اوراقي الأفريقية (8): مع جعفر نميري في مقديشو ومع الاخ ابو حريرة في طائرة زوجة الديكتاتور منقستو
السفير/ فاروق عبدالرحمن
3 July, 2021
3 July, 2021
farhmaneisa@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
في العام 1973م رافقت الرئيس نميرى لأول مرة في رحلة عمل قصيرة للصومال دارت كلها ولمدة يوم واحد فقط او اقل قليلاً في مقديشو العاصمة.. كنت اصلا في معية وزير الخارجية الدكتور منصور خالد لاجتماع لجنة ثلاثية عقد في نيروبي ضم كينيا والسودان وإثيوبيا وهي دول متجاورة بشكل مباشر ولاثيوبيا الحدود الأطول مع البلدين بينما يلتقي السودان وكينيا في حوالي مائتي كيلومتر تضم منطقة اليمي ELMI السودانية التي لا زالت كينيا تضع يدها عليها ..الآن تغيرت الخريطة كثيراً .. فقد ظهرت اولاً ارتيريا قبل ثلاثين عاماً كدولة مستقلة عن اثيوبيا وحازت على جزء مقدر من الحدود السابقة بين السودان وإثيوبيا بينما أخذت دولة جنوب السودان الجديدة كامل الحدود مع كينيا وربما آثرت في البداية السكوت عن مثلث اليمي.. تحركنا الى اديس ابابا لننضم للرئيس جعفر نميري القادم من الخرطوم والمكلف من طرف منظمة الوحدة الإفريقية التي أصبحت فيما بعد الاتحاد الافريقي بمهمة الوساطة بين الجارين اللدودين اثيوبيا والصومال وذلك في إطار المساعي الرامية لتخفيف التوتر في المنطقة المتأزمة منذ سنوات ..
امضى نميري يوماً في اديس ابابا في مفاوضات ثنائية مع الامبراطور هيلاسلاسي الذي كان على علاقة جيدة معه .. وبعد ذلك كما يبدو ذهب ليستمتع بأمسية وسهرة خاصة سمعت بها فيما بعد وشاهدت بعض نتائجها صبيحة اليوم التالي الذي كان هو يوم سفرنا إلى مقديشو .. جئنا للمطار وحسبما طلب إلينا في الثامنة صباحاً . لان المغادرة ستكون في التاسعة ولكن نميري لم يحضر إلا بعد العاشرة برفقة الامبراطور . كان نميرى يرتدي الزي العسكري الخشن ويكفكف ذراعيه مبرزاً عضلاته بينما كان هيلاسلاسي الذي كان ايضاً يرتدي الزي العسكري في أناقة تامة ويسير في خطوات محسوبة ومنظمة بجانب نميري الذي كان أكبر حجماً ويمشي ويتلفت يمنة ويسرة تغطي عينيه نظارات سوداء داكنة ويحف بهما الحرس ثم نحن من خلفهم إلى الطائرة والمفاجأه ان الطائرة التي نقلتنا كانت اثيوبيه مع أن الطائرة السودانية الرئاسية كانت رابضة في المطار .. لا أدري حتى اليوم لماذا ، خاصة اذا ماعلمنا ‘ حسبما قالوا لنا في وقت لاحق من نفس اليوم ان الطائرة الاثيوبية هذه ستكون أول طائرة تحلق فوق المجال الجوي الصومالي منذ زمن طويل وذلك بسبب القطيعة بين البلدين القائمة منذ حرب الاوغادين في مطلع الستينات بعيد استقلال الصومال عام 1960..
كان منصور خالد قلقاً عندما أطل علينا في الهوتيل الذي كنا نقيم فيه ( هيلتون أديس أبابا) ومنزعجاً لأن الرئيس يكثر من الشرب في اشارة ضمنية لأن السهرة الخاصة التي جرت في مكان ما بحضور ومشاركة بعض الفنانين السودانيين والاثيوبيين قد تمتد حتى الفجر الشيء الذي قد لا يجعل نميري في حالة جيدة لإتمام المهمة في يومنا ذاك إذ كان من المفترض أن نصل مقديشو في العاشرة والنصف لتبدأ المفاوضات في الثانية عشر لنعود لأديس أبابا مساء نفس اليوم ..
عندما هبطت الطائرة في منتصف نهار يوم مشمس جميل كانت المدينة كلها تقريباً تستقبل نميرى بالدفوف والاهازيج والرقص في سعادة حقيقية بالغة تعبرعن حبهم للسودان وشعبه حتى أنهم تجاوزوا بعين الرضا طائرة العدو الاثيوبي اللدود التي تجرأت و جثمت على أرضهم . ونزل نميري في حماس يعانق ويصافح ويربت بقوة ( بل ويلبع) على أكتاف وظهور العشرات من مستقبليه .. يقيني أن عدداً منهم قد تفككت ضلوعهم ذلك اليوم .. ثم اعتلى سيارة محيياً الجماهير على طول الطريق إلى القصر الجمهوري المعروف باسم " فيلا صوماليا" يجاوره في الجلوس بالطبع الرئيس الصومالي سياد بري الذي كان قد جاء للسلطة في انقلاب عسكري في أكتوبرعام 1969. اي بعد بضعة أشهر من نميري نفسه ومن الانقلابي الثالث في منطقة الجوار معمر القذافي في ليبيا .. كان نميري قد زاد من جرعاته داخل الطائرة الاثيوبية الشيء الذي زاد من انزعاج منصور الذي كان يأتينا في الدرجة السياحية احياناً ليطلب منا إعداد بعض المذكرات أو تسجيل بعض النقاط ونميري وقلة من المرافقين في الدرجة الأولى لا نراهم مباشرة فقد صعدنا نحن اولاً على الطائرة وهبطنا منها بعدهم ..
عند الوصول الى القاعة الكبرى في فيلا صوماليا التى عجت بنحو مائة من كبار ضباط الجيش والبوليس والسجون ( وسياد بري ينتمي للمجموعة الأخيرة) يشكلون مجلس قيادة الثورة كان واضحاً ان نميري قد ارهق نفسه بما فيه الكفاية ولم ينم طوال ليلة الامس وربما ايضاً الليلة السابقة لها .. المهم أنه كان ثملاً للغاية ومع ذلك كان متماسكاً ..
جاءت شابة صومالية جميلة تحمل إلينا مشروبات باردة ذات ألوان براقة وبدأت بالضيف الكبير ثم طافت علينا وكنا سبعة من السودانيين يجلس وسطنا الرئيس سياد بري وحده بينما انتشر الصوماليون في القاعة من حولنا .. كان نميري قد وضع نظارته السوداء جانباً وأخذ يتابع ما يجري .. لاحظت من جانبي وكنت قريباً جداً منه اذ يجلس فقط منصور خالد بيني وبينه ونحن في شبه دائرة ( بينما جلس السفير مصطفى مدني من الجانب الآخر من الرئيس بري) . لاحظت انه يتابع بنظراته الشابه الصومالية التى كانت قد ابتعدت داخل القاعة توزع المشروبات - وكلها حلال- على أعضاء مجلس الثورة وعندما لم تنقطع نظراته قلت لنفسي " الله يستر ويخارجنا من هنا بالسلامه " ..
سياد بري يتحدث العربية بلكنة ثقيلة حتى لتكاد لا تعرف ان كان يتحدث بها او بلغة اخرى ( الصومالية واحياناً الايطاليه ) ونميري مشغول ونحن مهمومون وفجاة نسمعه ينادي باعلى صوته " المبروكه المبروكه " توقف الحديث داخل القاعة وصمت الجميع .. التفتت البنت فعرفت انها المقصوده ولم تعرف ماذا تفعل فما كان من نميري إلا ان واصل " تعالي هنا " ..
لاحول ولا قوة الا بالله .. كدت اطير من مقعدي . ما هذه المصيبة التي كنت استشعرها منذ أن شاهدت الرجل في مطار أديس أبابا .. اتت الشابة تتهادى صوب نميري والجميع يحبس انفاسه ولما اقتربت مد يدة قائلاً " اديني مويه " وتناول كوباً من الصينيه .. هنا وقف الرئيس سياد بري يقول لنميري " سيادة الرئيس أرجو أن تسمح لي بالانصراف لا تركك ترتاح من تعب الرحلة ( التي كانت نحو ساعة وربع فقط ) على أن نلتقي في المساء على طاولة المباحثات فمع السلامه " .. فما كان من نميري إلا أن هب واقفاً وقائلاً " انت قايلني انا جبان ؟( ولعله قصد تعبان) انا حمشي معاك لغاية العربية " وبالفعل مشى معه الى حيث تقف السيارة الرئاسية أدنى درج مكون من نحو عشرين عتبة اسمنتية كان نميري احياناً يتخطى بعضها دون ان تلامسها قدماه ووقف بجانب السيارة حتى غادر بري الى بيته ..
بدأت المباحثات في العاشرة ليلاً واستمرت إلى وقت متأخر .. لم اكن من المشاركين فهي قاصرة على الرئيس و الوزير ( منصور) بالإضافة لسفيري السودان في الصومال ( معاوية سروج) وإثيوبيا ( مصطفى مدني ) وبقينا نحن نتابع من خارج القاعة حيث أتانا من يقول المباحثات كانت جيدة وأن نميري الذي عوض سهرة أديس أبابا بنومه عميقة طوال نهار وعصر ذلك اليوم قد أدار الأمور على خير وجه ..
وفي صباح اليوم التالي عدنا الى اديس ابابا ثم واصلنا الى الخرطوم في نفس اليوم وهكذا انقضت هذه الرحلة الوحيدة التي ضمتني في طائرة واحدة مع جعفر نميري طوال فترة حكمه التي استمرت ستة عشر عاماً الا ستة أسابيع ..
الاخ د. محمد يوسف ابو حريرة عضو البرلمان ( وزير التجارة الشهير عام 1986) لم تكن لي به صلة من أي نوع حتى اكملنا الجامعةفي العام 1965 غير أنه قد كان زميلاً لصديقي هاشم التني في كلية القانون غير المجاورة لكليتنا ويسبقاني بعام كامل في الدراسة( تخرجنا في عام واحد نسبه لان الدراسة في القانون خمسة سنوات والاقتصاد أربع سنوات) كنت أحفظ اسمه المميز واتذكر ملامحه الهادئة وابتساماته الخجولة ..بعد معاركه الشهيرة كوزير للتجارة مع خصومه السياسيين في حكومة الصادق المهدي عاد الى الصفوف الخلفية في البرلمان حتى تم اختياره ممثلا للسودان في المجلس البرلماني المشترك في بروكسل الذي كنا نحن في السفارة قد فزنا به وهنا توثقت علاقتي القصيره به ) في اطار عملنا في هذا المجال كنا عائدين من جيبوتي إلى السودان مروراً بأديس أبابا وجدنا أنفسنا نشارك زوجة الرئيس الأثيوبي منغستو هايلي مريم نفس الرحلة الجوية من مدينة دير داوا الى اديس ابابا .. وكان معنا عدد من نواب البرلمان الأوربي وكذلك بعض الوزراء الأفارقة أعضاء ما يعرف بالمجلس البرلماني المشترك لدول اتفاقية لومي ( بين إفريقيا ودول الكاريبي ودول الباسيفيكي ويرمز إليها (ACP) من جانب وبين الاتحاد الأوروبي من جانب آخر ) .. كل هؤلاء كانوا شهوداً على شئ مذهل .. طائرة تجارية مدنية من طراز بوينج 737 شبه جديده تابعة للخطوط الجوية الاثيوبية يدخلها ستون (60) عسكرياً بملابسهم الرسميه يحملون اسلحة بارزة للعيان بعضها مضاد للدبابات ويجلسون وسط الطائره بعد أن جلسنا نحن ركاب الدرجة السياحية في المقاعد الخلفية وكنا قد استغربنا لذلك عندما تحركت الطائرة من جيبوتي وهي شبه فارغة لماذا أصر قائدها ومعاونوه على اجلاسنا في الصفوف الخلفية ونحن قلة . كما أن بعضنا كان اصلاً من ركاب الدرجة الاولى كوزير التجارة الموزمبيقي الذي كان يجلس بجواري ويتبادل معي الحيره فيما كان يجري .. وركب نحو عشرة مرافقين آخرين يرتدون بدلة ماو الصينية زرقاء اللون بعضهم في الدرجة الأولى ( حيث كان يجلس الاخ ابو حريره) وبعضهم في المقاعد الأمامية في الدرجة السياحية ( اي كنا نراهم بسهوله و نحصي عددهم ) قبل أن نرى من الشباك سيارة مرسيدس فخمة تقف تحت الطائرة تقريباً تنزل منها سيدة أثيوبية في ملابس تقليدية تعتلي السلم مباشرةً لتنطلق الطائرة فور ذلك .. وبعد نصف ساعة هبطنا في أديس أبابا فكانت التوجيهات لكل الركاب إن ابقوا جالسين في اماكنكم وشاهدنا ثانيةً من النوافذ سيارة فخمة أخرى تقترب من سلم الطائرة بينما أسرع الجنود الستون فور خروجهم من الطائرة يقفزون فوق عربات الاسكاوت العسكرية المكشوفة التي أحاطت بالمرسيدس وانطلقوا الى خارج المطار ثم سمح لنا بالنزول .. كانت تلك زوجة منقستو هيلامريم الهارب من العدالة واللاجئ في زيمبابوي بأموال الشعب الإثيوبي المسكين بعد ان ارسل الى المحرقة مئات الألوف منهم في حربه الخاسرة في اريتريا .. في ذات الوقت ( صيف 1988) كان رئيسنا السيد أحمد الميرغني طيب الله ثراه يتمشي آمنا في هولندا دون حراسة وقد حكى لي صديقي وزميلي وجاري الفكي عبد الله الفكي عليه رحمة الله السفير آنذاك في لاهاي ان السيد احمد الميرغني وهو رأس الدولة جاءهم في إجازة خاصة يرافقه شخص واحد هو ابن عمه فسكنا في شقة عادية ولم تكن لهما سيارة طوال الوقت .. كان الفكي يرسل لهم سيارته عندما لا تكون عنده حاجه رسميه لها ( فالاسبقية لعمل السفير) كما كان يبعث بطباخه ليقوم بالواجب بحده الادنى ولم يكن هناك تذمر او استياء على الإطلاق كان الضيفان يفضلان المشي على الأقدام ولم تكن هنالك حراسة خاصة..
من جانب آخر حكي لي أحد كبار المسئولين في رئاسة مجلس الوزراء ان المرحومة سارة الفاضل حرم رئيس الوزراء الصادق المهدي عليه رحمة الله قد جاءتهم يوماً وهي في غاية الحرج تسألهم جالونين من البنزين لسيارتها الخاصة في وقت كانت ندرة في الوقود تعم العاصمة قال لي انها اعتذرت بشدة على طلبها ..
لازلت اعتقد ان حكامنا المنتخبين يستحقون هم واسرهم حداً ادني من الامتيازات والحماية ولكن لا اطالب لهم بمثل ما رأيت بعيني في إثيوبيا المجاورة ودول إفريقية أخرى ..
وإذ اتحدث عن التواضع لا يمكنني أن أنسى مواقف معينه تبين الفرق بين ماهو أصيل وماهو مفتعل .. اشاهد عدداً من رؤساء بل وملوك العالم الثالث يتبخترون في ازياء غالية الثمن يحيط بهم الحرس والخدم يكاد يمنعون عنهم ملامسة الهواء دعك عن الاحتكاك بمواطنيهم من بني البشر الذين كانوا هم من اوسط او ادنى طبقاتهم الى أن استولوا يوماً على السلطة وفرضوا انفسهم حكاماً بينما الملوك الأوروبيون ورؤساء الدول الديمقراطية الكبرى خداماً لشعوبهم لايتعالون عليهم ابداً .. الملك بدوان وزوجته الملكة فابيولا وكذلك بقية أفراد العائلة المالكة في بلجيكا يختلطون بضيوفهم ويبتسمون في وجوههم ويتبادلون معهم الحديث الودي وكثيراً ما يقدم الملك بنفسه طبق الحلوى أو الكعك لؤلائك الذين ربما كان قد احتك كتفه بكتف أحدهم في تلك القاعة المزدحمة أو اصطدمت قدمه بقدمه ..لا انسى ان خصنيّ يوم تقديم أوراق اعتمادي له في مطلع عام 1988 بخمسة عشر دقيقة إضافية تبادل معي فيها الحديث عن السودان والكونغو ( مستعمرتهم السابقة والهامة في افريقيا ) بعد ان علم من سيرتي الذاتية المتواضعة انني كنت حاضراً في كينشاسا زيارته الثانية لتلك البلاد بعد عشرة أعوام من استقلالها في يونيو 1970.. كم كان الرجل متواضعاً و ودوداً..
الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران زار بانغي لمدة يوم واحد فأتي كعادته على متن طائرة كونكورد وقد كنا في استقباله في المطار ثم حضرنا حفل العشاء الراقص الذي أقامه له الجنرال كولنقبا رئيس الجمهورية الذي ألقى كلمة ترحيب . وعندما صعد للمنصة كان محاطاً بثلاثه من حراسه او معاونيه أحدهم يحمل الكلمة المكتوبة والثاني يحمل النظارة الطبية والثالث يصب له كوباً من الماء كل بضع دقائق وعندما يكمل الجنرال قراءة صفحة من كلمته يناولها للماسك بالملف او يسرع صاحبنا هذا ليستلمها .. وعندما حان الدور على الرئيس ميتران الذي كان أكبر سناً بشكل واضح مقارنة مع الجنرال لم يفعل أكثر من ان صعد المنصة وحده وأخرج من جيبه ورقته ومن جيبه الآخر نظارته والقى كلمته وعاد وحده لمكانه بعد ان أودع أوراقه والنظارة في مكانهم .. كنا في ذلك اليوم قد وجدنا على المائدة أنواعاً جديدة من الأجبان الفرنسيه والنبيذ الفاخر وكذلك الزهور و الورود النديه فعرفنا ان الضيف هو من أتى بها وكانت بالفعل قد هبطت في المدينة طائرة فرنسية اخرى اتت بالتموين اللازم ..
كنت منذ سنين عددا مستاءً من حب الظهور لدى الحكام الأفارقة والعرب ايضاً وادعائهم الأهمية ففي ايامي في كينشاسا (1969-1971) واقترابي كثيراً من الرئيس موبوتو كنت ابذل مجهوداً لاسيطرعلى نفسي فلا أتجاوز حدود الادب الدبلوماسي خاصةً بعد أن أصبح الرجل من أثرى أثرياء العالم وهو القادم من أفقر طبقات المجتمع .. و قد يكون من المفيد ان نذكر ان السواد الاعظم من الرؤساء الأفارقة بعد ان انغمسوا في الفساد وقاموا بسرقة شعوبهم المسكينة اتجهوا لتوريث ابنائهم السلطة مثال لذلك الإمبراطور بوكاسا في افريقيا الوسطى والرئيس اياديما في توجو و كابيلا في الكونغو وعمر بنقو في القابون و حالياً ادريس ديبي في تشاد ..بينما حاول موغابي ( الذي استولى على أموال منقستو هيلامريم المنهوبة من الشعب الإثيوبي المسكين) توريث زوجته و قذافي توريث ابنه سيف الإسلام وحسني مبارك توريث ابنه جمال بينما حتى الذين لم يكن لهم أبناء حاولوا توريث أشقائهم او أقاربهم مثل عبد العزيز بوتفليقة رغم انه كان احد الثوار وله تاريخ حافل منذ شبابه الباكر ولاننسى ليلي الطرابلسي زوجة زين العابدين بن علي التي أتت بكل اقربائها ولا نذهب بعيداً عن الرئيس المخلوع عمر البشير الذي أتى بأغلبية أقاربه للاستيلاء على كثير من موارد السودان. من الرؤساء الأفارقة حتى وإن تركوا الحكم بطريقة او أخرى فقد نهبوا الأموال فابنة رئيس أنجولا الثائر المناضل الكبير دوس سانتوس بفضل الاموال المنهوبة هى اغنى امراة افريقيه بمبلغ يزيد عن 4 مليار دولار ..
في نيويورك ونحن جالسون حتى الساعات الأولى من الفجر في مداولات مجلس الأمن الدولي أيام اشتعال الحرب عام 1973 والسودان وقتها العضو العربي الوحيد بالمجلس كنت اكاد انفجر من الغيظ وانا ارى احد معاوني وزير الخارجية المصري أحمد حسن الزيات يتقدم كل بضع دقائق ليس فقط ليصب الماء في كأس الوزير الذي كان يقرأ كلمته المكتوبة من مقعده المخصص له في طرف الدائرة التي تضم الأعضاء الخمسة عشر بالإضافة للأمين العام وإنما ليشعل له السجاره ذات المبسم ايضاً ويعود ليجلس خلفه مع حشد من أعضاء الوفد المصري بينما المندوب الإسرائيلي يوسف تكواه الجالس بجوار الوزير المصري يحمل غليونه ( الكدوس) في يد وأوراقه في اليد الأخرى عندما يؤذن له بالحديث يرتفع صوته دون حوجه لمشجعين أو هتافه يحيطون به ..( كانوا في ذلك الوقت يسمحون بالتدخين داخل القاعات والطائرات وقد ذكرت لكم في مقال سابق كيف أن إبراهيم حكيم ممثل حركة البوليساريو الذي كان يجلس في الدرجة الأولى في الطائرة من باريس الى برازافيل يدخن سجار الهافانا الكوبي غالي الثمن ويهاجم النظام المغربي واتهامه بالاستيلاء على الصحراء الغربية قبل أن ينقلب على عقبيه وينسلخ عن مجموعته التي تركها في صحراء تندوف )..
كنت في زيارتي الاولى والثانيه للسويد عام 1962و1963 ومروري ايضاً بفنلدا والدنمارك والنرويج عرفت كيف أن ملوكهم ورؤساء حكوماتهم يمشون في الأسواق أو يركبون الدراجات الهوائية وسط مواطنيهم . في وقت لاحق وحتى اللحظة نتابع اخبار الملك كارل قوستاف فعلمت كيف انه انقذ شابه سويديه من الموت سقطت من أحدى البلكونات بأن حملها على كتفه وكان يتمشى مع كلبه ليلا والثلج يتساقط بكثافة فأسرع بها حيث تم إسعافها ..
مرة أخرى قرأت أنه أقر بخطئه بتجاوز السرعة القانونية وهو يقود سيارته قرب مطار كوبنهاجن المجاورة لبلاده وقدم اعتذاراً.
بداية اعجابي للملك عندما جاء للندن رفقة زوجته عام 1976 وهبطا ضمن الركاب العاديين ووقفا في صف الجوازات والجمارك قبل أن يستقلا سيارة تاكسي إلى المدينة .. كل الصحف الانجليزيه أبرزت الخبر بالصور كنت وقتها اقوم بتصريف الأعمال في السفارة السودانية و اعاني ما اعاني من تبرم المسئولين السودانيين الزائرين للندن وادعائهم المعاناة في المطار عند الوصول .. فكنت أبرز لهم تلك القصاصات الصحفية عن الملك والملكة لاسكاتهم بها .
بسم الله الرحمن الرحيم
في العام 1973م رافقت الرئيس نميرى لأول مرة في رحلة عمل قصيرة للصومال دارت كلها ولمدة يوم واحد فقط او اقل قليلاً في مقديشو العاصمة.. كنت اصلا في معية وزير الخارجية الدكتور منصور خالد لاجتماع لجنة ثلاثية عقد في نيروبي ضم كينيا والسودان وإثيوبيا وهي دول متجاورة بشكل مباشر ولاثيوبيا الحدود الأطول مع البلدين بينما يلتقي السودان وكينيا في حوالي مائتي كيلومتر تضم منطقة اليمي ELMI السودانية التي لا زالت كينيا تضع يدها عليها ..الآن تغيرت الخريطة كثيراً .. فقد ظهرت اولاً ارتيريا قبل ثلاثين عاماً كدولة مستقلة عن اثيوبيا وحازت على جزء مقدر من الحدود السابقة بين السودان وإثيوبيا بينما أخذت دولة جنوب السودان الجديدة كامل الحدود مع كينيا وربما آثرت في البداية السكوت عن مثلث اليمي.. تحركنا الى اديس ابابا لننضم للرئيس جعفر نميري القادم من الخرطوم والمكلف من طرف منظمة الوحدة الإفريقية التي أصبحت فيما بعد الاتحاد الافريقي بمهمة الوساطة بين الجارين اللدودين اثيوبيا والصومال وذلك في إطار المساعي الرامية لتخفيف التوتر في المنطقة المتأزمة منذ سنوات ..
امضى نميري يوماً في اديس ابابا في مفاوضات ثنائية مع الامبراطور هيلاسلاسي الذي كان على علاقة جيدة معه .. وبعد ذلك كما يبدو ذهب ليستمتع بأمسية وسهرة خاصة سمعت بها فيما بعد وشاهدت بعض نتائجها صبيحة اليوم التالي الذي كان هو يوم سفرنا إلى مقديشو .. جئنا للمطار وحسبما طلب إلينا في الثامنة صباحاً . لان المغادرة ستكون في التاسعة ولكن نميري لم يحضر إلا بعد العاشرة برفقة الامبراطور . كان نميرى يرتدي الزي العسكري الخشن ويكفكف ذراعيه مبرزاً عضلاته بينما كان هيلاسلاسي الذي كان ايضاً يرتدي الزي العسكري في أناقة تامة ويسير في خطوات محسوبة ومنظمة بجانب نميري الذي كان أكبر حجماً ويمشي ويتلفت يمنة ويسرة تغطي عينيه نظارات سوداء داكنة ويحف بهما الحرس ثم نحن من خلفهم إلى الطائرة والمفاجأه ان الطائرة التي نقلتنا كانت اثيوبيه مع أن الطائرة السودانية الرئاسية كانت رابضة في المطار .. لا أدري حتى اليوم لماذا ، خاصة اذا ماعلمنا ‘ حسبما قالوا لنا في وقت لاحق من نفس اليوم ان الطائرة الاثيوبية هذه ستكون أول طائرة تحلق فوق المجال الجوي الصومالي منذ زمن طويل وذلك بسبب القطيعة بين البلدين القائمة منذ حرب الاوغادين في مطلع الستينات بعيد استقلال الصومال عام 1960..
كان منصور خالد قلقاً عندما أطل علينا في الهوتيل الذي كنا نقيم فيه ( هيلتون أديس أبابا) ومنزعجاً لأن الرئيس يكثر من الشرب في اشارة ضمنية لأن السهرة الخاصة التي جرت في مكان ما بحضور ومشاركة بعض الفنانين السودانيين والاثيوبيين قد تمتد حتى الفجر الشيء الذي قد لا يجعل نميري في حالة جيدة لإتمام المهمة في يومنا ذاك إذ كان من المفترض أن نصل مقديشو في العاشرة والنصف لتبدأ المفاوضات في الثانية عشر لنعود لأديس أبابا مساء نفس اليوم ..
عندما هبطت الطائرة في منتصف نهار يوم مشمس جميل كانت المدينة كلها تقريباً تستقبل نميرى بالدفوف والاهازيج والرقص في سعادة حقيقية بالغة تعبرعن حبهم للسودان وشعبه حتى أنهم تجاوزوا بعين الرضا طائرة العدو الاثيوبي اللدود التي تجرأت و جثمت على أرضهم . ونزل نميري في حماس يعانق ويصافح ويربت بقوة ( بل ويلبع) على أكتاف وظهور العشرات من مستقبليه .. يقيني أن عدداً منهم قد تفككت ضلوعهم ذلك اليوم .. ثم اعتلى سيارة محيياً الجماهير على طول الطريق إلى القصر الجمهوري المعروف باسم " فيلا صوماليا" يجاوره في الجلوس بالطبع الرئيس الصومالي سياد بري الذي كان قد جاء للسلطة في انقلاب عسكري في أكتوبرعام 1969. اي بعد بضعة أشهر من نميري نفسه ومن الانقلابي الثالث في منطقة الجوار معمر القذافي في ليبيا .. كان نميري قد زاد من جرعاته داخل الطائرة الاثيوبية الشيء الذي زاد من انزعاج منصور الذي كان يأتينا في الدرجة السياحية احياناً ليطلب منا إعداد بعض المذكرات أو تسجيل بعض النقاط ونميري وقلة من المرافقين في الدرجة الأولى لا نراهم مباشرة فقد صعدنا نحن اولاً على الطائرة وهبطنا منها بعدهم ..
عند الوصول الى القاعة الكبرى في فيلا صوماليا التى عجت بنحو مائة من كبار ضباط الجيش والبوليس والسجون ( وسياد بري ينتمي للمجموعة الأخيرة) يشكلون مجلس قيادة الثورة كان واضحاً ان نميري قد ارهق نفسه بما فيه الكفاية ولم ينم طوال ليلة الامس وربما ايضاً الليلة السابقة لها .. المهم أنه كان ثملاً للغاية ومع ذلك كان متماسكاً ..
جاءت شابة صومالية جميلة تحمل إلينا مشروبات باردة ذات ألوان براقة وبدأت بالضيف الكبير ثم طافت علينا وكنا سبعة من السودانيين يجلس وسطنا الرئيس سياد بري وحده بينما انتشر الصوماليون في القاعة من حولنا .. كان نميري قد وضع نظارته السوداء جانباً وأخذ يتابع ما يجري .. لاحظت من جانبي وكنت قريباً جداً منه اذ يجلس فقط منصور خالد بيني وبينه ونحن في شبه دائرة ( بينما جلس السفير مصطفى مدني من الجانب الآخر من الرئيس بري) . لاحظت انه يتابع بنظراته الشابه الصومالية التى كانت قد ابتعدت داخل القاعة توزع المشروبات - وكلها حلال- على أعضاء مجلس الثورة وعندما لم تنقطع نظراته قلت لنفسي " الله يستر ويخارجنا من هنا بالسلامه " ..
سياد بري يتحدث العربية بلكنة ثقيلة حتى لتكاد لا تعرف ان كان يتحدث بها او بلغة اخرى ( الصومالية واحياناً الايطاليه ) ونميري مشغول ونحن مهمومون وفجاة نسمعه ينادي باعلى صوته " المبروكه المبروكه " توقف الحديث داخل القاعة وصمت الجميع .. التفتت البنت فعرفت انها المقصوده ولم تعرف ماذا تفعل فما كان من نميري إلا ان واصل " تعالي هنا " ..
لاحول ولا قوة الا بالله .. كدت اطير من مقعدي . ما هذه المصيبة التي كنت استشعرها منذ أن شاهدت الرجل في مطار أديس أبابا .. اتت الشابة تتهادى صوب نميري والجميع يحبس انفاسه ولما اقتربت مد يدة قائلاً " اديني مويه " وتناول كوباً من الصينيه .. هنا وقف الرئيس سياد بري يقول لنميري " سيادة الرئيس أرجو أن تسمح لي بالانصراف لا تركك ترتاح من تعب الرحلة ( التي كانت نحو ساعة وربع فقط ) على أن نلتقي في المساء على طاولة المباحثات فمع السلامه " .. فما كان من نميري إلا أن هب واقفاً وقائلاً " انت قايلني انا جبان ؟( ولعله قصد تعبان) انا حمشي معاك لغاية العربية " وبالفعل مشى معه الى حيث تقف السيارة الرئاسية أدنى درج مكون من نحو عشرين عتبة اسمنتية كان نميري احياناً يتخطى بعضها دون ان تلامسها قدماه ووقف بجانب السيارة حتى غادر بري الى بيته ..
بدأت المباحثات في العاشرة ليلاً واستمرت إلى وقت متأخر .. لم اكن من المشاركين فهي قاصرة على الرئيس و الوزير ( منصور) بالإضافة لسفيري السودان في الصومال ( معاوية سروج) وإثيوبيا ( مصطفى مدني ) وبقينا نحن نتابع من خارج القاعة حيث أتانا من يقول المباحثات كانت جيدة وأن نميري الذي عوض سهرة أديس أبابا بنومه عميقة طوال نهار وعصر ذلك اليوم قد أدار الأمور على خير وجه ..
وفي صباح اليوم التالي عدنا الى اديس ابابا ثم واصلنا الى الخرطوم في نفس اليوم وهكذا انقضت هذه الرحلة الوحيدة التي ضمتني في طائرة واحدة مع جعفر نميري طوال فترة حكمه التي استمرت ستة عشر عاماً الا ستة أسابيع ..
الاخ د. محمد يوسف ابو حريرة عضو البرلمان ( وزير التجارة الشهير عام 1986) لم تكن لي به صلة من أي نوع حتى اكملنا الجامعةفي العام 1965 غير أنه قد كان زميلاً لصديقي هاشم التني في كلية القانون غير المجاورة لكليتنا ويسبقاني بعام كامل في الدراسة( تخرجنا في عام واحد نسبه لان الدراسة في القانون خمسة سنوات والاقتصاد أربع سنوات) كنت أحفظ اسمه المميز واتذكر ملامحه الهادئة وابتساماته الخجولة ..بعد معاركه الشهيرة كوزير للتجارة مع خصومه السياسيين في حكومة الصادق المهدي عاد الى الصفوف الخلفية في البرلمان حتى تم اختياره ممثلا للسودان في المجلس البرلماني المشترك في بروكسل الذي كنا نحن في السفارة قد فزنا به وهنا توثقت علاقتي القصيره به ) في اطار عملنا في هذا المجال كنا عائدين من جيبوتي إلى السودان مروراً بأديس أبابا وجدنا أنفسنا نشارك زوجة الرئيس الأثيوبي منغستو هايلي مريم نفس الرحلة الجوية من مدينة دير داوا الى اديس ابابا .. وكان معنا عدد من نواب البرلمان الأوربي وكذلك بعض الوزراء الأفارقة أعضاء ما يعرف بالمجلس البرلماني المشترك لدول اتفاقية لومي ( بين إفريقيا ودول الكاريبي ودول الباسيفيكي ويرمز إليها (ACP) من جانب وبين الاتحاد الأوروبي من جانب آخر ) .. كل هؤلاء كانوا شهوداً على شئ مذهل .. طائرة تجارية مدنية من طراز بوينج 737 شبه جديده تابعة للخطوط الجوية الاثيوبية يدخلها ستون (60) عسكرياً بملابسهم الرسميه يحملون اسلحة بارزة للعيان بعضها مضاد للدبابات ويجلسون وسط الطائره بعد أن جلسنا نحن ركاب الدرجة السياحية في المقاعد الخلفية وكنا قد استغربنا لذلك عندما تحركت الطائرة من جيبوتي وهي شبه فارغة لماذا أصر قائدها ومعاونوه على اجلاسنا في الصفوف الخلفية ونحن قلة . كما أن بعضنا كان اصلاً من ركاب الدرجة الاولى كوزير التجارة الموزمبيقي الذي كان يجلس بجواري ويتبادل معي الحيره فيما كان يجري .. وركب نحو عشرة مرافقين آخرين يرتدون بدلة ماو الصينية زرقاء اللون بعضهم في الدرجة الأولى ( حيث كان يجلس الاخ ابو حريره) وبعضهم في المقاعد الأمامية في الدرجة السياحية ( اي كنا نراهم بسهوله و نحصي عددهم ) قبل أن نرى من الشباك سيارة مرسيدس فخمة تقف تحت الطائرة تقريباً تنزل منها سيدة أثيوبية في ملابس تقليدية تعتلي السلم مباشرةً لتنطلق الطائرة فور ذلك .. وبعد نصف ساعة هبطنا في أديس أبابا فكانت التوجيهات لكل الركاب إن ابقوا جالسين في اماكنكم وشاهدنا ثانيةً من النوافذ سيارة فخمة أخرى تقترب من سلم الطائرة بينما أسرع الجنود الستون فور خروجهم من الطائرة يقفزون فوق عربات الاسكاوت العسكرية المكشوفة التي أحاطت بالمرسيدس وانطلقوا الى خارج المطار ثم سمح لنا بالنزول .. كانت تلك زوجة منقستو هيلامريم الهارب من العدالة واللاجئ في زيمبابوي بأموال الشعب الإثيوبي المسكين بعد ان ارسل الى المحرقة مئات الألوف منهم في حربه الخاسرة في اريتريا .. في ذات الوقت ( صيف 1988) كان رئيسنا السيد أحمد الميرغني طيب الله ثراه يتمشي آمنا في هولندا دون حراسة وقد حكى لي صديقي وزميلي وجاري الفكي عبد الله الفكي عليه رحمة الله السفير آنذاك في لاهاي ان السيد احمد الميرغني وهو رأس الدولة جاءهم في إجازة خاصة يرافقه شخص واحد هو ابن عمه فسكنا في شقة عادية ولم تكن لهما سيارة طوال الوقت .. كان الفكي يرسل لهم سيارته عندما لا تكون عنده حاجه رسميه لها ( فالاسبقية لعمل السفير) كما كان يبعث بطباخه ليقوم بالواجب بحده الادنى ولم يكن هناك تذمر او استياء على الإطلاق كان الضيفان يفضلان المشي على الأقدام ولم تكن هنالك حراسة خاصة..
من جانب آخر حكي لي أحد كبار المسئولين في رئاسة مجلس الوزراء ان المرحومة سارة الفاضل حرم رئيس الوزراء الصادق المهدي عليه رحمة الله قد جاءتهم يوماً وهي في غاية الحرج تسألهم جالونين من البنزين لسيارتها الخاصة في وقت كانت ندرة في الوقود تعم العاصمة قال لي انها اعتذرت بشدة على طلبها ..
لازلت اعتقد ان حكامنا المنتخبين يستحقون هم واسرهم حداً ادني من الامتيازات والحماية ولكن لا اطالب لهم بمثل ما رأيت بعيني في إثيوبيا المجاورة ودول إفريقية أخرى ..
وإذ اتحدث عن التواضع لا يمكنني أن أنسى مواقف معينه تبين الفرق بين ماهو أصيل وماهو مفتعل .. اشاهد عدداً من رؤساء بل وملوك العالم الثالث يتبخترون في ازياء غالية الثمن يحيط بهم الحرس والخدم يكاد يمنعون عنهم ملامسة الهواء دعك عن الاحتكاك بمواطنيهم من بني البشر الذين كانوا هم من اوسط او ادنى طبقاتهم الى أن استولوا يوماً على السلطة وفرضوا انفسهم حكاماً بينما الملوك الأوروبيون ورؤساء الدول الديمقراطية الكبرى خداماً لشعوبهم لايتعالون عليهم ابداً .. الملك بدوان وزوجته الملكة فابيولا وكذلك بقية أفراد العائلة المالكة في بلجيكا يختلطون بضيوفهم ويبتسمون في وجوههم ويتبادلون معهم الحديث الودي وكثيراً ما يقدم الملك بنفسه طبق الحلوى أو الكعك لؤلائك الذين ربما كان قد احتك كتفه بكتف أحدهم في تلك القاعة المزدحمة أو اصطدمت قدمه بقدمه ..لا انسى ان خصنيّ يوم تقديم أوراق اعتمادي له في مطلع عام 1988 بخمسة عشر دقيقة إضافية تبادل معي فيها الحديث عن السودان والكونغو ( مستعمرتهم السابقة والهامة في افريقيا ) بعد ان علم من سيرتي الذاتية المتواضعة انني كنت حاضراً في كينشاسا زيارته الثانية لتلك البلاد بعد عشرة أعوام من استقلالها في يونيو 1970.. كم كان الرجل متواضعاً و ودوداً..
الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران زار بانغي لمدة يوم واحد فأتي كعادته على متن طائرة كونكورد وقد كنا في استقباله في المطار ثم حضرنا حفل العشاء الراقص الذي أقامه له الجنرال كولنقبا رئيس الجمهورية الذي ألقى كلمة ترحيب . وعندما صعد للمنصة كان محاطاً بثلاثه من حراسه او معاونيه أحدهم يحمل الكلمة المكتوبة والثاني يحمل النظارة الطبية والثالث يصب له كوباً من الماء كل بضع دقائق وعندما يكمل الجنرال قراءة صفحة من كلمته يناولها للماسك بالملف او يسرع صاحبنا هذا ليستلمها .. وعندما حان الدور على الرئيس ميتران الذي كان أكبر سناً بشكل واضح مقارنة مع الجنرال لم يفعل أكثر من ان صعد المنصة وحده وأخرج من جيبه ورقته ومن جيبه الآخر نظارته والقى كلمته وعاد وحده لمكانه بعد ان أودع أوراقه والنظارة في مكانهم .. كنا في ذلك اليوم قد وجدنا على المائدة أنواعاً جديدة من الأجبان الفرنسيه والنبيذ الفاخر وكذلك الزهور و الورود النديه فعرفنا ان الضيف هو من أتى بها وكانت بالفعل قد هبطت في المدينة طائرة فرنسية اخرى اتت بالتموين اللازم ..
كنت منذ سنين عددا مستاءً من حب الظهور لدى الحكام الأفارقة والعرب ايضاً وادعائهم الأهمية ففي ايامي في كينشاسا (1969-1971) واقترابي كثيراً من الرئيس موبوتو كنت ابذل مجهوداً لاسيطرعلى نفسي فلا أتجاوز حدود الادب الدبلوماسي خاصةً بعد أن أصبح الرجل من أثرى أثرياء العالم وهو القادم من أفقر طبقات المجتمع .. و قد يكون من المفيد ان نذكر ان السواد الاعظم من الرؤساء الأفارقة بعد ان انغمسوا في الفساد وقاموا بسرقة شعوبهم المسكينة اتجهوا لتوريث ابنائهم السلطة مثال لذلك الإمبراطور بوكاسا في افريقيا الوسطى والرئيس اياديما في توجو و كابيلا في الكونغو وعمر بنقو في القابون و حالياً ادريس ديبي في تشاد ..بينما حاول موغابي ( الذي استولى على أموال منقستو هيلامريم المنهوبة من الشعب الإثيوبي المسكين) توريث زوجته و قذافي توريث ابنه سيف الإسلام وحسني مبارك توريث ابنه جمال بينما حتى الذين لم يكن لهم أبناء حاولوا توريث أشقائهم او أقاربهم مثل عبد العزيز بوتفليقة رغم انه كان احد الثوار وله تاريخ حافل منذ شبابه الباكر ولاننسى ليلي الطرابلسي زوجة زين العابدين بن علي التي أتت بكل اقربائها ولا نذهب بعيداً عن الرئيس المخلوع عمر البشير الذي أتى بأغلبية أقاربه للاستيلاء على كثير من موارد السودان. من الرؤساء الأفارقة حتى وإن تركوا الحكم بطريقة او أخرى فقد نهبوا الأموال فابنة رئيس أنجولا الثائر المناضل الكبير دوس سانتوس بفضل الاموال المنهوبة هى اغنى امراة افريقيه بمبلغ يزيد عن 4 مليار دولار ..
في نيويورك ونحن جالسون حتى الساعات الأولى من الفجر في مداولات مجلس الأمن الدولي أيام اشتعال الحرب عام 1973 والسودان وقتها العضو العربي الوحيد بالمجلس كنت اكاد انفجر من الغيظ وانا ارى احد معاوني وزير الخارجية المصري أحمد حسن الزيات يتقدم كل بضع دقائق ليس فقط ليصب الماء في كأس الوزير الذي كان يقرأ كلمته المكتوبة من مقعده المخصص له في طرف الدائرة التي تضم الأعضاء الخمسة عشر بالإضافة للأمين العام وإنما ليشعل له السجاره ذات المبسم ايضاً ويعود ليجلس خلفه مع حشد من أعضاء الوفد المصري بينما المندوب الإسرائيلي يوسف تكواه الجالس بجوار الوزير المصري يحمل غليونه ( الكدوس) في يد وأوراقه في اليد الأخرى عندما يؤذن له بالحديث يرتفع صوته دون حوجه لمشجعين أو هتافه يحيطون به ..( كانوا في ذلك الوقت يسمحون بالتدخين داخل القاعات والطائرات وقد ذكرت لكم في مقال سابق كيف أن إبراهيم حكيم ممثل حركة البوليساريو الذي كان يجلس في الدرجة الأولى في الطائرة من باريس الى برازافيل يدخن سجار الهافانا الكوبي غالي الثمن ويهاجم النظام المغربي واتهامه بالاستيلاء على الصحراء الغربية قبل أن ينقلب على عقبيه وينسلخ عن مجموعته التي تركها في صحراء تندوف )..
كنت في زيارتي الاولى والثانيه للسويد عام 1962و1963 ومروري ايضاً بفنلدا والدنمارك والنرويج عرفت كيف أن ملوكهم ورؤساء حكوماتهم يمشون في الأسواق أو يركبون الدراجات الهوائية وسط مواطنيهم . في وقت لاحق وحتى اللحظة نتابع اخبار الملك كارل قوستاف فعلمت كيف انه انقذ شابه سويديه من الموت سقطت من أحدى البلكونات بأن حملها على كتفه وكان يتمشى مع كلبه ليلا والثلج يتساقط بكثافة فأسرع بها حيث تم إسعافها ..
مرة أخرى قرأت أنه أقر بخطئه بتجاوز السرعة القانونية وهو يقود سيارته قرب مطار كوبنهاجن المجاورة لبلاده وقدم اعتذاراً.
بداية اعجابي للملك عندما جاء للندن رفقة زوجته عام 1976 وهبطا ضمن الركاب العاديين ووقفا في صف الجوازات والجمارك قبل أن يستقلا سيارة تاكسي إلى المدينة .. كل الصحف الانجليزيه أبرزت الخبر بالصور كنت وقتها اقوم بتصريف الأعمال في السفارة السودانية و اعاني ما اعاني من تبرم المسئولين السودانيين الزائرين للندن وادعائهم المعاناة في المطار عند الوصول .. فكنت أبرز لهم تلك القصاصات الصحفية عن الملك والملكة لاسكاتهم بها .