نشر صديقنا الدكتور مصطفى أحمد علي ، الأستاذ الجامعي والموظف الدولي السابق ، والأديب والباحث والكاتب المُبرز في سائر الإنسانيات ، على صفحته في فيسبوك على الشبكة العنكبوتية قبل بضعة أيام ، رسالة لغوية قصيرة وطريفة ، عرض فيها بعمق واستقصاء لافتين للانتباه ، لمفردتي " بيت " و " دار " ، ودلالاتهما المختلفة في اللغة الفصحى ، وفي بعض اللهجات العربية المعاصرة ، مع التفاتة خاصة إلى العامية السودانية ، كما جرت العادة بذلك في عنونة بعض الأبحاث والأطروحات الأكاديمية. والحق هو كما تفضل الدكتور مصطفى في تلك الخاطرة ، أنَ العامية السودانية ، وخصوصاً عامية الحضر والمدن ، لا تُلقي بالاً لذلك التخصيص والتفريق الدقيق الذي تتبناه بعض اللهجات العربية المعاصرة ، وخصوصاً في المغرب العربي الكبير للمعاني والدلالات التي تعبر عنها مفردتا " دار " و " بيت ". فالبيت في اللهجة الليبية التي أعرفها إلى حد ما – على سبيل المثال – هو الغرفة الواحدة ، أو المرفق الواحد ، وهو ما يُعبر عنه المصريون في لهجتهم ب " المَطْرَح ". أما الدار عندهم ، فهي المنزل بأكلمه ، أي بكل ما يشتمل عليه من مرافق أو مطارح ، وذاك هو لعمري تعريف الدار في اللغة الفصحى أيضا. فكأن الدار في لهجات المغرب العربي ، هي المسكن بأكمله ، وبداخله البيوت التي هي " الأوَضْ " كما يعرفها السودانيون والمصريون كذلك. وهذا التوضيح لعله يُفسر تلك المقولة التي راجت وذاعت ذيوعاً شديداً في إبان بداية هبة ثورات الربيع العربي منذ بضعة أعوام: " دار .. دار .. بيت .. بيت .. زنقة .. زنقة !! ". فليس ثمة أي تكرار في ذكر الدار والبيت معاً في هذا السياق كما قد يتوهم البعض ، إذ أن المقصود من تلك العبارة هو ببساطة: منزلاً .. منزلاً .. وغرفةً .. غرفةً .. وزُقاقاً .. زُقاقا ، لا غير. ولكن العامية السودانية الحضرية المعاصرة ، تطلق اسم البيت على المسكن كله ، ولا تكاد تستخدم كلمة دار الفصيحة أيضاً كما تقدم ، لهذا المدلول بالذات ، بل نجد كلمة " دار " مستخدمة على نحو أكثر في الأرياف والبوادي ، وهي تأتي هناك بصفة خاصة بمعنى: المنطقة الجغرافية القبلية أو العشائرية الممتدة ، التي قد تشمل كامل النطاق الجغرافي لانتشار عشيرة أو قبيلة بعينها ، أو حتى سلطنة بأكلمها مثل " دارفور " على سبيل المثال ، والتي تعني حرفياً: دار عرقية الفور لأن مؤسسي هذه السلطنة منهم ، وإن ساكنتها فيها قبائل وأعراق أخرى كثيرة جدا. والدار بمدلولها المناطقي هذا ، لها كلمة مُرادفة أخرى في العامية السودانية هي كلمة " البلد " ، وقد جمعتهما معاً الفنانة الراحلة عائشة الفلاتية في قولها: الدار الما داري أنا مالي بيهْ والبلد الما بلدي ما بمشي ليهْ على أن عامية الأرياف والوادي في السودان قديماً ، وإلى يوم الناس هذا ، تُطلق بالفعل على الوحدة السكنية الصغيرة أو المفردة الواحدة أياً كان شكلها، اسم " بيت ". فهنالك بيت العرب السيارة ، وهو الخيمة ، إما من الشعَر أو الوبر عند الأبالة عموماً ، وهو ما يسمى ب " بيت الشُقاق " ، أو من البروش والمشمعات وما شابهها عند البقارة بغرب السودان ، وكذلك عند البجة بشرق السودان. بل إن الكوخ المبني من القش نفسه الذي يُعرف ب " القُطية " يُسمى بيتاً كذلك ، وفي كردفان يطلقون اسم " القطية " في الواقع ، فقط على الجزء أو التاج الأسطواني الشكل الذي يكون في أعلى الكوخ فيقولون: " قطية البيت " ، وليس على الكوخ نفسه الذي يسمونه بيتاً قولاً واحدا. أما فيما يتعلق بالجزيرة ووسط السودان مثلاً ، فأظنني قد وقفت على عبارة: " بيت قدامو راكوبة " في كتاب طبقات ود ضيف الله 1727 - 1809م ، وكان المقصود منها في ذلك السياق ، أنها غرفة واحدة فقط مبنية من الطين أو الطوب اللبن ، وأمامها سقيفة أو عريشة من القصب. فهذه كلها شواهد على احتفاظ العامية السودانية العتيقة بهذا المعنى العربي القديم لكلمة بيت الذي ما يزال استخدامه سارياً في بلاد المغرب العربي الكبير ، والذي إنما كانت العرب تعني به الخيمة الواحدة في الأساس، ثم استخدم لاحقاً على سبيل المجاز للبيت من الشعر. ومن ذلك قول أبي العلاء المعري: والحُسْنُ يظهرُ في شيئين رونقُهُ بيت من الشعْر أو بيت من الشعَر أما " الحارَة " ، فيبدو لي أنها تأخذ أشكالاً مختلفة باختلاف المناطق والبلدان. فهي في مصر مثلاً ، عبارة عن باحة مغزلية الشكل ، تتوسط حياً شعبيا ما ، تضيق من طرفيها وتتسع من وسطها ، وتطل عليها سائر البيوت والمحال التجارية والمرافق الخدمية المختلفة ، ويمثل سكانها عادة خليطاً متجانساً اجتماعياً وطبقياً من القاطنين إلى درجة تزيد أو تقل. ولا أدري كيف يكون شكل الحارة في المغرب العربي عموماً أصلاً ، ولا أذكر أني رأيتُ أو سمعت عن حارة في طرابلس الغرب التي مكثت فيها زهاء الخمسة أعوام. ولكن الذي أعلمه أن الحارة في السودان ، هي المُسمى الذي يُطلق على المخطَط السكني المربع الشكل ، في حي من أحياء مدينة ما ، وتفصل ما بين المساكن والمرافق الخدمية والميادين والساحات العامة التي تكون فيه ، شوارع وأزقة متعامدة. وهذا المخطط السكني يسمى في بعض الأحياء القديمة " حارَة " ، وفي بعض الأحياء الحديثة " مربع ". فالحارات توجد في ام درمان كما في أم بدات والثورات ، بينما المربعات في الخرطوم كما في أركويت والصحافات. فما هي علاقة الحارة بالمربع من حيث الدلالة ؟. أذكر أنني عندما كنتُ مقيماً في ليبيا لدواعي العمل بين عامي 2000 و 2005 م ، كنت أذهب في عطلة نهاية الأسبوع إلى متجر كبير ) سوبر ماركت ( ، يقع بالقرب من مسكني بالحي الذي كنت أقطن فيه بالعاصمة طرابلس ، لكي أشتري منه أغراض الأسبوع من الخُضر والفواكه وغيرها من لوازم البيت ، وحدث عن رخص أسعارها حتى في ذلك التاريخ المتأخر نسبياً ولا حرج !!. وقد لاحظت أن هنالك نوعين من أنواع بيض الدجاج: الأول كثير كثرة مفرطة وموضوع في أطباق منضدة بعضها فوق بعض ، على النحو الذي يُعبأ به البيض عادة في مثل تلك المحلات ، ونوع آخر كان أصغر حجماً نسبياً ، وكميتة قليلة جدا ، وموضوع بعناية فائقة في طبق كبير الحجم من الخوص ، وحوله وفيما بينه مهاد من القطن والريش ونشارة الخشب للوقاية من الكسر ، وقد لاحظت أنه كان أعلى سعراً بكثير من النوع الأول. فلما سألت الصبي البائع عن تلك المفارقة ، رد علي بقوله: " هادا دَحي عربي .. الحَارة بدينار !! ".. أي: هذا بيض عربي ) بمعنى بلدي أو طبيعي ، ولم تدخل عليه أية هرمونات أو محسنات ( . وسألته بالطبع عن معنى الحارة ، فأجابني بقوله: الحارة يعني الأربع بيضات. فانقدح في ذهني بعد تفكر وتأمل فيما بعد ، أن الحارة السودانية المربعة الشكل ، ينبغي التماس اشتقاق دلالتها من معنى حارة البيضات الأربع التي ذكرها ذلك الفتى الليبي البقال. وينبغي ألا يكون ذلك مستغرباً أو مُستبعدا ، لأن هنالك قرينة معنوية وثيقة بين الشكل المربع والرقم أربعة . ذلك بأنك إذا وضعت أية أربعة أجسام متساوية في الحجم وضممتها إلى بعضها البعض ، منسقة اثنين اثنين ، لأعطتك شكلا مربعا ، أو رباعي الأضلاع على الأقل. ولعل هذه القرينة أو الدالة المعنوية نفسها ، هي التي جعلت البرتغاليين في لغتهم يسمون الرقم أربعة: quatro / كواترو والغرفة: quarto / كوارتو ، غالباً بسبب تربيع شكلها. ولعل مما قد يدخل في هذا السياق أيضاً ، إطلاق الليبين في لهجتهم اسم " المربوعة " على غرفة استقبال الضيوف عندهم. أما الزنقة ، فهي – فيما يلي التخطيط العمراني الحضري بالذات – الزقاق الضيق في الأحياء السكنية بالمدن الكبيرة في سائر لهجات المغرب العربي الكبير. وكأن زنقة المغرب العربي تعادل انثربولوجياً وسوسيواوجياً الحارة المصرية إلى حد ما ، وليس الحارة السودانية الرحبة والمنبسطة. أما لغوياً ، فإن الزنقة في المغرب العربي ، تعادل الزقاق في المشرق ، كما في اللهجتين المصرية والسودانية على سبيل المثال. والزنقة مشتقة لغوياً كما هوواضح ، من الفعل " زنق " الذي يفيد معاني الضيق والحصر ، فكأن الزنقة المغارببة هي عبارة عن مصدر أجري مجرى الاسم ، بحيث أصبح الطريق الضيق المحصور والمزنوق " زنقة " شديدة بين جدارين ، يُسمى هو نفسه " زنقة ". ولكن السودانيين وخصوصاً في مدنهم وحواضرهم ، إنما يعرفون " الزُقاق " في عاميتهم ، ولا يعرفون " الزنقة " بهذا المفهوم وهذه الدلالة الشائعة في اللهجات المغاربية ، ولكنهم يعرفون زنقات أخرى كثيرة أعاذنا الله منها بمعانيها الحسية والمعنوية ، أي الحقيقية والمجازية ، والتي تجئ كلها بمعنى: الحصر والتضييق والشدة. ومن ذلك وصفهم لشدة الحرة بالزنق والزنقة ، على نحو ما أشار إلى ذلك الدكتور عون الشريف قاسم في قاموس اللهجة العامية في السودان. على أن هنالك أخيراً ، ضربا جديداً من " الزنق " لم يدركه العلامة عون رحمه الله تعالى ، وقد اصطفاه الله إذ اختاره إلى جواره قبل أن يسمعه ، ألا وهو ذلك الضرب من الغناء ، بل الزعيق الصاخب ، الذي انتشر خلال السنوات الأخيرة في السودان ، والذي يركز على الإيقاع والرقص ، وإن شئت الرفس المحموم على نغمات الإيقاع ، دون أي اهتمام مطلقاً ، بكلمات الأغنيات ومضامينها ، والله المستعان.