمحلة الكبرى، بل من مراكز أصغر مثل الزقازيق والمنوفية وغيرها، وذلك احتجاجا على ما قام به البريطانيون إبان أحداث السودان. وتحتوي مراكز الوثائق والسجلات في لندن والقاهرة على الكثير من الوثائق عن تلك البرقيات الاحتجاجية. وعلى وجه العموم تحتوي الأدبيات الثانوية على الكثير من المراجع عن مثل تلك البرقيات التي أُرْسِلَتْ للحكومات الإمبريالية أو لعصبة الأمم في أَراشِيف مدن كثيرة، من إسطنبول إلى لندن وآكس أون بروفانس بجنوب شرق فرنسا.
وكانت البرقيات التي كتبها بعض أعضاء جمعية اللواء الأبيض (ممهورة بأسمائهم الحقيقية) في الفترة بين مايو وأغسطس من عام 1924م تَبْعَثُ يومياً تقريباً إلى الصحف والسلطات السياسية المصرية أو البريطانية، مثل نقابة الصحفيين المصريين، والبرلمان المصري، ورئاسة مجلس الوزراء، ورئيس الوزارة سعد زغلول، وحكومة السودان، والمفوض السامي البريطاني بالقاهرة، ورئيس الوزارة البريطانية رامزى ماكدونالد، وصحف التايمز والديلي هيرالد في إنجلترا. وكان البرقيات تُسْتَلَمُ في العادة من عدة جهات في مصر أو بريطانيا، وفي بعض الأحيان تَبْعَثُ نفس البرقية إلى كليهما. وقد عثرت كاتبة هذا المقال (إلى الآن)، على نحو 53 من تلك البرقيات؛ غير أنه من المحتمل جداُ أن يكون عدد البرقيات المرسلة أكثر من هذا العدد. وغالب تلك البرقيات (المرسلة لبريطانيا ومصر) موجودة في أَراشِيف المحفوظات (السجلات) الوطني ببريطانيا. ولا بد من الإشارة إلى أن توقيعات من أرسلوا البرقيات بأسمائهم الحقيقية يكشف عن تحمل "جمعية اللواء الأبيض" لمسؤوليتها تجاه ما تعبر عنه من آراء، وأيضاً لتأكيد أن تعبير أعضاء الجمعية عن تلك الآراء هو حق مشروع للسودانيين. وإلى جانب الشعارات المؤيدة لمصر والوطنية، كانت الرسائل في الغالب تعبر عن الاحتجاج، بالمعنى الحرفي للكلمة. ولتوضيح ذلك، من الضروري أولاً مراجعة استراتيجية المعارضة المهمة الأخرى في عام 1924م وهي تسيير المظاهرات الشعبية. وفي الواقع كان إرسال البرقيات الاحتجاجية وتسيير المظاهرات الشعبية من الاستراتيجيات المترابطة والمتداخلة مع بعضهما البعض.
وكما ذكرنا من قبل فقد شارك في مظاهرات 1924م ما بين مئات إلى آلاف السودانيين، إلا أنه من المهم أن نذكر أيضاً أن "جمعية اللواء الأبيض" كانت قد نظمت فقط المظاهرات التي أقيمت في شهري يونيو ويوليو. والسبب في ذلك هو أن معظم أعضاء تلك الجمعية كانوا في السجون بعد ذلك. وكانت المسيرات تنطلق من مواقع لها رمزية خاصة (مثل الجوامع)، خاصة بعد الفراغ من أداء صلاة الجمعة، أو في محطة القطار. وكان الناس قد اعتادوا على الذهاب لمحطة السكة حديد لسماع آخر الأنباء أو للالتقاء بالناشطين السياسيين، مثلما حدث في أتبرا مثلا، حيث بدأت الاضطرابات عندما كان في القطار القادم من بورتسودان وهو يحمل معتقلاً اسمه صالح عبد القادر (وهو أحد مؤسسي "جمعية اللواء الأبيض")، قد توقف في محطة أتبرا. وبالمثل، فإن الطرق التي سلكتها الاحتجاجات آنذاك شملت مواقع ذات رمزية معينة. فقد مر مثلاً طلاب مدرسة الخرطوم الحربية في مسيرتهم على بيت علي عبد اللطيف، وأمام مبنى الحكومة، وذهبوا لسجن كوبر ولثكنات الجيش المصري، ولغيرها من المواقع (التي لها ارتباط ما بحركتهم). وكان المتظاهرون يحملون الأعلام: في البداية علم "جمعية اللواء الأبيض"، ولاحقاً علم مصر؛ وصوراً لسعد زغلول والملك المصري فؤاد. وكانوا يهتفون قائلين: "عاش الملك فؤاد، ملك مصر والسودان". وهتفوا كذلك بحياة سعد زغلول وعلي عبد اللطيف.
وكان الغرض من تلك المظاهرات (ضمن أغراض أخرى) هي البروز في المشهد العالمي، وعرض قضية الجمعية للعالم الخارجي عن طريق الكتابة للصحافة الأجنبية، إضافة لنشر أفكار الحركة الوطنية في أوساط السودانيين، ولتأكيد تماسكها وشرعيتها. ومن أدلة ذلك حقيقة أن "جمعية اللواء الأبيض" كانت تطلب من بعض أفرادها التقاط صور لتلك المظاهرات. فعلى سبيل المثال كان عضو الجمعية زين العابدين عبد التام هو المسؤول عن التصوير في مظاهرات يونيو بالخرطوم، إلى أن صادرت السلطات آلة تصويره. وأرسلت الجمعية للأبيض آلة تصوير بغرض تصوير مظاهرة هناك، كان من المؤمل أن تُنشر صورها في الصحف المصرية.
ومن جانب آخر، كان مما يؤكد أن تلك المظاهرات كانت قد نُظِمَتْ من أجل دعم قضية السودانيين في الخارج هو إصرار "جمعية اللواء الأبيض" على سلمية ومشروعية التجمعات والحركة بشكل عام، وأصدرت تعليمات دقيقة ومحددة لأنصارها في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال، جاء في منشور أرسله أحمد عمر باخريبة مسؤول الجمعية في ود مدني إلى "الضباط والضباط وضباط الصف ورجال الشرطة في جميع مديريات السودان" يحثهم فيه بما يلي:
"لا نطلب منكم عصيان القانون بعصيانكم لأوامر رؤسائك – لا، ولا ألف مرة. حاشا وكلاّ. لا نريد منكم أن ترتكبوا أي جريمة ضد الأمن العام أو النظام. كل ما نطلبه منكم هو أن تتذكروا أنكم تدينون – بحكم القانون- بالولاء للملك ولإخوانكم، وينبغي عليكم ... (حمايتهم) وهم يتظاهرون ضد الإدارة البريطانية التي خالفت الشرط الذي وُضِعَ في اتفاقية الحكم الثنائي (بين بريطانيا ومصر)، وفعلت الكثير لسرقة ثروات بلادنا واسترقاق شعبها.
أنكم تعلمون أن ما نقوم به هو عمل سلمي، ولا يستدعي منكم استخدام العصي أو السياط لضربنا، بل يتطلب إدارة حسنة (للموقف)، وأن تنبهوا برلمانات أوروبا ومصر (لما يحدث بالبلاد)، وتدعوهم بالطرق القانونية والحجة البينة، حتى لا يسود الخداع والفوضى والأكاذيب الخ.
ويعود بنا موضع السلمية والالتزام بالقانون في تلك الاحتجاجات السياسية إلى الصلة والرابط بين البرقيات والاحتجاجات. فقد ذكر على ملاسي أحد نشطاء ثورة 1924م، أنهم كانوا يعملون كالتالي: "كنا نتظاهر، وبعد أن يضربنا البريطانيون ويعتقلوننا، نقوم بإرسال البرقيات الاحتجاجية". وكان التناقض بين السلمية والالتزام بالقانون عند أفراد حركة 1924م من جهة، وعدم قانونية ردة فعل البريطانيين لها من الجهة الأخرى، هو الموضوع الأكثر ذكراً في تلك البرقيات. وكان أفراد الحركة يبعثون بالبرقيات في كل مرة يفعل فيها البريطانيون فعلاً "غير قانوني"، مثل الأعمال القمعية في أثناء المظاهرات وبعدها، كضرب المتظاهرين وتفتيش منازلهم واعتقالهم. وعند عقدنا لمقارنة بين البرقيات وبين المنشورات التي وُزِعَتْ داخل السودان من قبل، يمكننا أن نخلص إلى أن تلك البرقيات لم يرد فيها ما يشير إلى أي نوع من الاتهامات ضد الكلولونيالية؛ بل كانت تقدم فقط أدلة على حقائق محددة تسلط الضوء على سوء الحكم البريطاني. وهذا هو مثال واحد لبرقية، من بين العديد من البرقيات، وقع عليها 38 من ضباط الجيش السابقين:
بينما كان الضابط زين العابدين يلتقط صورة لمظاهرة، قامت السلطات الحاكمة باعتقاله وإيداعه السجن. واحتججنا على هذا الفعل وعلى سجن أربعة من العاملين، وعلى مهاجمة من كانوا يهتفون قائلين "عاش ملك مصر والسودان" بالسيوف.
لقد كان القصد من هذا التناقض بين شرعية المظاهرات والرد البريطاني القمعي وغير القانوني هو تشويه سمعة الحكم البريطاني من خلال اتهامه بعدم تحقيق ما زعمه من "توجه حضاري". كما كُتِبَتْ تلك البرقيات مع الأخذ في الاعتبار جمهور وهمي من الدول الأوروبية التي استنكرت "جرائم" بريطانيا، كما في هذا المثال:
"بدأت السلطة الاستبدادية في اعتقال الرجال المشاركين في المظاهرات الذين عبروا عن مشاعرهم تجاه الملك العظيم [...]. وقُبض بالأمس على علي عبد اللطيف وعرفات محمد وصالح عبد القادر والشيخ عمر باخريبة دون أي ذنب جنوه سوى تمسكهم بالعرش المصري. وهذا هو شرف الإنجليز الذين يدعون بأنهم جاءوا إلى السودان لتعليم شعبه وتمدينه. [...]. فلتشهد الدول الأوروبية المتقدمة على معاملتها للإنسانية في القرن العشرين".
وتشير تلك البرقية إلى أن "الأمم الأوروبية" تم تصورها على أنها جبهة "فوق وطنية، أو متخطية للحدود القومية supranational"، وبإمكانها الحكم على تصرفات فردية لدول مثل بريطانيا والسودان. إن مجرد وجود مثل ذلك التخيل أمر بالغ الأهمية لفهم الأفعال التي تبدو ذات نتائج عكسية مثل توقيع البرقيات بالأسماء الحقيقية. فقد كان هذا ما سهل على البريطانيين مهمة تفكيك الجمعية، حيث كان كل واحد من الأعضاء الأساسيين فيها قد أرسل برقية احتجاجية واحدة على الأقل ممهورة باسمه. غير أنه كان هناك ثمة بارقة أمل حقيقي في أن تقوم مصر والدول الأوروبية بالضغط على بريطانيا لتعير مطالب السودانيين أُذُناً صاغِيَة.
ولم تكن السلطات البريطانية في السودان قلقة بشأن الرد الأوروبي المحتمل بقدر ما كانت قلقة بشأن العلامات الأولى التي كانت تشير إلى أن موسم التظاهرات هذا قد أثر حتى على حلفائها الثقات. فقد اجتمع في نهاية شهر أغسطس وإبان شهر سبتمبر بعض أعيان ووجهاء العاصمة، مثل المفتي العام ورئيس مجلس العلماء ومعظم تجار المدينة عدة مرات لمناقشة الوضع السياسي بالبلاد؛ وقاموا بكتابة بيان / وثيقة جماعية طالبوا فيها، من بين أمور أخرى، بإنشاء شكل ما من أشكال الهيئات التمثيلية. وذكر السكرتير القضائي واسي استيري في نهاية سبتمبر من عام 1924م ما نصه: "إن حصلنا على نهاية مرضية للمفاوضات، فسيتعين علينا أن نحقق بطريقة ما رغبة رعايانا في التحدث بإسهاب في صغائر الأمور (استخدم السكرتير القضائي هنا كلمة to jaw. المترجم)، وتقديم بعض التسهيلات لهم لفعل ذلك، على غرار ما يحدث في المجلس البلدي". وقد تسبب موسم تلك المظاهرات في تحول الطيف السياسي إلى موقف أكثر تطرفاً مما كان عليه في السابق. غير أن كل هذا انتهى باغتيال السير لي ستاك حاكم عام (وسردار) السودان في القاهرة.
******** ********** ********
الخلاصة
لقد كانت للحرب العالمية الأولى تداعيات قليلة على السودان كحدث عسكري في حد ذاته، باستثناء مهم وهو غزو دارفور في عام 1916. ولكن حتى حملة دارفور تلك تم تصويرها على أنها نتيجة "طبيعية" وغير مثيرة للمشاكل لمنطقة كانت بالفعل جزءًا من السودان في القرن التاسع عشر. وإلى جانب ذلك الجانب العسكري، كان للحرب تأثير فكري مهم وحاسم امتد إلى حياة عامة الناس في السودان. وكنوع من التأثير الارتجاعي الذي لقي صدى لما كان يحدث في العديد من الأماكن الأخرى في العالم الإمبراطوري، فسر الناس الذين يعيشون في أجزاء أكثر من السودان التصور الجديد للعلاقات الدولية على أنه دعوة للتحرر، ورأوا أن لديهم حقاً مشروعاً في التحرر، وأن عليهم القيام بأداء دور حاسم من أجل تحقيق ذلك.
وفي حين عرضت الدراسات حول الوطنية العابرة للحدود حججاً مقنعة حول الانتشار العالمي للأفكار الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى، قدمت تلك الدراسات كذلك توثيقاً غنياً للروابط بين الوطنيين المتطرفين من جميع أنحاء العالم بأماكن مثل باريس في عشرينيات القرن العشرين أو لندن في سنوات القرن العشرين. وكانوا قد أقروا كذلك بأن المصادر المستخدمة والوثائق عبأت في المقام الأول ورسمت صوراً لنخب مثقفة تتمتع بامتيازات كبيرة، ولها تاريخها الثقافي والسياسي، وتواجه صعوبات في فهم الروابط بين الجماهير ونخبة السياسيين الراديكاليين، خاصة من النوع العابر للحدود الوطنية. وحالة السودان مثيرة للاهتمام بشكل خاص في هذا الصدد لأنها تتضمن أدلة حقيقية على وجود "وطنية عابرة للحدود من الأسفل"، وتأثير فكرة تقرير المصير بين عامة السودانيين الذين يعيشون في المراكز الحضرية والمناطق شبه الريفية. وكان الشعور السائد هو أنه في هذه اللحظة من التاريخ - عندما بدا كل شيء ممكناً - ظل الناس في لهفة وفضول شديدين للحصول على الأخبار المتعلقة بما كان يحدث خارج السودان. لقد كانوا يَقْرَأُونَ علامات التحول العالمي الوشيك المناهض للإمبريالية، والذي كانوا عَلَى عَجَلَةٍ مِنْ أمرهم للمساهمة فيه.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء