اليتيمة .. قصة قصيرة

 


 

 

اليتيمة
قصة قصيرة
بقلم/ مالك معاذ أبو اديب

ضجت صالة مطار لوس انجلوس في صباح ذلك اليوم الربيعي الجميل واكتظت بالمسافرين والمودعين وعمال وموظفي الخطوط العالمية المختلفة.
حقائب من مختلف الاحجام والالوان والاوزان تُجر على البلاط فتصدر اصواتا مزعجة تصم الاذان وتشتت الافكار، ثم ما تلبث ان تختفي وتتلاشى جراء مكبرات الصوت معلنة عن موعد اقلاع طائرة او قرب هبوط اخرى.
اطفال وصبية يركضون ويتقافزون هنا وهناك ويتسابقون غير مبالين بمن حولهم، كأنهم في مضمار سباق حميم.
حسناوات من مختلف الملل والاعراق في قمة رونقهن وبهجتهن، يمشين الهوينا في دلال مصطنع كأنهن في معرض ازياء عالمي.
سيدات في اوج بريقهن وزينتهن، ابين الا ان يساهمن في كرنفال الالوان ذاك.
مضيفات فاتنات، مبتسمات، ممتشقات القوام، اضفى عليهن زيهن الزاهي القا وسحرا وجمالا.
طيارون في كامل اناقتهم وشموخهم، يحملون حقائبهم السوداء ويتجاذبون اطراف الحديث فيما بينهم بهدوء تام.
شيب يتوكأون على عصيهم او يتكئون على كراسيهم المتحركة ... شباب يسرعون في
كل اتجاه بخطى واسعة، واثقة.
وجوه ضاحكة مستبشرة بلقاء حبيب او قريب طال فراقه، ووجوه كساها الحزن والاسى لقرب فراق عزيز غالٍ.
ضحكات وقهقهات تعلوا هنا وهناك، وانين ونحيب يعلو ثم ينخفض.
دموع فرح ودموع حزن امتزجت معا وتدفقت شلالا رويا من العواطف الجياشة. فما اعجب ان يجتمع الحزن والفرح والابتسام والعبوس في ظرفي زمان ومكان معا !!
تأبطت حقيبتي الجلدية، ولملمت اشواقي اللامحدودة بعد ان انهيت
اجراءات سفري في زمن وجيز،
ميمما وجهي صوب صالة المغادرة.
تناقص الضجيج هنا واتسم كل شيء بالهدوء ؛ الهدوء الذي يسبق عاصفة السفر الطويل وما يصاحبه من تعب وملل وارق.
لم تكن تلك اول تجربة سفر لي، غير ان دقات قلبي تسارعت على غير عادتها واجتاحني شعور مشوب بالفرح والتوتر، لكنه كان اقرب الى الفرح؛ فرح لقاء الاهل والاحبة في الوطن الحبيب.
كان الجانب الآخر من صالة المغادرة مطلا على مدرجات هبوط واقلاع الطائرات، يفصله حاجز زجاجي سميك حيث لا يُسمع ضجيج الطائرات الضخمة وازيزها.
الكل هنا منشغل بالتحدث عبر هاتفه النقال او منكفيء على حاسوبه بكل حواسه، كمن يبحث عن دبوس في كومة قش.
اما انا فقد انتقلت بنظري وكل حواسي واحاسيسي الى خارج المطار عبر الحاجز الزجاجي السميك، مراقبا هبوط واقلاع الطائرات ومركزا نظري على طائرتي الضخمة التي سوف تبتلعها السماء بعد حين و" تحلق بي حيث لا امنيات تخيب ولا كائنات تمر" وتصبح بقدرة قادر في كف الريح !!
وبينما انا مستغرق في تلك الدوامة من التأمل الجميل، اذا بصوت عال يتناهى الي سمعي، معكرا صفو ذلك الهدوء الذي يكتنف الصالة.
الى ان فوجئت بطفلة في الخامسة من عمرها بصحبة امها وهي تناديني بأعلى صوتها بابا .. بابا ... بابا، وتجري نحوي وترتمي في احضاني وتقبلني بحرارة بينما امها تردد بحزن وعلى مقلتيها دموع لم تستطع حبسها: ليس هو يا حبيبتي، انه شبيه بابا يا ياحبيبتي !!
كنت شبيه والدها المتوفي وجها وطولا وملامح، عدا اللسان وبعض التفاصيل الدقيقة كما اخبرتني الام الارملة.
اعلن مكبر الصوت عن موعد اقلاع طائرتي، وما زالت الصغيرة تطوقني بذارعيها الصغيرتين وتبللني بدموعها الغزيرة وتستحلفني وتستجديني بالحاح شديد ان ابقى معها ولا ارحل بينما امها تحاول جاهدة ان تنتزعها من بين احضاني الى ان نجحت اخيرا.
كنت آخر راكب تطأ قدماه الطائرة، واتعس مسافر على متنها، تطارده نظرات اليتيمة ويطرق اذنيه صوتها المستجدي المفجوع !!

malikmaaz@yahoo.com
/////////////////////

 

آراء