بطانة كُلّو تمام سيّدي الرئيس … بقلم: هاشم بانقا الريح

 


 

 


hbrayah@yahoo.com

قيل إن الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وبعد أن أيقن أن كل نعيمه لا محالة زائل، وأن الغضب وصل قمته بعد أكثر من عقدين من الحكم بقبضة من فولاذ، عندما تراءى المشهد أمامه جليّا، لم يجد أمامه غير أن يقول إن مستشاريه كانوا يضللونه، وينقلون له صوراً وردية عن حياة التونسيين، وكيف أنهم يلهجون بحمده آناء الليل وأطراف النهار.
مثل هذه النهايات تحتاج إلى الكثير من التفكر والتدبر، لكل من يتحمل مسؤولية الأمة وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهي دون شك فرصة للكثير من الرؤساء والقادة للتوقف عندها قبل أن يأتي اليوم الذي يصيح فيهم مستشاريهم: "فلا تلومنا ولوموا أنفسكم."  
ظاهرة البطانة التي تُسبّح بحمد الرئيس، وتأمره بالشر وتحضه عليه، بل وتزيّنه له، ليست جديدة بل قديمة قدم المؤسسات الإنسانية. والمدهش أن لهذه البطانة سحر وأي سحر، وتمتلك من الوسائل والأساليب ما تجعل بها القائد الملهم، لعبة بين أيديها تحركها كيف شاءت ومتى شاءت، والمعصوم من عصم الله. لذا كانت دعوات الأئمة والخطباء دوماً أن يرزق الله القادة والرؤساء البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير وتكفهم عن الشر.
وعلى الرغم من أن السائد في سياق فهم الناس وتجاربهم أن القادة والزعماء يعمدون إلى تقريب بطانة الشر التي تنافقهم وتزيّن لهم الباطل، وتدعهم في سكرتهم يعمهون، إلا أن هذا لا يعني أنه لا يوجد زعماء قد عمدوا إلى  تقريب البطانة الصالحة، وإبعاد بطانة الشر والفساد، في سلوك يدعو للإعجاب. واللافت أنه كلما كان القائد قريباً من الناس مشاركاً لهم حياتهم، كلما كان أوفر حظاً في إقامة وبسط العدل وإشاعة المساواة، وكلما كان ذلك سلاحاً في وجه مغريات بطانة السوء.
يروي أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب كان يأكل السمن، وفي عام الرمادة  وعندما غلا ثمنه تركه، وقال: لا آكله حتى يأكله الناس، واستعاض عنه بالزيت، وعندما تقرقر بطنه من أكل الزيت كان يخاطبها بقوله: قرقر أولا تقرقر، فو الله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.  
مثل هذا السلوك يقف سداً منيعاً أمام كل من تسول له نفسه مداهنة القائد ومحاولة كسب رضاه بتزيين الدنيا له، ومثل هذا السلوك يؤسس لبناء مجتمع  ومؤسسات نزيهة، وأفراد لا يخافون في الحق لومة لائم. وما دمنا مع الخليفة الراشد، فلا بد من الإشارة إلى ما أحدثه سلوكه من استشعار المسؤولية لدى العامة، وقيام كل فرد منهم بدور رقابي يوازي دور مؤسسات كاملة من مؤسسات المحاسبة، والمراجعة، والمراقبة في وقتنا الراهن.
خطب الخليفة عمر رضي الله عنه ذات يوم، وقال: يا أيها الناس .. ماذا تفعلون إذا ملت برأسي إلى الدنيا هكذا ؟ فلم يرد أحد . فأعادها عليهم . وقال : ما تقولون ؟ فلم ينطق احد حتى كررها ثلاثاً. فقام إليه رجل ، قيل أنه سلمان الفارسي، وقال له : إن ملت برأسك إلى الدنيا هكذا ، قمنا لك بسيوفنا هكذا، وأشار كأنه يضرب عنقه.  ولم  يكن لدى الخليفة الراشد من جهاز أمن، أو مخابرات أو "بلطجية" لكي يمسكوا بالرجل ويودعوه ظلمات السجون ويمارسوا معه أقسى أنواع التعذيب حتى الموت. التفت عمر للرجل وقال له: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوّم عمر بسيفه.
وفي ظني، وكما قلت فإن دولة المؤسسات هي الضمانة التي تكبح جماح الاستئثار بالسلطة من قبل أي زعيم يزعم أمام قومه أنه لا يريهم إلا ما يرى وما يهديهم إلا سبيل الرشاد، ويلتف حوله مستشاروه يرددون ما يقول. ومثل هذه البطانة هي التي تقف أمام مسؤولينا والإقدام على تقديم استقالاتهم على الرغم من شعورهم بالتقصير والإهمال والفساد. والافتقار للمؤسسات النزيهة المستقلة هو الذي يشجّع هؤلاء وأولئك على الاستمرار في تكبيل شعوبهم، وسلب إرادتهم.
وعلى ذكر المؤسسات ودورها في كبح جماح الفساد والاستئثار بالقرار أيّاً كانت نتائجه، فلعل القارئ الكريم قد قرأ في الأيام القليلة الماضية ما ورد من أخبار من أن  الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك سيمثل أمام المحكمة في شهر مارس المقبل . ويواجه شيراك  تهمة اختلاس أموال عامة" و"سوء ائتمان"، عندما كان رئيساً لبلدية باريس قبل عام 1995م. وإذا ما أدين فربما يتعرض لعقوبة بالسجن 10 سنوات وغرامة قيمتها 150 ألف يورو.  وكان شيراك رئيساً لفرنسا في الفترة من 1995م و 2007م.
وسيتم تقديم الرئيس للمحاكمة على الرغم من أنه أوشك أن يبلغ الثمانين من عمره، وهناك إشاعات بإصابته بمرض خرف الشيخوخة ( الزهايمر Alzheimer) .. فتأملوا!!
مشكلتنا أننا نتعامل مع المنصب العام و كأنه إرث خاص لا ينبغي أن ينازعنا فيه أحد، ويعزز هذا الشعور العميق تلك الحاشية التي تستفيد من وجود هذا المسؤول في هذا المنصب.. فهذه الحاشية تعمل على ذر الرماد في عيون المسؤول، و إذا ما قُدّر لضمير هذا المسؤول أن يصحو من سباته و يبدأ يُفكّر – مجرد التفكير – في اتخاذ خطوة تصحيحية كتقديم استقالته مثلاً، جاءته الحاشية عن يمينه و عن شماله ترجوه ألا يفعل ذلك، و تُقسم له أن تركه هذا المنصب يعني الطوفان و أن كل الحياة ستتوقف إذا ما غادر هو هذا المنصب.
عندما قدّم الجنرال شارل ديجول (1890-1970م) استقالته من منصبه كرئيس لفرنسا، جاءه بعض أعوانه يرجونه ألا يستقيل لأن فرنسا لا يمكنها الاستغناء عن خدماته. أتدرون ماذا كان رد الجنرال؟ لقد كان رداً حاسماً و درساً لنا جميعاً، قال الجنرال ديجول : "إن مقابر مونتمارت تضم رجالاً لا يمكن لفرنسا أن تعيش بدونهم."   
وفي دولة المؤسسات الحرة، يجد المسؤول أيّاً كان موقعه وجهاً لوجه أما الحقيقة المجردة، ويؤدي مهامه وعينه وقلبه، بل وكل جوارحه تدرك تماماً أن أجهزة المراقبة له بالمرصاد ولن يفلت منها إذا ما أساء استخدام سلطاته، أو تهاون في أدائها. ولذا نجد أن المسؤولين في دول المؤسسات هذه سرعان ما يتقدمون باستقالاتهم فور تسرب أي أخبار عن تورطهم، أو تورط مستشاريهم في ممارسات يشتم منها رائحة استغلال السلطة. وهناك الكثير من الأمثلة التي توردها وسائل الإعلام المختلفة حول هذا الموضوع، مما يؤكد جلياً أن دولة المؤسسات الراسخة التي تعتمد على السند الشعبي، والتي تقف وراءها وسائل إعلام حرة ونزيهة، لا مكان فيها لمن يسبح بحمد الرئيس، ولا مكان فيها لمستشارين أو معاونين لا همّ لهم إلا أن يرددوا آناء الليل وأطراف النهار: كُلّوا تمام سيّدي الرئيس.  
 

 

آراء