الوهم الأكبر: استحلال طلب السلطة والحرص عليها
الريح عبد القادر محمد عثمان
26 June, 2023
26 June, 2023
من الأوهام الكبرى المتفشيّة بين المسلمين اعتقاد الكثيرين أن طلب السلطة والحكم، أو الملك، أو الرئاسة، بل حتى إمامة المسلمين، أمر جيد للشخص يجوز له أن يتمناه، وأن يطلبه، ويسعى إليه، بل أن يقاتل، فيقتُل أو يُقتل، للظفر به. يشكل هذا الوهم حاجزاً يعوق الفهم الصحيح للدين، وتترتب عنه آثار كارثية على الفرد والجماعة. وطلب الحكم هو السبب الكامن وراء الصراعات والنزاعات السابقة والقائمة واللاحقة. وما طلب الحكم إلا مرحلة من مراحل مرضٍ خفي، كامن في النفوس، هو حب التميز، والظهور على الآخرين. وحين يستبد ذلك المرض بالشخص تسول له نفسه طلب الحكم، تحقيقاً لذلك التوق إلى العلو. ويرتبط العلو بالفساد ضربة لازب: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يبغون علواً في الأرض ولا فسادا".
وللوصول إلى السلطة يجد الشخص أنه مستعد لتجاوز ثلاث عتبات تفضي إلى الشر المطلق. العتبة الأولى هي العتبة الأخلاقية (الكذب، الخيانة، الغدر...)؛ فإذا انخرط الشخص في عملية تحقيق الوصول إلى الحكم يصبح مستعداً لتجاوز عتبة الشر الثانية، وهي العتبة الجنائية (الأذى الجسيم، السرقة،... القتل)؛ ثُمّ ما إن يتذوق الشخص طعم السلطة المُسْكِر حتى يصبح على الفور مدمناً لا فكاك له من ادمانه، فيكون مستعداً لتجاوز العتبة الأخيرة، وهي العتبة الكفرية (مبارزة الله، والرضا بالدنيا بديلاً عن الآخرة، اختياراً).
ومع الإقرار بعظم أمر الحكم في حياة كل أمة، فإنّ هناك مبدأ ثابتاً كان ينبغي أن يكون من المسلمات ومما هو معلوم من الدين بالضرورة لدى جميع الناس. ذلك المبدأ هو أن الحكم، مع أهميته البالغة على مستوى الأمة، ليس أمراً جيداً على المستوى الشخصي لمن يُكلف به. بمعنى أنه كان ينبغي أن يكون معلوماً لكل واحد منا أنه ليس من الخير له أن يحظى بأي منصب من مناصب الحكم. ومثلما أن العافية خير لك من المرض، والسلامة خير لك البلاء، فكذلك أن تكون عاطلاً من مناصب الحكم خير لك من أن تكون مكلّفاً بأي منها. ومثلما أنّ من الحمق أنْ يقول شخص "اللهم أمرضني فأصبر فتدخلني الجنة"، فكذلك حال من يسعى إلى الحكم ويحرص عليه متوهماً أنه سيملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً وأنه سينال رضى الله بذلك ورضى المحكومين. إذن فإن مجئ الحكم إليك إنما هو مثل نزول المصيبة أو المرض بك: أنت لا تريد المصيبة ولا المرض، فإن وقع لك شيء من ذلك رضيتَ بقدرك، ولكنك لم تزل تلتمس العافية. وخير ما يؤتي المرء في دنياه العافية، ومن العافية أن تكون عاطلاً من أي منصب من مناصب الحكم. ذلك لأن الحكم تكليف، وأمانة ثقيلة، ومسؤولية كبيرة، وليس تعظيماً، ولا تشريفاً، ولا تنعيماً. وخروجك من الحكم معافىً، لم تظلمْ ولم تُقَصِّر، مطلبٌ عزيزٌ لم يقدر عليه معظم الحكام قديماً وحديثا. ولذلك فإن من الحُمق أن يختار شخص، بمحض إرادته، أن يصل إلى كرسي الحكم لكي يحقق به مقام "الإمام العادل"، الذي يظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله. إن مجرد ترك حب الحكم يترعرع في القلب فسادٌ وانطواء على نية خبيثة.
وهكذا نقرر منذ البداية، استنادا إلى جملة أدلة من القرآن والسنة، أنّ استحلال طلب الحكم خطلٌ ووهم كبير وخطير.
الفرق الكبير بين طلب المال وطلب الحكم
سئل حكيم من قبيلة الهبانية: ما اللذة التي تفوق لذة الأكل؟ فقال لذة الجماع؛ فسئل: هل هناك ما يفوق لذة الجماع؟ قال: لذة الحكم.
وأُثِر من أقوالهم: "حكم للساق، ولا مال للخنّاق"، أي حكم يصل إلى ساقيك خير لك من مال يصل حتى رقبتك.
المال في حد ذاته نعمة، ومن المباح السعي لكسبه حدَّ الغنى. لكن ثمة وجه اختلاف كبير بين المال والحكم: يحرم عليك السعي لنيل الحكم، بعكس المال. نعم، لا يبارك الله في السعي لنيل الغنى إن كنت تقصد به العلو والفساد والسمعة، إما إن كان طلب الغنى لفائدة النفس ونفع الآخرين، فلا تثريب عليك. أما الحكم فلا يحل لك أن تسعى إليه حتى وإن كانت نيتك أن تصلح الدنيا والدين وأن تسقي الناس لبناً وعسلاً وخمراً في جنات النعيم. وأمضي إلى القول غير هيّاب إن نفس الذي يطلب الحكم فاسدةً من الداخل فساداً لا يرجى معه خيرٌ ولا إصلاح. فبمجرد أن تنوي الحصول على الحكم تكون قد انتويت شراً. وبنص حديث نبوي، من سعى إلى الحكم تخلّى عنه الله، ومن تخلّى عنه الله، استلمه الشيطان. وعجيب ألا ترى الناس يحفظون حديث عبد الرحمن بن سمرة! فقد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها". "وُكِلتَ إليها" أي تُركت بدون عون من الله. وليتَ الناس يعلمون أن من لم يكن الله معه، كان الشيطان قرينه. ولذلك ينبغي ألا تحدثك نفسك أبداً بالوصول إلى مناصب الحكم، ولعلّها تحدّثك، فإن فعلت فعليك أن تقمع فيها تلك الرغبة. يقول الله عز وجل في سورة القصص: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (83)، ومن أراد العلو أراد معه الفساد ضربة لازب.
يُعرف عن النقابي البريطاني توماس داننغ (1799-1873) أنه قال في رأس المال "ما لم يقله مالك في الخمر"، حتى أن كارل ماركس اقتبس في كتابه الشهير "رأس المال" شذرات مضيئة من كتاباته. يقول داننغ إنّ رأس المال جبانٌ خوّار بطبعه، يتحاشى الخسارة، ويعاف الربح القليل؛ ولكن ما إنْ يشتم نسبة كافية من الربح، حتى تركبه جرأةٌ عجيبة. فإذا ضمن تحقيق نسبة 10 في المائة من الأرباح تنحنح ونهض إليها. أما نسبة 20 في المائة فتجعله يُهبُّ واقفاً. فإذا ارتفعت النسبة إلى50 في المائة، تحوّلت الجرأةُ إلى إقدام وتوثّب. حتى إذا أتمّت النسبة 100 في المائة، أصبح رأس المال جاهزاً للدوس بكلتا قدميه على جميع القوانين والأعراف البشرية. ثم إذا تضاعفت النسبة إلى 200 أو 300 في المائة، فإن رأس المال يصبح، حيئنذٍ، مستعداً للقتال، قاتلاً أو مقتولاً.
نرى من كلام داننغ أن الطامع في المال يحتاج إلى أن تتضاعف نسبة الربح المتوقع أضعافاً مضاعفة لكي يصبح مستعداً للقتال. وهنا يظهر لنا الفرق الكبير بين حب المال وحب السلطة. لا يحتاج الطامع في السلطة، أو من يريد المحافظة عليها، إلى كل ذلك الوقت الطويل، ولا إلى كل ذلك التدرج، بل يغدو مستعداً للقتال، قاتلاً أو مقتولاً، منذ الوهلة الأولى، ويستمر ذلك الاستعداد للقتل حاضراً لديه طوال سيرورة طلب الحكم، وطوال الحاجة إلى المحافظة على الحكم، وطوال الوقت اللازم لاستعادة الحكم عند ضياعه.
هذا هو الفرق العظيم بين من يطلب مالاً ومن يطلب حكماً.
وهذا هو الفرق العظيم الذي يجعل طلب المال مباحاً وطلبَ الحكم مأثمة.
هناك أشخاص كثيرون يرون أن السعي إلى المناصب مثله مثل السعي إلى الرزق، وهذا خلط شنيع. الثابت أنه إن كنت تسعى إلى الحكم لإرضاء طموحك وغرورك، لأنك ترى أنك "تستحق"، فهذه كارثة على مستوى علاقتك بربك وكارثة على مجتمعك، الذي سيصبح معرضاً لفساد كبير. وإذا كنت واثقاً من "صلاح نيتك"، وأنك لا تريد بالحكم علواً في الأرض ولا فساداً، بل تريد الإصلاح ما استطعت، فإنك تكون قد زكيتَ نفسك، وأحسنت الظن بها، وهي الإمارة بالسوء، التي يجري الشيطان منها جري الدم في العروق، وتكون قد ألقيت بها في الفتنة والتهلكة، ولا يفعل ذلك عاقل.
الطريقة الوحيدة التي تجعل وصولك إلى الحكم جائزاً ومباركاً هو أن يأتي الحكم إليك معروضاً عليك، أو مفروضاً عليك، وأنت لا تريده أو لم تسع إليه، ولم تكن حريصاً عليه ولا فرحاً به. بمعنى أن يتولى الآخرون تزكيتك لمناصب الحكم، وترشيحك، والدفاع عن أهليتك. أما من يفرح بنيل الحكم، ويبتهج، ويقيم الولائم، ويجلس للناس لتهنئته، فهذا سفيه أحمق ما كان ينبغي أن يُسمح له بالاقتراب من كرسي الحكم.
وهناك كم كبير من الأحاديث المتواترة التي تثبت عدم جواز طلب الحكم، ويدور فحوى معظمها حول مبدأ "نحن لا نعطي هذا الأمر لمن طلبه ولا من حرص عليه". وبرّر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله، في حديث ابن سمرة آنف الذكر، إنّ من نال الحكم بدون سعيٍ إليه بورك له فيه وأعين عليه، وأما من ناله عن سعي ومطلبةٍ وحرص فإنه يوكل إلى نفسه.
ويا ويل حاكم أُوكله الله إلى نفسه! ويا ويل قومه به!
اتساع نطاق حب الوجاهة والرئاسة
كل هذا الصراع الدائر في الدول والمجتمعات، وكل هذه المآسي الناتجة عن الصراع، إنما هي بسبب حب الجاه والوجاهة والرئاسة! بالتأكيد لا ننسى دور حب المال، ولكن يجب أن نتذكر أن السعي إلى المال والموارد ليس إلا وسيلة لتحقيق الجاه والوجاهة والرئاسة. ولا ينحصر الأمر في الصراعات الدولية والسياسية والطبقية والقبلية، بل يشمل المشاحنات الفردية بين الأشخاص، بل والمآسي العائلية وقطيعة الرحم، فكل ذلك سببه شهوة خفية في التميز، والتفوق، والظهور، والرياسة. ولذلك يجب ألا يعتقد أحدٌ أن حب الرئاسة ينحصر في طلب مناصب الحكم، فهو يشمل جميع المجالات، لأن المصابين بحب الرئاسة يحبون الترؤس في كل شيء، وفي كل مكان.
فهناك تنافس بين العلماء سببه حب الرئاسة، وأنّ كل واحد يريد أن يصبح "شيخ الإسلام" الأوحد، والعالم العلامة والحبر الفهامة.
والتنافس بين الأقران في العمل والدراسة سببه حب التفوق من أجل الظهور والتميز.
والخصومات بين الجيران سببها الخفي نحن أكثر منكم مالاً وأعز نفرا.
وقطيعة الرحم تعود لتعالي بعض أولي القربى على بعض.
وحتى الخلافات الزوجية سببها صراع خفي على السيطرة والنفوذ داخل عش الزوجية.
وللأسف ليس هناك تثقيف في هذا الشأن، على الرغم من أن المجتمع يصبح معرضاً لشر مستطير إذا كان أفراده يسعون إلى مناصب الحكم، وإذا كان المجتمع يرى أن ذلك شيئاً مباحاً.
والذي يجعل حب الرئاسة، الظاهر منه و الخفي، هو المحرك الأول لخلافاتنا وصراعاتنا، العامة والفردية، هو أنه حبٌ شيطاني المصدر، ومرضي الطبع، ولذلك لا يلبث أن يستحوذ على القلب فيقضي على جميع أنواع الحب الأخرى، حتى لا يبقى في القلب إلا حب الرئاسة.
وهناك الكثير من الأقوال المأثورة التي تتحدث عن مدى تغلغل حب الحكم والرئاسة في القلوب.
ومن كلام الصوفية الذي صدقته الأيام والتجارب أن "آخر ما يخرج من قلوب الصالحين ومن رؤوس الصديقين حب الجاه والرئاسة"! فترى أحدهم يخفض صوته، ويتخشع في مشيته، ويزهد في لباسه وطعامه، فإذا نوزع رئاسته واقترب مخلوق من زخرف دنياه طاش عقله ونسي ما كان من أمره. هذا عن الصالحين والصدقين، فما بالك بالعامة.
ويقول يوسف بن أسباط رحمه الله إن بعض الناس يمكنه أن يزهد في الدنيا بكل متاعها ولكنه لا يقدر على الزهد في الرئاسة.
وكان بشر بن الحارث -رحمه الله - يقول: "لا يجد حلاوة الآخرة رجلٌ يحب أن يعرفه الناس". وهنا نرى العلاقة الضرورية بين حب الرئاسة والسمعة. واتفق العارفون على أنه "ما صدق الله من أحب الشهرة".
ويُحكى عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه كان في البادية مشغولاً بإبله، فرأى يوماً شبح رجل قادم من بعيد، فقال: "أعوذ بالله من شر هذا الراكب". فلما وصل القادم إذا به ابنه عمر، فلما نزل قال لأبيه: "يا أبتِ أنزلت في إبلك وغنمك، وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟" فضرب سعد في صدره وقال: أسكت، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي".
وشوهد ربيعة شيخ الإمام مالك يومًا وهو يبكي فقيل ما يبكيك؟ قال: "رياء حاضر، وشهوة خفية".
هذه الشهوة الخفية هي التي تقتلنا، وتجعلنا نتقاتل!
ودخل عم الإمام أحمد -رحمه الله- عليه فقال: "يا ابن أخي! ما هذا الغم؟ وما هذا الحزن؟ فرفع الإمام رأسه وقال: يا عم، طوبى لمن أخمل الله ذكره!"
يقول يزيد بن عبد الله بن موهب: "من أحب كثرة المال والشرف لم يعدل".
ويقول يحيى بن معاذ: "لا يفلح من شممتَ رائحة حب الرياسة منه".
أما نحن فشعارنا "السمعة ولا طولة العمر"، أي: اكتسب سمعةً ولا ضير إنْ قَصُر عمرك، "وحكم للساق ولا مال للخناق"!
الخلاصة
نحن بحاجة إلى إصلاح تربوي يقوم على توصيف الحكم على حقيقته: ابتلاء، ومسؤولية، وأمانة، يمكن أن تؤول إلى خزي وندامة يوم القيامة، وأنه ليس تشريفاً، ولا تكريماً، ولا مكافأة، ولا تنعيماً. يجب أن يعلم كبارنا، منذ الصغر، أن السلطة ابتلاء، مثلها مثل المرض، ينبغي ألا يطلبها أحد عاقل؛ ولكن إنْ جاءت بدون سعي، وباتفاق المحكومين، فلا يجوز رفضها ما دام الشخص المختار قادراً على الاضطلاع بأعبائها. وهذا ما فعله سيدنا يوسف الصديق عليه السلام، الذي لم يطلب الإمارة، وإنما عرضها عليه عزيز مصر حين قال له كما أخبر القرآن: "إنك اليوم لدينا مكين أمين". وينبغي أن نعلم أنّ من حصل على الحكم عن سعي وحرص، تركه الله لنفسه ولشيطانه، فلن يبارك له في حكمه.
ويجب أن نعلم أن إسناد مسؤوليات السلطة يحتاج إلى استعداد نفسي وأخلاقي كبير لكي يصبر الشخص علي تحمل أمانتها، وأداء حقها، وإلا فسيكون معرضاً لإغواء الشيطان فيحس بالخيلاء، ويفرح بالشهرة، ويغتر بالسمع والطاعة، ويحس أن السلطة جعلته فوق الناس في الدنيا وفي الآخرة.
وينبغي أن يقوم الإصلاح التربوي المنشود على إعلاء فضائل الزهد، والتواضع، وألا يكون السعي إلى الإنجاز وسيلة للحصول على الشهرة والسمعة.
وينبغي أن يعرف الكبار منذ الصغر أن ثاني الخلفاء الراشدين، سيدنا عمر بن الخطاب، سعى لكي ينال دعوة بالمغفرة من رجل بسيط، لم يكن صحابياً، بل كان تابعياً، ولم يكن من علماء الحديث ولا التفسير، هو أويس القرني. ويجب أن يكون أويس القرني من المعروفين في الإسلام بالضرورة!
ويجب أن يعرف الجميع من هو ذلك الصحابي الشاب، المجهول، الفقير، الذي لم يكن أحد من الصحابة يتوقع أن يكون هو المقصود بمقولة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم"سيدخل عليكم رجلٌ من أهل الجنة". ويجب أن يعلم الجميع إنه إذا كان هناك عشرة صحابة مشهورون مبشرون بالجنة فهناك عشرات الصحابة المجهولين المبشرين بالجنة، منهم هذا الصحابي الشاب.
ويجب أن نعرف أن الخلفاء الراشدين كانوا يرون أنهم قد أصبحوا بسلطة الخلافة في ابتلاء عظيم، ولم يكونوا يرون لأنفسهم فضلاً على غيرهم، بل على العكس، كانوا يغبطون إخوتهم الذين عافاهم الله من ابتلاء الحكم. كان أبو بكر الصديق يقول "ليت أمي لم تلدني"، وكان عمر الفاروق يخشى أن يكون في عداد المنافقين الذين نزلت في شأنهم آيات القرآن وأخبر الله بهم نبيه، صلى الله عليه وسلم. وما ذلك إلا لأنهم كانوا يخشون من أن يكون تكليفهم بأعباء سلطة الخلافة استدراج لهم.
أما الساعون إلى السلطة في زماننا هذا فيرون أنهم أصبحوا بالحكم من المصطفين الأخيار!
ومن المهم جداً أن نعلم أن السلطة لا ترفع قدر من تُسند إليه، ولا تنقص قدر من لم ينالها؛ وهي لا تُعطى لصاحب الشرف مكافأة له على شرفه، ولا تُمنع عن المسكين ازدراءً لأصله؛ فهي ليست حقاً لأحدٍ من الناس دون الناس، وهي ليست مغنماً فيُوْرَث، وليستَ كنزاً فيُوَرَّث، بل تظل دوماً أمانةً قد تغدو حسرةً وندامة.
كل الدنيا بزخرفها لا تساوي عند الله جناح بعوضة! وبالتالي فإن ملكها، أو رئاستها، أو خلافة مسلميها، أو إمارة مؤمنيها، ما هو إلا مثل جزء من جناح بعوضة! والعجيب أن الناس يتشرفون بما هو أقل من جناح بعوضة ويتقاتلون عليه!
ويجب أن يعلم كبارنا منذ الصغر أن حب السلطة، جنباً إلى جنب مع حب المال من أجل المال، يقضيان على الدين تماماً فلا يبقى للشخص معهما دين، تماماً مثل ذئبين جائعين أطلقا في غنم. الذئبان الجائعان يقضيان على الغنم؛ وحب السلطة وحب المال، من أجل الجاه، يقضيان على الدين: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلـم أنه قال: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ". والشرف هنا يعني الجاه والسلطة.
فهل يا ترى يجب أن نكتب حديث الذئبين الجائعين هذا، والأقوال المأثورة الأخرى، في مناهجنا الدراسية، أما في شوارع مدننا، أم نكتب ذلك بماء العينين في قلوبنا؟
elrayahabdelgadir@gmail.com
////////////////////////
وللوصول إلى السلطة يجد الشخص أنه مستعد لتجاوز ثلاث عتبات تفضي إلى الشر المطلق. العتبة الأولى هي العتبة الأخلاقية (الكذب، الخيانة، الغدر...)؛ فإذا انخرط الشخص في عملية تحقيق الوصول إلى الحكم يصبح مستعداً لتجاوز عتبة الشر الثانية، وهي العتبة الجنائية (الأذى الجسيم، السرقة،... القتل)؛ ثُمّ ما إن يتذوق الشخص طعم السلطة المُسْكِر حتى يصبح على الفور مدمناً لا فكاك له من ادمانه، فيكون مستعداً لتجاوز العتبة الأخيرة، وهي العتبة الكفرية (مبارزة الله، والرضا بالدنيا بديلاً عن الآخرة، اختياراً).
ومع الإقرار بعظم أمر الحكم في حياة كل أمة، فإنّ هناك مبدأ ثابتاً كان ينبغي أن يكون من المسلمات ومما هو معلوم من الدين بالضرورة لدى جميع الناس. ذلك المبدأ هو أن الحكم، مع أهميته البالغة على مستوى الأمة، ليس أمراً جيداً على المستوى الشخصي لمن يُكلف به. بمعنى أنه كان ينبغي أن يكون معلوماً لكل واحد منا أنه ليس من الخير له أن يحظى بأي منصب من مناصب الحكم. ومثلما أن العافية خير لك من المرض، والسلامة خير لك البلاء، فكذلك أن تكون عاطلاً من مناصب الحكم خير لك من أن تكون مكلّفاً بأي منها. ومثلما أنّ من الحمق أنْ يقول شخص "اللهم أمرضني فأصبر فتدخلني الجنة"، فكذلك حال من يسعى إلى الحكم ويحرص عليه متوهماً أنه سيملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً وأنه سينال رضى الله بذلك ورضى المحكومين. إذن فإن مجئ الحكم إليك إنما هو مثل نزول المصيبة أو المرض بك: أنت لا تريد المصيبة ولا المرض، فإن وقع لك شيء من ذلك رضيتَ بقدرك، ولكنك لم تزل تلتمس العافية. وخير ما يؤتي المرء في دنياه العافية، ومن العافية أن تكون عاطلاً من أي منصب من مناصب الحكم. ذلك لأن الحكم تكليف، وأمانة ثقيلة، ومسؤولية كبيرة، وليس تعظيماً، ولا تشريفاً، ولا تنعيماً. وخروجك من الحكم معافىً، لم تظلمْ ولم تُقَصِّر، مطلبٌ عزيزٌ لم يقدر عليه معظم الحكام قديماً وحديثا. ولذلك فإن من الحُمق أن يختار شخص، بمحض إرادته، أن يصل إلى كرسي الحكم لكي يحقق به مقام "الإمام العادل"، الذي يظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله. إن مجرد ترك حب الحكم يترعرع في القلب فسادٌ وانطواء على نية خبيثة.
وهكذا نقرر منذ البداية، استنادا إلى جملة أدلة من القرآن والسنة، أنّ استحلال طلب الحكم خطلٌ ووهم كبير وخطير.
الفرق الكبير بين طلب المال وطلب الحكم
سئل حكيم من قبيلة الهبانية: ما اللذة التي تفوق لذة الأكل؟ فقال لذة الجماع؛ فسئل: هل هناك ما يفوق لذة الجماع؟ قال: لذة الحكم.
وأُثِر من أقوالهم: "حكم للساق، ولا مال للخنّاق"، أي حكم يصل إلى ساقيك خير لك من مال يصل حتى رقبتك.
المال في حد ذاته نعمة، ومن المباح السعي لكسبه حدَّ الغنى. لكن ثمة وجه اختلاف كبير بين المال والحكم: يحرم عليك السعي لنيل الحكم، بعكس المال. نعم، لا يبارك الله في السعي لنيل الغنى إن كنت تقصد به العلو والفساد والسمعة، إما إن كان طلب الغنى لفائدة النفس ونفع الآخرين، فلا تثريب عليك. أما الحكم فلا يحل لك أن تسعى إليه حتى وإن كانت نيتك أن تصلح الدنيا والدين وأن تسقي الناس لبناً وعسلاً وخمراً في جنات النعيم. وأمضي إلى القول غير هيّاب إن نفس الذي يطلب الحكم فاسدةً من الداخل فساداً لا يرجى معه خيرٌ ولا إصلاح. فبمجرد أن تنوي الحصول على الحكم تكون قد انتويت شراً. وبنص حديث نبوي، من سعى إلى الحكم تخلّى عنه الله، ومن تخلّى عنه الله، استلمه الشيطان. وعجيب ألا ترى الناس يحفظون حديث عبد الرحمن بن سمرة! فقد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها". "وُكِلتَ إليها" أي تُركت بدون عون من الله. وليتَ الناس يعلمون أن من لم يكن الله معه، كان الشيطان قرينه. ولذلك ينبغي ألا تحدثك نفسك أبداً بالوصول إلى مناصب الحكم، ولعلّها تحدّثك، فإن فعلت فعليك أن تقمع فيها تلك الرغبة. يقول الله عز وجل في سورة القصص: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (83)، ومن أراد العلو أراد معه الفساد ضربة لازب.
يُعرف عن النقابي البريطاني توماس داننغ (1799-1873) أنه قال في رأس المال "ما لم يقله مالك في الخمر"، حتى أن كارل ماركس اقتبس في كتابه الشهير "رأس المال" شذرات مضيئة من كتاباته. يقول داننغ إنّ رأس المال جبانٌ خوّار بطبعه، يتحاشى الخسارة، ويعاف الربح القليل؛ ولكن ما إنْ يشتم نسبة كافية من الربح، حتى تركبه جرأةٌ عجيبة. فإذا ضمن تحقيق نسبة 10 في المائة من الأرباح تنحنح ونهض إليها. أما نسبة 20 في المائة فتجعله يُهبُّ واقفاً. فإذا ارتفعت النسبة إلى50 في المائة، تحوّلت الجرأةُ إلى إقدام وتوثّب. حتى إذا أتمّت النسبة 100 في المائة، أصبح رأس المال جاهزاً للدوس بكلتا قدميه على جميع القوانين والأعراف البشرية. ثم إذا تضاعفت النسبة إلى 200 أو 300 في المائة، فإن رأس المال يصبح، حيئنذٍ، مستعداً للقتال، قاتلاً أو مقتولاً.
نرى من كلام داننغ أن الطامع في المال يحتاج إلى أن تتضاعف نسبة الربح المتوقع أضعافاً مضاعفة لكي يصبح مستعداً للقتال. وهنا يظهر لنا الفرق الكبير بين حب المال وحب السلطة. لا يحتاج الطامع في السلطة، أو من يريد المحافظة عليها، إلى كل ذلك الوقت الطويل، ولا إلى كل ذلك التدرج، بل يغدو مستعداً للقتال، قاتلاً أو مقتولاً، منذ الوهلة الأولى، ويستمر ذلك الاستعداد للقتل حاضراً لديه طوال سيرورة طلب الحكم، وطوال الحاجة إلى المحافظة على الحكم، وطوال الوقت اللازم لاستعادة الحكم عند ضياعه.
هذا هو الفرق العظيم بين من يطلب مالاً ومن يطلب حكماً.
وهذا هو الفرق العظيم الذي يجعل طلب المال مباحاً وطلبَ الحكم مأثمة.
هناك أشخاص كثيرون يرون أن السعي إلى المناصب مثله مثل السعي إلى الرزق، وهذا خلط شنيع. الثابت أنه إن كنت تسعى إلى الحكم لإرضاء طموحك وغرورك، لأنك ترى أنك "تستحق"، فهذه كارثة على مستوى علاقتك بربك وكارثة على مجتمعك، الذي سيصبح معرضاً لفساد كبير. وإذا كنت واثقاً من "صلاح نيتك"، وأنك لا تريد بالحكم علواً في الأرض ولا فساداً، بل تريد الإصلاح ما استطعت، فإنك تكون قد زكيتَ نفسك، وأحسنت الظن بها، وهي الإمارة بالسوء، التي يجري الشيطان منها جري الدم في العروق، وتكون قد ألقيت بها في الفتنة والتهلكة، ولا يفعل ذلك عاقل.
الطريقة الوحيدة التي تجعل وصولك إلى الحكم جائزاً ومباركاً هو أن يأتي الحكم إليك معروضاً عليك، أو مفروضاً عليك، وأنت لا تريده أو لم تسع إليه، ولم تكن حريصاً عليه ولا فرحاً به. بمعنى أن يتولى الآخرون تزكيتك لمناصب الحكم، وترشيحك، والدفاع عن أهليتك. أما من يفرح بنيل الحكم، ويبتهج، ويقيم الولائم، ويجلس للناس لتهنئته، فهذا سفيه أحمق ما كان ينبغي أن يُسمح له بالاقتراب من كرسي الحكم.
وهناك كم كبير من الأحاديث المتواترة التي تثبت عدم جواز طلب الحكم، ويدور فحوى معظمها حول مبدأ "نحن لا نعطي هذا الأمر لمن طلبه ولا من حرص عليه". وبرّر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله، في حديث ابن سمرة آنف الذكر، إنّ من نال الحكم بدون سعيٍ إليه بورك له فيه وأعين عليه، وأما من ناله عن سعي ومطلبةٍ وحرص فإنه يوكل إلى نفسه.
ويا ويل حاكم أُوكله الله إلى نفسه! ويا ويل قومه به!
اتساع نطاق حب الوجاهة والرئاسة
كل هذا الصراع الدائر في الدول والمجتمعات، وكل هذه المآسي الناتجة عن الصراع، إنما هي بسبب حب الجاه والوجاهة والرئاسة! بالتأكيد لا ننسى دور حب المال، ولكن يجب أن نتذكر أن السعي إلى المال والموارد ليس إلا وسيلة لتحقيق الجاه والوجاهة والرئاسة. ولا ينحصر الأمر في الصراعات الدولية والسياسية والطبقية والقبلية، بل يشمل المشاحنات الفردية بين الأشخاص، بل والمآسي العائلية وقطيعة الرحم، فكل ذلك سببه شهوة خفية في التميز، والتفوق، والظهور، والرياسة. ولذلك يجب ألا يعتقد أحدٌ أن حب الرئاسة ينحصر في طلب مناصب الحكم، فهو يشمل جميع المجالات، لأن المصابين بحب الرئاسة يحبون الترؤس في كل شيء، وفي كل مكان.
فهناك تنافس بين العلماء سببه حب الرئاسة، وأنّ كل واحد يريد أن يصبح "شيخ الإسلام" الأوحد، والعالم العلامة والحبر الفهامة.
والتنافس بين الأقران في العمل والدراسة سببه حب التفوق من أجل الظهور والتميز.
والخصومات بين الجيران سببها الخفي نحن أكثر منكم مالاً وأعز نفرا.
وقطيعة الرحم تعود لتعالي بعض أولي القربى على بعض.
وحتى الخلافات الزوجية سببها صراع خفي على السيطرة والنفوذ داخل عش الزوجية.
وللأسف ليس هناك تثقيف في هذا الشأن، على الرغم من أن المجتمع يصبح معرضاً لشر مستطير إذا كان أفراده يسعون إلى مناصب الحكم، وإذا كان المجتمع يرى أن ذلك شيئاً مباحاً.
والذي يجعل حب الرئاسة، الظاهر منه و الخفي، هو المحرك الأول لخلافاتنا وصراعاتنا، العامة والفردية، هو أنه حبٌ شيطاني المصدر، ومرضي الطبع، ولذلك لا يلبث أن يستحوذ على القلب فيقضي على جميع أنواع الحب الأخرى، حتى لا يبقى في القلب إلا حب الرئاسة.
وهناك الكثير من الأقوال المأثورة التي تتحدث عن مدى تغلغل حب الحكم والرئاسة في القلوب.
ومن كلام الصوفية الذي صدقته الأيام والتجارب أن "آخر ما يخرج من قلوب الصالحين ومن رؤوس الصديقين حب الجاه والرئاسة"! فترى أحدهم يخفض صوته، ويتخشع في مشيته، ويزهد في لباسه وطعامه، فإذا نوزع رئاسته واقترب مخلوق من زخرف دنياه طاش عقله ونسي ما كان من أمره. هذا عن الصالحين والصدقين، فما بالك بالعامة.
ويقول يوسف بن أسباط رحمه الله إن بعض الناس يمكنه أن يزهد في الدنيا بكل متاعها ولكنه لا يقدر على الزهد في الرئاسة.
وكان بشر بن الحارث -رحمه الله - يقول: "لا يجد حلاوة الآخرة رجلٌ يحب أن يعرفه الناس". وهنا نرى العلاقة الضرورية بين حب الرئاسة والسمعة. واتفق العارفون على أنه "ما صدق الله من أحب الشهرة".
ويُحكى عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه كان في البادية مشغولاً بإبله، فرأى يوماً شبح رجل قادم من بعيد، فقال: "أعوذ بالله من شر هذا الراكب". فلما وصل القادم إذا به ابنه عمر، فلما نزل قال لأبيه: "يا أبتِ أنزلت في إبلك وغنمك، وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟" فضرب سعد في صدره وقال: أسكت، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي".
وشوهد ربيعة شيخ الإمام مالك يومًا وهو يبكي فقيل ما يبكيك؟ قال: "رياء حاضر، وشهوة خفية".
هذه الشهوة الخفية هي التي تقتلنا، وتجعلنا نتقاتل!
ودخل عم الإمام أحمد -رحمه الله- عليه فقال: "يا ابن أخي! ما هذا الغم؟ وما هذا الحزن؟ فرفع الإمام رأسه وقال: يا عم، طوبى لمن أخمل الله ذكره!"
يقول يزيد بن عبد الله بن موهب: "من أحب كثرة المال والشرف لم يعدل".
ويقول يحيى بن معاذ: "لا يفلح من شممتَ رائحة حب الرياسة منه".
أما نحن فشعارنا "السمعة ولا طولة العمر"، أي: اكتسب سمعةً ولا ضير إنْ قَصُر عمرك، "وحكم للساق ولا مال للخناق"!
الخلاصة
نحن بحاجة إلى إصلاح تربوي يقوم على توصيف الحكم على حقيقته: ابتلاء، ومسؤولية، وأمانة، يمكن أن تؤول إلى خزي وندامة يوم القيامة، وأنه ليس تشريفاً، ولا تكريماً، ولا مكافأة، ولا تنعيماً. يجب أن يعلم كبارنا، منذ الصغر، أن السلطة ابتلاء، مثلها مثل المرض، ينبغي ألا يطلبها أحد عاقل؛ ولكن إنْ جاءت بدون سعي، وباتفاق المحكومين، فلا يجوز رفضها ما دام الشخص المختار قادراً على الاضطلاع بأعبائها. وهذا ما فعله سيدنا يوسف الصديق عليه السلام، الذي لم يطلب الإمارة، وإنما عرضها عليه عزيز مصر حين قال له كما أخبر القرآن: "إنك اليوم لدينا مكين أمين". وينبغي أن نعلم أنّ من حصل على الحكم عن سعي وحرص، تركه الله لنفسه ولشيطانه، فلن يبارك له في حكمه.
ويجب أن نعلم أن إسناد مسؤوليات السلطة يحتاج إلى استعداد نفسي وأخلاقي كبير لكي يصبر الشخص علي تحمل أمانتها، وأداء حقها، وإلا فسيكون معرضاً لإغواء الشيطان فيحس بالخيلاء، ويفرح بالشهرة، ويغتر بالسمع والطاعة، ويحس أن السلطة جعلته فوق الناس في الدنيا وفي الآخرة.
وينبغي أن يقوم الإصلاح التربوي المنشود على إعلاء فضائل الزهد، والتواضع، وألا يكون السعي إلى الإنجاز وسيلة للحصول على الشهرة والسمعة.
وينبغي أن يعرف الكبار منذ الصغر أن ثاني الخلفاء الراشدين، سيدنا عمر بن الخطاب، سعى لكي ينال دعوة بالمغفرة من رجل بسيط، لم يكن صحابياً، بل كان تابعياً، ولم يكن من علماء الحديث ولا التفسير، هو أويس القرني. ويجب أن يكون أويس القرني من المعروفين في الإسلام بالضرورة!
ويجب أن يعرف الجميع من هو ذلك الصحابي الشاب، المجهول، الفقير، الذي لم يكن أحد من الصحابة يتوقع أن يكون هو المقصود بمقولة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم"سيدخل عليكم رجلٌ من أهل الجنة". ويجب أن يعلم الجميع إنه إذا كان هناك عشرة صحابة مشهورون مبشرون بالجنة فهناك عشرات الصحابة المجهولين المبشرين بالجنة، منهم هذا الصحابي الشاب.
ويجب أن نعرف أن الخلفاء الراشدين كانوا يرون أنهم قد أصبحوا بسلطة الخلافة في ابتلاء عظيم، ولم يكونوا يرون لأنفسهم فضلاً على غيرهم، بل على العكس، كانوا يغبطون إخوتهم الذين عافاهم الله من ابتلاء الحكم. كان أبو بكر الصديق يقول "ليت أمي لم تلدني"، وكان عمر الفاروق يخشى أن يكون في عداد المنافقين الذين نزلت في شأنهم آيات القرآن وأخبر الله بهم نبيه، صلى الله عليه وسلم. وما ذلك إلا لأنهم كانوا يخشون من أن يكون تكليفهم بأعباء سلطة الخلافة استدراج لهم.
أما الساعون إلى السلطة في زماننا هذا فيرون أنهم أصبحوا بالحكم من المصطفين الأخيار!
ومن المهم جداً أن نعلم أن السلطة لا ترفع قدر من تُسند إليه، ولا تنقص قدر من لم ينالها؛ وهي لا تُعطى لصاحب الشرف مكافأة له على شرفه، ولا تُمنع عن المسكين ازدراءً لأصله؛ فهي ليست حقاً لأحدٍ من الناس دون الناس، وهي ليست مغنماً فيُوْرَث، وليستَ كنزاً فيُوَرَّث، بل تظل دوماً أمانةً قد تغدو حسرةً وندامة.
كل الدنيا بزخرفها لا تساوي عند الله جناح بعوضة! وبالتالي فإن ملكها، أو رئاستها، أو خلافة مسلميها، أو إمارة مؤمنيها، ما هو إلا مثل جزء من جناح بعوضة! والعجيب أن الناس يتشرفون بما هو أقل من جناح بعوضة ويتقاتلون عليه!
ويجب أن يعلم كبارنا منذ الصغر أن حب السلطة، جنباً إلى جنب مع حب المال من أجل المال، يقضيان على الدين تماماً فلا يبقى للشخص معهما دين، تماماً مثل ذئبين جائعين أطلقا في غنم. الذئبان الجائعان يقضيان على الغنم؛ وحب السلطة وحب المال، من أجل الجاه، يقضيان على الدين: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلـم أنه قال: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ". والشرف هنا يعني الجاه والسلطة.
فهل يا ترى يجب أن نكتب حديث الذئبين الجائعين هذا، والأقوال المأثورة الأخرى، في مناهجنا الدراسية، أما في شوارع مدننا، أم نكتب ذلك بماء العينين في قلوبنا؟
elrayahabdelgadir@gmail.com
////////////////////////