بروفيسور عطا البطحاني: الإسلاميون لا يملكون مرجعية لتقييم تجربتهم غير الإشارات المتكررة لـ (تجنيب) البلاد الانزلاق

 


 

 

 


بدلاً عن الانكباب على إصلاح النظام تفر الحركة الاسلامية إلى "الهجرة الى الله".
قضايا العدالة الانتقالية ينبغي أن تلازم بشكل وثيق اية تسوية

لقاء صحيفة التيار
حوارات المصير،،،،،مع الأكاديمي، بروفيسور عطا الحسن البطحاني


لماذا لا يوجد نصف (غورباتشوف) سوداني؟

---

بدلاً عن الانكباب على إصلاح النظام تفر الحركة الاسلامية إلى "الهجرة الى الله".

---

قضايا العدالة الانتقالية ينبغي أن تلازم بشكل وثيق اية تسوية

---


---

الخشية كل الخشية أن تباغتنا (فيزياء) السياسة

---

إذا زادت حدة المصادمات وتصاعد المد الجماهيري المقاوم فقد يلجأ النظام لـ (وثبة) جديدة
--
استهلك النظام فترة حكمه فى الجهاد و (الأمميةالإسلامية)
--
ينطلق أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم والأكاديمي النشط، بروفيسور عطا الحسن البطحاني، في تحليله للأزمة من مرتكزات (المصالح القابضة)، و يعتقد البطحاني أن الإنقاذ مكثت كلهذه السنوات وفشل معارضوها في إسقاطها،لأنها نجحت بامتياز في خلق شبكات من المصالح مرتبطة جميعها بأجهزة الدولة، وهو ما يطلق عليه البطحاني هنا (ريع الدولة)، هذه الشبكات أصبحت أركان الإنقاذ...ثم يمضي بالقول؛ "استنفد نظام الاسلاميين فترة حكمه فى الجهاد، (والأمميةالإسلامية)، ويحذر البطحاني مما وصفه بـ (حالةالسيولة السياسية) من أن تغري مجموعة تمتلك قدراً كافياً من القوة يمكنها من الهيمنة على مجموعة أخرى، ثم يطرح سؤاله،؛ من الذى يمتلك القدر الكافِي من القوة التى ستطيح بالتوازن الهش والسيولة الماثلة الآن؟


أجرته: شمائل النور

كيف ترى الوضع الآن؟ وهل من خارطة للخروج من "عنق الزجاجة"؟

الخروج من عنق الزجاجة (الأزمة) و فى واحدة من أهم أبعاده يأتى من جانب القوى التي ادخلت بلادها فى الازمة او داخل الزجاجة. نستخلص هذا من تجارب الغير: سواء فى امريكا الجنوبية، جنوب شرقي آسيا، أوروبا الشرقية أو حتى جنوب افريقيا. وذلك لسبب بسيط وهو ان مصالحها تقتضي ذلك. مصالحها التى أوجدتها، وربتها وحافظت عليها عبر القهرالمنهجي والمؤسسى لجهاز الدولة فترة حكمها ايا كان اسم وعنوان ذلك القهر المنهجي والمؤسسي. لاحظي أن فترات اللجوء للقمع فى تلك التجارب كانت متلازمة مع فترات النمو الاقتصادي.

كأنك تُبرر لاستخدام القمع مقابل النمو الاقتصادي؟

بالطبع ليست هذه دعوة لاستخدام القمع لانجاز التنمية. ولكن وفي الواقع التاريخى اثناء تجربة نظم القهر السياسى وبحكم طبيعة ما أوجدته من "تنمية" و "تحديث" و "تغيير" استطاعت مجموعات منها ان تبنى لنفسها مناطق ومواقع نفوذ ومصالح خارج جهاز الدولة – الشيء الذى سهل فيما بعد عملية الانتقال والتغيير السياسى . وهذا يحقق لها هدفين

:(1) لا تحتاج للتحكم المباشر على جهاز الدولة التنفيذي

(2) ربما تقل نزعتها لتوظيف القمع والقهر المنجهي– فهناك من سيقوم بهذه المهمة خير قيام: عبر مؤسسات الدولة "الشرعية" ومنطق اقتصاد رأس المال الذى حقق النجاح والتنمية بالرغم من الثمن.

لكن، ماذا عن الواقع السوداني؟

قارني ذلك بما جرى ويجري عندنا هنا. القمع المنهجي والمؤسسي الممارس منذ نهاية يونيو 1989م لم يترافق مع نمو اقتصادي (نمو انتاجى حقيقي) والطبقة الاسلامية الحاكمة فشلت فى أن تخلق لنفسها مواقع نفوذ ومصالح مستقلة عن جهاز الدولة – أي لم تنجز نموا اقتصاديا( زراعي، صناعي) مغروسا فى تربة الوطن ويمكنها ان تديره فيما بعد وهى بعيدة عن مواقع الجهاز التنفيذى للدولة. انظرى لأجهزة الدولة المتحكمة تفترس المواطن عبر الميزانية كل عام وكأنها كواسر تنهش جسد ضحيتها.

وكيف بالإمكان الفصل بينهما؟

فى هذه الحالة – الحالة التى تعتمد شبكات المصالح الملتحقة بأجهزة الحكم بالكامل ليس على ما تحقق من نمو بل على ما تبقى للمواطن من موارد معيشية – في هذه الحالة هذه المجموعاتوجهاز الدولة في وضع تؤامين سياسيين وفصلهما قد يحتاج لعملية جراحية.

لابد من عملية جراحية، إذًا كيف؟

النمو الاقتصادى والتنمية يخلقان البيئة التى تمهد للفصل بين شبكات وطبقات المصالح وبين جهاز الدولة بشكل سلمى عبر الانتقال السياسى لنظام جديد كما الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا وجنوب شرقى آسيا وجنوب افريقيا. الأنظمة الستالينية فىروسيا وأوروبا، بل حتى النظام العنصرى فى جنوبأفريقيا حدث فيها التحول من الداخل. وصلت النخبةالحاكمة لقناعة استحالة استمرار النظام بصورتهالقديمة، فانبثقت قيادات إصلاحية من داخل النظام(غورباتشوف، و دي كليرك) وحتى هذه القياداتالإصلاحية لم تهبط من السماء. إنما هى نتاجللتحول الاجتماعى الناتج من نمط التنمية الذى أدىإلى تغيير نوعى فى تركيبة المجتمع، بالطبع ليسالمجال هنا مجال مقارنة بين ما حدث فى الاتحادالسوفيتى وجنوب افريقيا ،وما حدث ويحدث فىالسودان. لكن هذا لا يمنع من استخلاص بعضالدروس من تجربة التحول فى هذه البلدان.

ما الذي سهل المهمة هناك؟ ولماذا تبدو صعبةهنا في السودان؟

بالرغم من الأدلة على فشل المشروع الإسلامي فيالسودان، لم تبرز للوجود شريحة إصلاحية من داخلالنظام تعمل على تعديل بنية النظام من الداخلوتلتقي مع المعارضة فى نصف الطريق؟ لماذا لايوجد "نصف" غورباتشوف أو "ربع" ديكليركسوداني؟ وبدلا عن العمل الانكباب على تعديلوإصلاح النظام من الداخل تفر الحركة الاسلامية إلى"الهجرة إلى الله".

برأيك، هل تعتقد أن للسلطة تصورا واضحا للخروج من الأزمة، أم لا تعيها؟

كل الأنظمة الأوتوقراطية والديكتاتورية عندما تحاصرها الأزمة السياسية وتهددها تلجأ للدفع بجزرة للمعارضة. أثناء الحركة الوطنية وتصاعدها فى الأربعينيات من القرن الماضى دفعت الإدارة البريطانية بالمجلس الاستشارى وتصاعد النضال ضدها ثم جاءت بالجمعية التشريعية ورفضتها الحركة الوطنية وهكذا، ويمكن أن أذكر أمثلة من دول أخرى. وفى جنوب افريقيا عمل النظام العنصرى على توسيع قاعدة تمثيل باسترداف ممثلين لما يسمى بالملونين والهنود وبعض الأفارقة السود.

كأنك تُشير إلى الحوار الوطني؟

نعم، الآن النظام يدفع بما يسميه "حوار الوثبة" أو الحوار الوطنى والتى انتهت نتائجه الى جدل يدور حول 15% لمن تذهب فى إطار التعديلات الدستورية التى زادت من تركيز السلطة فى الأجهزة التنفيذية مكتفية بوجود أقرب للرمزية لرئيس الوزراء وتجاهل لمقترحات تعديل قانون الأمن والحريات وفك الارتباط بين الحزب الحاكم وجهاز الدولة.

إذاً، كيف تُقيّم هذه النتائج؟

يمكن قراءة التغييرات فى ميزان القوة بزيادة ونقصان النسبة التي يقول المؤتمر الوطنى إنه مستعد للتنازل عنها – فإذا زادت حدة المصادمات وتصاعد المد الجماهيري المقاوم قد يلجأ النظام لوثبة جديدة أو يزيد نسبة المشاركة لـ 30% أو 50% حسب تبدلات الموازين. كأننا – ونحن بالفعل – فى سوق المساومات السياسية Political Marketplace حيث التاجر القطاعى (وطبعا التاجر معروف ولا يحتاج منى لتسمية) يساوم الزبائن وقد يتدخل طرف ثالث يقول "باركوها يا جماعة"! وفى علم السياسة هذا هو "نظام الزبائنية".

بصورة عامة، كيف تقيّم حوار (الوثبة)؟

أن يرسخ النظام طبيعته القمعية تحت اسم الحوار الوطني هو إعلان الفشل التاريخي للنظام. ذلك أنمشروع الإسلاميين الذى قام على محاولة إحداثتغيير نوعي/هيكلي فى المجتمع السوداني نجحفقط فى إحداث التغيير المعاكس لاتجاه التاريخ.

هل تعني الإسلاميين، حكومة ومعارضة؟

الملاحظ أن الإسلاميين (حكومة ومعارضة) لايملكون مرجعية لتقييم تجربة حكمهم غير الإشاراتالمتكررة لـ (تجنيب) البلاد الانزلاق إلى مصير سورياوليبيا واليمن!

ألا يعتبر (تجنيب) البلاد الانزلاق، محاولة منهم لإنقاذما يُمكن؟

السؤال هل يملكون حقا القدرة على تجنيب البلادالانزلاق؟ وباعتبار أنهم يتحدثون بأكثر من لسانوتعددت فرقهم ، فالسؤال مجددا من فيهم يملكالمقدرة؟ أين نجدهم؟ في أوساط اصحاب المال؟في الحزب السياسي الحاكم؟ فب أجهزة الخدمةالمدنية؟ فب الاجهزة العسكرية والامنية؟ ما هي حاضنة الإصلاح من الداخل وسط الإسلاميين؟

هل نُسمي هذا يأسا من أي إصلاح يقودهالإسلاميون؟

استنفد نظام حكم الاسلاميين فترة حكمه فيمالايجدي من وجهة نظر الوطن. فقد استهلك النظامفترة حكمه فى الجهاد، (والأممية الإسلامية)وبالرغم من تسييس الخدمة المدنية بالكامل، وتحويل ملكية مؤسسات وموارد الدولة لأفراد يدينونبالولاء للجبهة (باسم التحرير الاقتصادى) وبالرغم مناكتشاف النفط والتوسع الكمى فى التعليم العالى،وهندسة النظام الأهلي والتحركات السكانية، إلا أنكل ذلك لم يكن كافيا لإحداث النمو والتنميةالمطلوبين لأن ما تم جرى إنفاذه في الأساس خارجدائرة الإنتاج المستوعب لمئات الآلاف من الخريجينالجامعيين والموظف لقدرات الغالبية فى الريفوالمدن والمستجيب لاحتياجاتهم. ففترة الحكمخلقت طبقة وسطى غير منتجة وفى حالة فصامشخصي: فالاقتصاد له وجهه المزدوج :إسلامى منجهة تبرير مكاسب الريع وتابع لاشتراطات صندوقالنقد الدولي من جهة أخرى، وعلى المستوىالاجتماعي – الثقافي ميل للحداثة الغربية والسعيللتمسك بزي اسلامى. وقد أحال التشويه الاقتصادىالبلاد لساحة للقوى المالية الاقليمية والدوليةالطامعة في موارده الطبيعية او التي لا تجد مكانافى الاقتصاديات المتقدمة وجعل من اقتصاد البلادحالة نموذجية لما يمكن تسميته نظام " خصخصةالربح وجماعية التكلفة " Privatizing profit socializing cost

كأن المواطن خارج هذه المعادلة؟

نظرت السلطة للمواطن نظرة سلبية- فهو موضوعللترويض ومصدر للجباية، وليس كإنسان له حقوقوقدرات انتاجية يستثمر فيها بتوفير الخدماتالأساسية (من تعليم وصحة). بل أصبح مستوىالحياة الذى يعيشه المواطن شرطا ضروريا لتأمينالامتيازات لأصحاب السلطة وهامش ربح الأنشطةغير الإنتاجية (انظري مرافعات عادل الباز ضد شركاتالاتصالات) وإن رفع المواطن رأسه فالميزانية التياعدت لعام 2017 هي ميزانية حرب (على المواطن)على حد قول أحد اعضاء البرلمان نفسه. فى ظلهذه الظروف من أين يأتي من ينادى بالاصلاح منالداخل دون أن تتأثر مصالحه؟


يكاد الجميع يتفق حول فشل تجربة الإنقاذ، بما في ذلك إنقاذيون كُثر، ومع ذلك، هي باقية، ولم يحدث تغيير؟

يعود ذلك – بدرجة كبيرة – الى الملاحة الماهرة للنظام وسط ألغام التعقيدات والتوازنات الإقليمية والدولية ومستفيدا بصورة مباشرة وغير مباشرة من "الثراء المواردي" للبلاد، أيضا نجاح النظام فى توزيع موارده الريعية بين مكوناته وأجنحته بحيث يحافظ على توازن واستمرارية "مركز القوة" الداعم للنظام مع السعي لتوسيع قاعدة النظام بتدرج لا يخل بالمعادلة الداخلية السلطة، فتوسيع القاعدة بصورة كبيرة قد يخل بالمعادلة الداخلية للسلطة (شبكات المصالح القابضة) وقد يفتح الباب لمطالبات ربما لا تتوفر لها الشروط إلا بإزاحة ركن أو أركان يرتكز عليها النظام وهذا يفسر التردد فى تعديل قانون الأمن وتوسيع الهامش الحقيقى للحريات العامة.

ما يجري الآن من تداعيات لمخرجات الحوار الوطني، تدور في ذات النقطة؟

مخرجات الحوار الوطني انعكاس لتوازن القوة على مستويين: مستوى "خارج الحوار" النظام وحلفائه من جهة والمعارضة المدنية والعسكرية من جهة أخرى، وواضح أن ميزان القوة أبدى ميلا للطرف الاول مما دفع النظام بالمضي قدما فى حواره.

وهناك مستوى التوازن "داخل الحوار" بين المؤتمر الوطنى وتوابعه من جهة والمؤتمر الشعبي وحلفائه من جهة أخرى، وهنا أيضا حالف الحظ المؤتمر الوطني وأجاد تكتيكات المراوغة والمماطلة ودفع بالتوصيات التي رضي عنها وأبعد تلك التي تشكل تهديدا للحلقات والشبكات القابضة. ولكن أخيرا مع ملاحظة أن حالة السيولة التى تميز المشهد السياسي بأكمله تفتح الباب للتأثير المتبادل بين مستويات خارج الحوار وداخل الحوار – فالتأخير فى تشكيل الحكومة وإدراج توصيات الحريات والدور المتعاظم للولايات المتحدة فى تحديد قسمات المشهد السياسى (وأنصبة الحكم ومن يشارك ومن لا يشارك) تفتح شهية التكهنات بدخول لاعبين جدد لن ترضى عنهم المجموعات المتنفذه لأن فى ذلك انتقاصا لنصيبها.

كيف تنظر لمدى فاعلية ومستقبل الأحزاب والحركات الشبابية؟

لا يملك أحد صك قوانين ومراسيم للعمل العام ضد النظم الديكتاتورية التي تصادر الحقوق والحريات. فالمجال واسع ومفتوح لمن يريد أن يعمل ويبتكر أدوات النشاط السياسي حسب موازين القوة التي تشكل طبيعة النظام السياسي.

هل تقصد بالمجال الواسع، أن هناك خيارات؟

نعم..هنا تتعدد الخيارات فهناك من يرى ان هناك دائما مجالا مفتوحا للنضال اللا عنفي (نموذج غاندي) وهناك من يبني علاقة تكاملية بين النضال القانوني واللا قانوني (نموذج مانديلا) – اى بقدر ما يفسح القانون المجال للعمل تنحسر مساحة اللا قانوني والعكس صحيح وهناك من يتبنى فى إطار المنظومة الرأسمالية النضال العنفي (نموذج جيفارا).

أين نحن من هذه النماذج؟

اعتقد اننا نجد في الساحة السودانية تداخلا بين هذه النماذج ، أما مستقبل الحركات الشبابية فمن الصعب التنبؤ بتفاصيل الخريطة السياسية من حيث القوى التى ستبرز فى الساحة – لكن من الواضح ان القوى الشبابية بمسمياتها المختلفة ستفرض لها وجوداً فى الساحة السياسية سواء من داخل الأحزاب او خارجها. فقط يبقى "التنظيم" أحد أهم العوامل التى سترسم مصير هذه الحركات ولنا فى التجربة المصرية عظة وعبرة حيث اتضح ان من يكسب السباق فى النهاية هو من يحتفظ بطاقاته التنظيمية ووحدته (الجيش والإخوان).

كيف تنظر لمستقبل العمل المسلح ، إذا ما حدثت تسوية؟

هذا يعتمد على شروط التسوية التي بموجبها تدخل إلى ردهات السلطة فإذا وجدتها مغرية لها وتحقق لأفرادها الحراك الطبقي - الاجتماعي ستسعى للذوبان فى النظام ،أما إذا تعثرت مسيرة صعودها الاجتماعى سترجع مرة أخرى لقواعدها تحيي من جديد الدعوة للتمرد كما حدث مع حركة رياك مشار وحركة مناوي. نلاحظ هنا أن درجة استجابة النظام لمطالب الحركات يركز على تسكين القيادات وإدخالها شبكة الريع السلطوي والامتيازات ولا يأخذ فى اعتباره القواعد أو التحول المرتقب على الأرض.

هل ترى أن بالإمكان الخروج بسلاسة من الوضع الراهن؟

من الصعب التنبؤ بتفاصيل الخريطة السياسية من حيث القوى التى ستبرز فى الساحة، ولكن فى حالة الانتقال من الوضع الراهن أرى أن المخرج يتمثل فى إجراء تسوية تاريخية وليس تسوية سياسية.

ماذا تقصد بتسوية تاريخية؟

أقصد بالتسوية التاريخية أن تأخذ فترة الانتقال نفسا طويلاً يعالج جذور الأزمة ويعقد مصالح بين مكونات المجتمع (وليس نُخبِه فقط) بحيث نتهيأ للانتقال إلى عهد جديد يعمل على إحداث تغيير حقيقي في حياة المواطنين (لا يلغي الصراع والتنافس) ولكنه يقود لانتقال المجتمع للأمام فى اطار حراك المجتمع وديناميته التى لا يستطيع أحد أن يلغيها ،إنما المأمول هو الاتفاق على قواعد بين المكونات وليس الاتفاق القاصر على النخب السياسية كما تم فى مصالحة 1977 وفى اتفاقية نيفاشا 2005 بالرغم من انجازاتها.

لكن هناك اختلال في موازين القوى، برأيك هليُمكن حدوث تسوية بهذه المواصفات؟

نعم، هناك تشتت واضح في توزيع القوى، "فإذاوجدت مجموعة تمتلك قدراً كافياً من القوة يمكنهامن الهيمنة على مجموعة أخرى بحيث تنطوي هذهالهيمنة على مكاسب لها فإنها ستفعل ذلك" وأبرزمثالين فى منطقتنا لصحة هذا القانون انقلابالجبهة الإسلامية فى السودان وانقلاب الحوثيينفى اليمن. فحالة السيولة السياسية قد تغريمجموعة تمتلك قدراً كافياً من القوة يمكنها منالهيمنة على مجموعة أخرى...السؤال من الذىيمتلك القدر الكافِي من القوة التى ستطيح بالتوازنالهش والسيولة الماثلة الآن؟

أشرت فيما سبق، إلى أن اختلال المعادلة الداخلية للسلطة لا يمكن أن يحدث إلا بإزاحة أحد أركان النظام، كيف يحدث ذلك؟

للأسف ،إنجازات – أو فى واقع الأمر فشل - النظام فى التنمية وتوسيع الماعون الاقتصادى لم يساعد على إيجاد فرص لهذه الأركان وشبكات المصالح للانسحاب تجاهها إفساح المجال للقوى الصاعدة. انظرى للفشل فى تصفية الشركات الحكومية التى تتناسل بأسماء أخرى متى ما تم وضع حد لها. وهنا المأزق، فالفئات التى تعيش على ريع الدولة لن تترك مناصبها وامتيازاتها هكذا بدون إيجاد بديل لها- وقد تذهب للمدى الذى تنبت لها زعانف وريش واجنحة "داعشية" وايا كانت طبيعة التسوية (سياسية أم تاريخية) فلا بد من إيجاد مواقع بديلة للذين يحتلون المواقع الآن.

مواقع بديلة.!؟

حتى إذا افترضنا إيجاد مواقع بديلة للفئات المتنفذة فهناك قضايا الانتهاكات والجرائم (العدالة الانتقالية) وهى ملازمة بشكل وثيق لأية تسوية حقيقة للخروج من المأزق الحالى. وهناك تجارب عديدة يمكن الاستهداء وأخذ العبر منها. لكن الخشية كل الخشية أن تباغتنا قوانين الطبيعة (الفيزياء) السياسية. فليس هناك كابح الا يفعل "قانون القوة" فعله صرف النظر عن التمنيات والتوقعات.

متى ما بدأ الحديث عن التسوية الشاملة أو التاريخية، يصعد جدل العدالة والمصالحة...أية وصفة أو نموذج يُمكن تطبيقه في الحالة السودانية، برأيك؟

لا توجد وصفة واحدة ، وربما على المجتمع المعنى أن يجد الصيغة والطريقة التى تناسبه . لدي دراسة هنا "المصالحة الوطنية: إبراء جراح السودان" نشرتها مجموعة قراءة من أجل التغيير..فى هذه الدراسة استعرضت تجارب عديدة مركزا على ما يمكن الاستفادة منه فى الحالة السودانية. مثلا يتحدث السيد الصادق المهدى كثيرا وينادى بما يسميه "كوديسا تو" على غرار تجربة جنوب افريقيا – كأفضل النماذج المعروفة. ومع اهمية التجارب المقارنة لدينا بالطبع تراثنا الغني في مسائل فض النزاعات والتسويات والمصالحات والعفو، وهذا يشكل لنا رصيدا ضخما يمكن الاستفادة منه...أخيراًمن الصعب ألا يترك فشل الحركة الاسلامية وانفصالالجنوب أثرهما على التحولات السياسية المعاصرة. لايخطئ البعض إن رأى أن مركز الحراك السياسىانتقل من الوسط للأطراف. ومع إدمان الطبقةالسياسية الحاكمة للفشل ستتحرك جغرافياوديموغرافيا النزاعات والإفقار الاجتماعى لملءالفراغ وتعديل موازين القوة.. وليتذكر الجميع اننالسنا بمنأى عن تأثيرات "فيزياء السياسة".

abattahani@gmail.com

 

آراء