شهدت حقبة التسعينات تغيرات كبيرة فى طبيعة الحروب والنزاعات إثر دخول عناصر وحركات تمرد وتحرر داخلية فى مقاومة الدولة – الوطنية بالأخص فى افريقيا بعد أن إقتصرت الحروب التقليدية على جيوش الدول المتنازعة. وأضطرت الامم المتحدة لمراجعة إستراتيجيات السلام بالتركيز على مساعدة الدول خلال فترات الانتقال من الحروب إلى مرحلة بناء السلام المستدام بعد توقف الحرب او النزاعات الداخلية المتميزة بضراوة العنف. واطلق على الجيل الجديد من عمليات حفظ السلام التقليدية مسمى – بناء السلام المتعدد الابعاد – التى تهدف إلى توطيد تصالح وتعافى المجتمعات فى الدول المتأثرة بالنزاعات المزمنة وذلك خضوعا للمتطلبات العملية والواقعية فى بنية هذه المجتمعات بدلا من مقاربة الاعتبارات النظرية والبرمجيات الناشئة عن المفهوم الليبرالى للسلام. وأقتضى ذلك المسار الجديد تعدد أبعاد ومهام عمليات بناء السلام فى حقبة الألفية الثانية ؛ يحيث تشمل فى تفويضها الأممى عملية إدارة الانتخابات ودعم الهياكل وتسريح وإدماج الوحدات المقاتلة وإعادة توطين اللاجئين والمشردين داخليا وتعزيز الالتزام بحقوق الانسان وإصلاح القطاع الامنى وإجراء الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتوافق عليها خلال الفترة التى تعقب النزاع. وجعل هذا التفويض من الجيل الجديد لعمليات بناء السلام مرجعية شرعية وطنية سياسية وإجتماعية. وهذه العمليات متعدية لا تقتصر على الحكومات وحدها بل تشمل مشاركة الفعاليات والاحزاب السياسية الوطنية ونشطاء وناشطات المجتمع المدنى والمجتمع الاهلى والمدنى المستهدف بعملية بناء وإستدامة السلام ولذلك لا تتم هذه العمليات من عل وفق المواضعات الأممية التى سادت فترة حفط وصنع السلام بطابعه الغربى الماخوذ نقلا من الفلسفة الليبرالية ولكنها تستوجب توافقات وترتيبات سياسية محلية حتى تتم العملية بدون ميل لفريق وبشكل حيادى تام. وتشترط العملية البنائية السلمية الحصول المسبق على موافقة الحكومة والسلطات الوطنية على إستضافة البعثة الاممية المفوضة بموجب الفصل السادس ؛ وذلك افضل من صنف عمليات "التدخل الحديث" بموجب الفصل السابع لأنها لا يشترط فيها موافقة مسبقة للسلطة الوطنية ؛ وهى ايضا افضل من عمليات تدخل تتم بتفعيل "مبدأ الحماية الدولية" التى تقدم بها وزير خارجية كندا السابق "غاريث إيفانز" ومحمد سحنون حيث يتولى المجتمع الدولى حماية المجتمعات المتأثرة بانتهاكات حقوق الانسان الجسيمة او حروب الابادة وهى التى طرحها تونى بلير رئيس وزراء بريطانيا العمالى السابق بشأن دارفور حيث تعهدت حينها بريطانيا فى الامم المتحدة بتجهيز فرقة عسكرية. إبان ولاية امين عام الامم المتحدة السابق كوفى عنان (1997-2006) عمل على إعادة هيكلة الادارة السياسية بالامم المتحدة التى تعنى بوضع السياسات والتحليل والتخطيط السياسى وتقديم العون لعمليات الانتخابات بالتعاون مع المنظمات الاقليمية ، فى حين اوكل إدارة بعثات السلام الاممية وعمليات حفظ السلام إلى إدارة عمليات حفظ السلام. وفى عام 1997 قدم عنان تقريره حول الاصلاحات الخاصة بالامم المتحدة الذى أدرج عمليات بناء السلام عقب النزاعات ضمن إختصاص الادارة السياسية بالرغم من تعاون الادارتين فى إدارة الشؤون الانسانية. ويجدر بالذكر ان عمليتين امميتين لبناء السلام فى كل من هايتى وغواتيمالا غير مشمولتين تحت عمليات حفظ السلام لأن المصادقة عليهما تمت من قبل الجمعية العامة للامم المتحدة التى لا يقع ترخيص عمليات السلام ضمن نطاق إختصاصاتها فى العادة ، ولذلك لم تقترن العمليتان بتواجد قوة عسكرية. وفى عام 2005 انشات الجمعية العامة بالاشتراك مع مجلس الامن "لجنة بناء السلام" لتعزيز هيكلة جهود بناء السلام الاممية لتشرف على المهام التالية: • توحيد الفاعلين ذوى الصلة وحشد الموارد وتقديم المشورة ووضع اسراتيجية متكاملة لاغراض التعافى وبناء السلام عقب مرحلة النزاعات • التركيز على جهود إعادة البناء وعملية البناء المؤسسى بغرض التعافى من النزاعات ودعم تطوير استراتجيات متكاملة لارساء دعائم التنمية المستدامة • تقديم التوصيات والمعلومات وتحسين مستوى التنسيق مع كل الفاعلين ذوى الصلة داخل وخارج الامم المتحدة لتطوير أفضل الممارسات لتامين التمويل الخاص بانشطة التعافى المبكر كان ذلك التطور مهما لملء الفجوة القانونية المتعلقة بعمليات السلام الاممية التى نشأت دون ان تكون مضمنة بالأساس فى ميثا ق الامم المتحدة الذى وضع فى مؤتمر سان فرانسيسكو فى عام 1954 ؛ وهى ايضا غير مشمولة ضمن اجراءات الامم المتحدة المؤسساتية. ولذلك عندما ينشىء مجلس الامن بعثة سلام اممية لا توجد إشارة إلى الفصل السادس؛ كما جرت العادة فى صياغة القرار ان يلجأ مجلس الامن إلى إدخال فقرة يطلق عليها " فقرة إنفاذ الفصل السابع" مثلما حدث فى بعثة ليبريا (UNMIL) وفى مسودة القرار الخاص بالبعثة السياسية الاممية الخاصة ببناء سلام السودان مؤخرا. ويحدث ذلك إذا تضمنت مهام البعثة حماية المدنيين والتى هى مطلب للجبهة الثورية وبعض نشطاء دارفور وهى المهمة التى كانت موكلة لبعثة يوناميد التى شارف تفويضها على النفاد. والاشارة إلى فقرة الفصل السابع فى قرار صادر بموجب الفصل السادس تحتمه ضرورة حماية المدنيين فى مناطق النزاع ذلك لأن مفهوم "حفظ السلام" من قبل بعثات اممية يتميز بعدة مبادىء اوضحها كوفى عنان فى كتابه الصادر فى عام 2012 بعنوان "التدخلات: حياة فى الحرب والسلام" على النحو التالى: • التوافقية المتعلقة بحفظ السلام اى موافقة اطراف او فرقاء النزاع على طلب العون من الامم المتحدة للتوصل لوقف إطلاق النار او التوصل لإتفاق سلام لأن البعثات الاممية خلال حقبة التسعينات إقترنت بإيفاد بعثات السلام قبل ان يتم التوصل إلى وقف إطلاق النار او توقف العدائيات بشكل نهائى او قبل التوصل لاتفاق شامل للسلام وذلك بهدف حماية المدنيين من انتشار العنف الحربى وتهديد حياتهم. إن عمليات السلام المقرونة بتخويل إستخدام القوة كانت عمليات إستثنائية بدواعى الضرورة. واعتمد فيها على قوات عسكرية تفتقر إلى الوحدة المنسقة للقيادة العسكرية التى تستنفر للعمل بدون توفر حد ادنى من الفهم المشترك للاجراءات التكتيكية والعملياتية واللوجستية والوسائل القتالية فيما يواجهون عمليات هجومية مضادة فى الميدان. وفى مثل تلك الحالات كانت القرارات تصدر من حكومات الدول المساهمة مما تسبب فى ارباك الهرم القيادى وعصف بوحدة الهدف. • النزاهة: ينبغى على عمليات سلام الامم المتحدة ان تتحلى بصفة النزاهة والحيادية ومعاملة كافة فرقاء النزع بطريقة واحدة بمن فيهم الحكومة الوطنية • استخدام الحد الادنى من القوة الضرورية لحماية النفس والمدنيين فى دوائر النزاع • الحصول على التفويض والدعم من مجلس الامن • تعتمد العمليات على وحدات عسكرية ومعدات لوجستية من مساهمات طوعية من الدول الاعضاء ويشير تراث عمليات الامم المتحدة انه حيثما حادت المنظمة الاممية عن تلك المبادىء مثلما حدث فى الكونغو فى الستينات او فى الصومال فى التسعينات حيث واجهت قوات الامم المتحدة متاعبا جمة فى عام 1993 مثل تفجيرات الالغام ونيران الاسلحة الخفيفة والهجمات الصاروخية من قبل قوات الجنرال محمد فارح عيديد. وفى عام 2015 اوصت لجنة مستقلة رفيعة بالامم المتحدة ان يتعاون مجلس الامن مع المنظمات الاقليمية مثل الاتحاد الافريقى واطراف اقليمية اخرى فى الحالات المتعلقة بإنفاذ السلام تحت الفصل السابع التى تتطلب اللجوء للقوة القهرية فى الكونغو بهدف تحييد قوات حركة ( M23 ( والمجموعات المتمردة الاخرى ولذلك اعتبرت فلتة ومثالا شاذا لبعثات إنفاذ السلام تحت الفصل السابع. وفى الكونغو لم تكن البعثة الاممية وفاقية ولامحايدة اونزيهة ؛ وقامت بموالاة قوات محددة ضد الحركات المتمردة وانها لم تحصل على موافقة المجموعات المتمردة المقاتلة بالرغم من حصولها على موافقة حكومة الكونغو الديمقراطية الدولة المستضيفة. نظرية السلام الليبرالى: تقوم نظرية السلام الليبرالى على مبادى غربية مستقاة من الفلسفة الليبرالية للتغيير والسلام حيث تعتبر ان المجتمعات سوف تحقق السلام المستدام عندما تتمثل قيمها ومؤسساتها معايير الديمقراطية التعددية وتعمل على الحفاظ عليها ؛ وتتبنى إقتصاد السوق الحر وحكم القانون وحماية حقوق الانسان. وان المجتمعات التى لم تصل بعد إلى مستوى معين من التطور يمكن تقديم العون لها عبر تبنى القيم الليبرالية والتدخلات بهدف بناء السلام والمؤسسات الليبرالية وتحقيق التنمية والحداثة بشكل اسرع بإعتماد صيغ الدول التى قطعت شوطا فى هذا المجال (برتشت؛ أندروز؛ وودلوك). ولقد وصف "شتاين إريكسن" الصيغة المثالية لتجسير المسافة لبناء السلام وفق الفلسفة الليبرالية بأنها "تصميم محتوم" قائم على السببية يضمن تحقيق النتائج المرجوه عند إتباع النموذج المعد سلفا لتقويم السلام فى المجتمعات المتأثرة بالنزاعات. وتعتمد الفلسفة الليبرالية على برنامج " خطى" لحل المشاكل بمعادلة الربط بين السببية والاثر الناجم أوالمفعول. ويقوم المحللون والخبراء الغربيون بالتشخيص الموضوعى للنزاع وتحديد المسببات الرئيسة للمشكل ثم تقوم الامم المتحدة والمنظمات الاقليمية والاتحاد الافريقى بالتدخل. تتعرض السياسة الدولية الخاصة بعمليات بناء السلام الاممى لمتغيرات كبيرة من بينها تراجع المثل الليبرالية الغربية التى بنى عليها مفهوم التغيير والسلام الليبرالى فى فترة ما بعد التدخلات الدولية فى افغانستان والعراق. ولقد جوبهت بانتقادات عديدة من قبل المختصين بقضايا السلام والنزاعات والمحللين السياسيين وبعض فقهاء القانون الدولى نظرا لأن سياسة بناء السلام الليبرالى إتسمت بالعنف و الغموض والالتباس. وانتظمت حملة سجال دولى لتحليل نجاح وفشل السلام الاممى الليبرالى قادها مراقبون دوليون ضمن حملة تشكيك حيال جدوى فعالية وشرعية بعثات السلام الاممية بوصفها آليات تقدم الدعم إلى الحكومات والمدنيين فى مجال إعادة البناء خلال فترات الانتقال من الحروب الاهلية ، لا سيما بعد فشل تلك العمليات ، وإقترحوا إنتهاج مسار إيجابى جديد أكثر واقعية ومختلف من أسلوبها تحت نفوذ النموذج القديم للسلام الليبرالى. ومن ضمن مطالباتهم ، صياغة عمليات بناء السلام الاممى فى سياق مفاهيمى جديد يتسم بالهجنة والمرونة بناء على مقاربة ثلاثية تعنى بالعمل على درء نشوب النزاعات وفق منظومة وقائية ووضع استقرار المجتمعات المحلية فى اسبقية الاولويات والتعويل بشكل أساسى على الوقائع والوضعيات المحلية للنزاعات. وتهدف هذه الاطروحات الجديدة إلى إعادة نمذجة عملية السلام وتاطيرها كيلا تفشل على شاكلة الانموذج الليبرالى السابق فى خلق نظام دولى مسالم وآمن ، وإرساء دعائم السلام المفقود اوإنجاز التنمية وتوطيد الاستقرار فى المجتمعات التى عانت من حدة النزاعات. ولكن حقبة ما بعد الحرب الباردة أطلت بمزيد من الحروب الداخلية بفعل النزعات الوطنية والاثنية وحروب تقرير المصير الاثنوغرافى وحروب الابادة مما ادى إلى تعديل منهج عمليات بناء السلام بالاعتماد على الحد الأدنى من القوة بجانب القبول والتوافق الوطنى المسبق. وما ينبغى ملاحظته ان عمليات بناء السلام الاممى الليبرالى فى حقبة التسعينات ظلت رهينة للهيمنة الدولية والامريكية وكانت تهدف إلى تقديم الدعم للصفوة والهياكل المحلية القائمة فى بيئة سياسية غير ليبرالية "اوتوقراطية" من خلال بناء المؤسسات بنهج ليبرالى مما أدى إلى نشوب توترات كبيرة بين معايير صناع السلام الدوليين بخصوص الشرعية القائمة على أساس الدولة ونظام الحوكمة الرشيده. وذلك بالتضاد مع رصيد الخبرات والمفاهيم المحلية مما يختزل من فعاليتها فى الاستجابة إلى تحديات السلام فى سياقها او منظورها الوطنى. كما تأثرت هذه العمليات بفشل تجارب التدخلات فى كل من افغانستان والعراق لتغليبها للمقاربة العسكرية المقترنة بمشروعات إعادة إعمار واسعة النطاق وعمليات بناء للديمقراطية والمؤسسات تتم بشكل غريب على البيئة المستهدفة بالسلام. ويرى المحللون فى السياسة الدولية ان المزاوجة بين الصيغة القهرية للسلام الليبرالى وإستعادة النظام فى المناطق المتأثرة بالنزاعات فشلت ايضا فى إرساء التحول الليبرالى وإقامة السلام. ومن الإصلاحات التى اقترحت لعلاج عطب عمليات السلام الأممى تجاوز بناء السلام بنمطيته الغربية بانتهاج مفاهيم "السلام الواقعى" القائم على الواقعية والحقائق الميدانية ، اى بناء السلام بوسائل سلمية بالتواؤم مع الثقافات المحلية والاعتماد على الامكانيات الايجابية مع تفضيل السياقات التى تأخذ فى الحسبان المآخذ والمخاطر ؛ وإشراك المجموعات الوطنية والمحلية المتأثرة بالنزاعات لأجل إستباب السلام عبروسائل التعلم من المجتمع المتأثر بالنزاع والمواءمة. وهى أساس اطروحة "سيدريك دى كونينغ" الذى قدم اطروحة السلام المتوائم ومرونة المؤسسات المحلية والملكية الوطنية بما يحقق إستدامة السلام وإعادة تمثل الممارسات التاريخية الخاصة بالتهدئة والسلم وتقديم الدعم والتعامل مع مشيعى العنف المحلى. ونظرا للفشل المتكرر لعمليات السلام الاممى الليبرالى فحيثما كانت المحصلة إخفاقا فى حفظ او صنع السلام كان الخبراء يعزون ذلك إلى مناقص مرتبطة بعملية التطبيق. مما دعى إلى مضاعفة الجهود لتطبيق الوصفة الغربية الخطية بتحسين آليات التدخلات القهرية. وفى نهاية المطاف تدخل المانحون الغربيون والفرق المعنية بوضع السياسات والمقيمون الغربيون بعد فشل حالتى التدخل فى افغانستان والعراق لإتخاذ خط رجعة والاقرار بفشل المساعى والجهود القائمة على قيم الليبرالية - الجديدة لانفاذ السلام بالرغم من انها كانت مدعومة من قوات مقتدرة مزودة بأحدث المعدات التكنولوجية وصرفت عليها بلايين الدولارات من العون التنموى وحظيت بدعم الصفوة الدبلوماسية الغربية ووكالات الدفاع والتنمية. وانتقل الفشل أيضا إلى العمليات التى جرت على شاكلتها فى الشرق الاوسط ودول البلقان ومنطقة البحيرات الكبرى والقرن الافريقى. صحيح إن نتيجة تلك العمليات تمثلت بإنقاذ حياة ملايين من البشر بوقف الحرب ؛ ولكن الملايين من الدولارات التى صرفت على جهود بناء السلام والتنمية والاغاثة الانسانية وحقوق الانسان وفق الانموذج الليبرالى لبناء السلام عجزت عن ايجاد حل للعوامل الاساسية التى تتسبب فى نشوب النزاعات فى الدول. فرضيات بناء السلام الواقعى: شهدت عمليات بناء السلام الليبرالى عبر عمليات تدخل اممية مراجعة شاملة وصفت بانها تشكل " إنعطافة عملية" على المستوى العالمى بالتوازى مع إنحسار هيمنة القطبية الاحادية الامريكية على قيادة النظام الدولى. واجهت القطبية الامريكية تحديا ومناهضة من قبل الصين والمانيا والمانيا وروسيا والهند. ولقد شهدت الساحة الدولية بروز العديد من الفاعلين خارج نطاق الدولة مثل المنظمات الاقليمية والدولية والشركات العالمية الكبرى والمنظمات غير الحكومية التى يمكنها التأثير على توجهات النظام الدولى فى مجال تخصصاتها ومجالات نشاطها. ولقد أثرت هذه المتغيرات بدورها على عمليات بناء السلام الاممى المؤسس على مثاليات ومنطلقات ليبرالية حيث كرست هذه العمليات التدخلات المقرونة بروافع عسكرية. وحدث تطور هام تمثل فى التخلى عن الوصفة الخطية الليبرالية وانتهاج ما يعرف بالانعطافة العملية او الواقعية ، ادى إلى تحول منهجى فى النظرة إلى عمليات بناء السلام واعتبارها عمليات سياسية بحته بعد ان أرهق الفكر الليبرالى نفسه احقابا يصفها بالعمليات الفنية. وحتى عام 2012 سادت فرضية تشير إلى ان من فوائد تدخلات بناء السلام انها جلبت مزيدا من الموارد التنموية للدولة المتأثرة بالنزاع.
محددات عملية بناء السلام: هى مزيج من عدة عمليات متكاملة وفق حالات محددة بهدف بناء السلام عبر المساعى الحميدة بطريقة تحكمها النوايا الحسنة تحت إشراف خبراء اجانب من الامم المتحدة. وتبدأ عادة عقب مرحلة توقف الاعمال العدائية اوإنحسار العنف المرتفع المستشرى بسبب النزاع فى المجتمع المستهدف ؛ او بعد التوصل لاتفاق سلام كامل أو مجزوء يصلح ان يكون اساسا لسلام شامل. ولا تتم عملية البناء اثناء مواصلة العدائيات الحربية بين الفرقاء أو إستمرار عمليات النزاع لاختلافها عن عمليات حفظ السلام التقليدية وتميزها عن عمليات العون التنموى الثنائية أوالمتعددة الاطراف وعدم تطابقها مع عمليات الفصل السابع لانفاذ السلام مثل التى قادتها امريكا فى الصومال والعراق. وتكون تلك العمليات محصورة فى اقليم او اقاليم محددة ولكن لا تقتصر اهداف تلك العمليات على تهيئة الظروف المواتية للحيلولة دون تجدد العنف فحسب ، بل تشتمل على عدة أهداف قصيرة وطويلة المدى يسعى إلى إنجازها من منطلق حسن النوايا والمساعى الحميدة مثل نزع السلاح وتسريح ودمج الوحدات المسلحة وإصلاح القطاع الامنى لمنع تجدد النزاع او الحرب ومراقبة عمليات الانتخابات وبناء المؤسسات والمناطق المتأثرة بالنزاع . ولا تتضمن تلك العمليات المنشأة بموجب الفصل السادس من الميثاق التدخل فى الشؤون الداخلية للدول لتعارض ذلك مع ميثاق الامم المتحدة. وتقتضى تلك العمليات توفر قدرا معقولا من الأمن والنظام الداخلى ولذلك يمكن ان يصحبها قوات محدودة العدد او مراقبين عسكريين لضمان امن وسلامة طاقم البعثة الاممية وكعنصر ردع ضد مخربى عملية السلام. هذا العامل يحتم إدخال فقره فى قرار مجلس الامن الصادر بموجب الفصل السادس تسمى فقرة الفصل السابع وهى التى تحكم وجود القوة العسكرية الامنية والتى ليست فرقة قتالية. القوة العسكرية تتكون عادة من افراد عسكريين او شرطيين تساهم بعض الدول الاعضاء بأفرادها او من مساهمات منظمات اقليمية مثل حلف الناتو او الاتحاد الافريقى او المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا وذلك بموجب التفويض الممنوح للعملية.
بناء سلام الملكية الوطنية: عندما اجرت الامم المتحدة مراجعتها العشرية لعمليات بناء السلام فى عام 2015 تم إتخاذ قرار فى مجلس الامن والجمعية العامة فى عام 2016 يطرح مفهوما جديدا " إستدامة السلام". ولذلك قال " اوسكار فرنانديز ترانكو" مساعد الامين العام لبناء السلام ان المفهوم الجديد لاستدامة السلام يعتبر عملية بناء السلام نشاطا سياسيا ينبغى فيه تفادى الصيغ وعدم اعتماد ان كافة الحالات يوجد لها حل واحد فقط". وقدم " سيدريك دى كونينغ" مقاربة جديدة بعنوان " السلام المتوائم " الذى يعاد بناؤه من خلال شراكة نشطة بالتعاون مع بناة السلام الاممى والمجتمعات المتأثرة لخلق نوع من التضافر ضمن إطار عملية تراتبية لاستدامة السلام. وهو المنهاج الذى اطلق عليه " الانعطافة العملية لبناء السلام " الذى يركز على تحديد ودعم القدرات والامكانات السياسية والاجتماعية التى من شانها ان تفضى إلى إستدامة السلام. وتعنى البعثة الاممية لبناء السلام بتحريك ومراقبة سلسلة من مسببات الاحداث بهدف البحث عن السلام الدائم من خلال تقوية مرونة المؤسسات الاجتماعية المحلية. كما تعمل على الاستثمار فى عملية التضامن الاجتماعى والتاثير على السلوكات والنظم الاجتماعية والعلاقات المنشودة لبناء السلام عبر شراكة فعالة تضم الامم المتحدة وبعثة بناة السلام والمجتمعات المحلية والمجموعات المتأثرة بالنزاعات واتباع عمليات متعددة الهياكل تستهدف منع نشوب النزاعات مجددا. كما تلعب دور المساند والمعاون الذى يعمل من اجل إستدامة السلام فى الدول المتاثرة بالنزاعات بالاعتماد على الملكية الوطنية. ويتم الاعتماد على دينامية تداخل نشط بين البعثة والمكونات الوطنية والمحلية وفرقاء النزاع باستخدام التغذية الارتجاعية المعلوماتية مع المؤسسات الوطنية واكتشاف وسائل ومعينات على التعايش مع التحديات التى تفرزها البيئة المحلية ما يستدعى التواؤم الخلاق معها. ومن بين الاهداف المنتظر تحققها تحفيز العمليات البنائية السلمية بهدف رفع الكفاءة التنظيمية الذاتية لتمكين المجتمع من إدارة الضغوطات الداخلية والخارجية.
موطنة المدخلات الخارجية الاممية: ولأن عملية بناء السلام تتم بدون وجود وصفة مثالية مسبقة جاهزة فإن الترتيبات النوعية ستختلف من بيئة إلى اخرى مما يؤدى إلى مساهمة المجتمع فى "موطنة" المدخلات الخارجية الاممية او توسيع مقدار المواءمة المحلية وحجم الطاقة الاستيعابية للمجتمعات المستهدفة. وسيتم تمثيل المجتمعات بدرجة تمكن من استيعاب تنوع وإختلاف المصالح والحاجات ضمن مبادرة عملية لبناء المجتمع المحلى تشمل كافة فصائل المجتمع فى عملية شراكة وتعلم جماعى مما يؤدى لخفض تكلفة ادارة عملية بناء السلام . فى الوقت الراهن تصرف السكرتارية العامة للامم المتحدة حوالى 7.5 بليون دولار سنويا على عمليات حفظ السلام فيما تبلغ تكلفة تدابير منع النزاعات ووساطة بناء السلام أقل من بليون دولار. وعملية موطنة بناء السلام فى إحدى جوانبها تنم على ممارسة خيارات وتدوير معارف وحكمة وخبرات وتوليفة ممارسات من داخل المجتمعات لابتدار المبادرات المجتمعية والقطاعية المختلفة والآليات التعاونية ضمن عملية تعديل الممارسات الخاطئة بشكل مستمر للاخذ بالتى تبتت جدواها. إن عملية بناء السلام الاممى الجديدة تتم تنفيذها بالتركيز على مبادىء المرونة و"الملكية الوطنية" او المحلية فى استدامة السلام. ومن ضمن المساعى التى ستبذل فى منظومة بناء السلام الجديدة إنتهاج سياسة لانجاز السلام الواقعى بتشبيك ايجابى بين عملية بناء السلام الاممية والشرعية السياسية والثقافية والاجتماعية المحلية وإستهداف أساليب لاستتباب السلام من خلال سياقات تكرس الاستدامة باشراك اكبر عدد من الفاعلين المحليين وبالأخص فى المناطق والمجتمعات المتاثرة بالنزاعات. كما تهدف العمليات الجديدة لبناء السلام إلى تحقيق الاستجابة الواقعية لتحديات السلام وإكتشاف امكانيات جديدة بالالتزام بالقدرات الموجودة والهياكل والطموحات المحلية بدلا عن التعويل على الموارد والرؤى والاجندة الخارجية. وتتطلع كذلك إلى بناء وتطوير المرونة المجتمعية فى الاطر السياسية وتشكيلات السلطة المحلية للأخذ بصيغ تدعم التجاوب مع السياقات المحلية فى مواطن النزاعات. ولذلك فإن عملية بناء السلام تعتمد كليا على المؤسسات والممارسات المحلية والتعاون مع الصفوة الوطنية مما يزيد من شرعية ومدخلات الاجندة المحلية الموجودة فى المجتمعات المتأثرة وتطوير الهياكل المحلية والمساءلة وهو ما يطلق علية "الملكية الوطنية" اوالبصمة المحلية بجانب مواءمة عملية بناء السلام مع جوانب القصور التى تم تحديدها فى الفترات الماضية بغرض تحديث المنهج البنائى اخذا بالاعتبار الدروس والعبر المستفادة. إن درجة مرونة المجتمعات المحلية فى إستيعاب التحديات ومواجهتها وسمات التجربة الهجينة بين الارث الاممى والمحلى يؤدى إلى تطوير أساليب جديدة لبناء السلام بحيث يتم التحول تدريجيا من مركزية الدولة التى اعتمدها المنهج الليبرالى القديم إلى إشراك الفاعلين والنشطاء غير الحكوميين فى المجالين المحلى والدولى فى عمليات بناء السلام الواقعى. ان الاخذ فى الحسبان مكانزمات حل النزاعات بوسائط من واقع الثقافة المحلية يضاعف نسبة التهدئة بحيث تعتبر العملية بكليتها ترقية للجهود المحلية اوالداخلية لبناء سلام من خلال" الانعطافة المحلية" او المقاربات المجربة وامكاناتها المتجددة لرصد وتفادى السلبيات. كما يتم تعزيز قدرة المجتمع للتواؤم مع عملية التغيير وإدارتها بشكل امثل لتفادى تجدد النزاعات. ان المجتمع يعتبر استاذ نفسه فى مجال تبنى الحلول الامثل للنزاعات بتطوير القدرات المحلية للتنظيم الذاتى بعيدا عن الحتميات الميكانيكية وتعقيدات نموذج السلام الليبرالى الفاشل لقصوره المفاهيمي وعجزه عن التعامل مع المستجدات. إن تحول العملية الاممية إلى بناء السلام "المموطن" يمنح الاولوية لأهمية التصالح مع ثقافات المجتمعات المتأثرة بالنزاعات والتعلم منها بدلا من تنزيل تصاوير نظرية منبته. انها تنطر إلى النزاع البناء بالتضاد مع النزاع الهدام ؛ كوسيلة ضرروية وطبيعية عادة ما تنشأ لإحداث التغيير فى المجتمعات بسبب المنافسة على المصالح المختلفة والمتباينة مما يعد شرط عافية للمجتمع بتحمل اختبارات الضغط ليكون فاعلا ومبدعا كيلا يكون خاضعا ومتلقيا ما يحفز عملية التطور والبقاء الايجابى. إن الاقرار بالطبيعة السياسية للنزاعات تتطلب وضع خيارات واتخاذ قرارات من اجل إكتشاف الفرص المتاحة والمناسبة وتطوير برامج بناء سلام واقعية وميدانية لأن الخيارات السياسية تدعم او تهمل مصالح متولدة من المبادرات الداخلية فيستدعى ذلك بالضرورة وقف الخيار المعين لعدم موائمته السياسية.
مؤشرات إستدامة الامن والسلام: مصطلح " السلام المستدام" فى مقاربة عمليات بناء السلام الاممية يتضمن عددا من العناصر مثل إنحسار وتوقف موجة العنف ؛ وضع حد للفروق أو سياسة التفرقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ؛ التركيز على الاستدامة الذاتية من واقع المجتمعات ؛ رفع مستوى الشرعية الداخلية والخارجية. ويقاس نجاح العملية بتقييم مستويات الامن و"الدولنة" وتوقف العنف الجامح وتوفير الامن العام. ويتم قياس عنصر "الدولنة" بمستويات الحوكمة التى امكن تحقيقها لرفع كفاءة اداء مؤسسات الدولة. وفى الجانب الامنى يرتقب إيقاف العنف الناشىء من النزاع والعنف الداخلى المستهدف للمدنيين بتوطيد النظام العام فى الدولة فى المرحلة التى تعقب النزاع. ولذا تأتى عملية حماية المدنيين فى طليعة اسبقيات بعثات بناء السلام الاممية لأن 90% من الاصابات التى تحدث اثناء الحرب والنزاعات الداخلية تتكون فى قطاع المدنيين العزّل. وتعمل البعثات الاممية إلى خلق بيئة آمنه ومسالمة للمدنيين برفع قدرات المؤسسات المحلية لتعزيز الحل السلمى للنزاعات على المدى الطويل بمستوى يضمن تملك الدولة فى مرحلة ما بعد النزاع للقدرة الوظيفية على إستتباب الامن والسلامة بشكل مرض من خلال عملية تقييم شاملة لنوعية وقدرة مؤسسات الدولة ومستوى الاداء فيها وعمليات حكم القانون وحماية حقوق الانسان والحريات المدنية ومستويات الديمقراطية وعوامل فشل الدولة. بناء السلام المستدام والمخاطر: بروفسور "بول كولييه" ومجموعته البحثية فى جامعة "اكسفورد" حذر من حالات النكوص والارتداد السلبية لعمليات السلام فى إستئناف العنف الدائرى فى المجتمعات المستهدفة ببناء السلام. إن حوالى 50% من عمليات السلام أخفقت خلال عشر سنوات بسبب تفاقم العنف فى الدوائر الحضرية فى امريكا اللاتينية بعد عقود من توقف النزاعات. ان نظرية السلام الليبرالى كانت تعتبر النزاع مشكل يحتاج إلى حل عبر عملية بناء السلام التى تستهدف تصحيح السلوك النابى للدول وارجاعها إلى مكانها المنتظم فى نظام دولى مستقر. ولكن عملية بناء السلام من خلال المواءمة تعتبر النزاع جزء من طبيعة المجتمعات وعامل ضرورى من عوامل إحداث التغيير. ان معظم النزاعات نجمت عن الاحساس بالظلم وعدم العدالة أو الاقصاء والتهميش السياسى والاقتصادى والثقافى لمجموعات ذات هوية خاصة او مختلفة فى المجتمع مما يدفعها إلى الاعتراض. ومن طبيعة المجتمعات عدم الميل إلى تغيير نظم القوة والامتيازات الاقتصادية بدون إرغامها على التغيير. ولذلك فإن انظمة المجتمع تبدأ فى التواؤم فقط اذا ادركت ان كلفة الحفاظ على الوضعية الراهنة سوف تكون باهظة مما يدفعها إلى التراجع. ولذلك عادة ما تنزع المجموعات المهمشة فى المجتمعات التى ترفض الاستجابة الايجابية للتغيير، إلى تعظيم حجم التكلفة التى سيدفعها المجتمع المهيمن جراء انتهاج سياسة التهميش والاقصاء مما يدفعها فى النهاية إلى استخدام العنف كوسيلة لزيادة الضغط على مركز السلطة والقوة. وعندما ترتفع درجة التكلفة المدفوعة من قبل المجتمع المسيطر بشكل أقل من المنافع والمكاسب المجنية من الاحتفاظ بالأمر الواقع الظالم يبدأ ذلك المجتمع عند نقط ما للتواؤم بخلق مزيد من انظمة المشاركة والتمثيل كما حدث فى تجربة الفصم العنصرى فى جنوب افريقيا وحركات مكافحة الرق فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وبناء على هذا التصور فإن المجتمعات الهشة تدل على الافتقار للمرونة العملية اللازمة لاستيعاب التباين والتواؤم مع الصدمات الداخلية والخارجية من قبل المؤسسات الاجتماعية التى تشرف على السياسة والامن والاقتصاد وتضع مثل العدالة بحسب امتيازاتها وتفتقر إلى القدرة على إمتصاص النكسات. ولذلك تعجز المجتمعات الهشة عن إدارة مخاطر التوترات والنزاعات والمنازعات قبل ان تبلغ مرحلة النزاعات العنيفة. وعليه يلاحظ تناقص المهددات والمخاطر كلما بلغ المجتمع المعين او مؤسساته درجة المرونة القصوى كشرط للتواؤم مع التهديدات التى يجابهها. ويتم قياس الحالة الامنية العامة فى البلاد بعد مضى سنتين من بداية البعثة الاممية لتحديد مستوى تعزيز عملية التحول البناء للعنف مقيسة بمستوى المخاطر السياسية وفق مؤشرات العنف الداخلى والسياسى مثل توقف عمليات المعارضة المدنية والمسلحة للنظام اوالحكومة ومدى إحجام الحكومة عن شن عمليات عنف بشكل تعسفى مباشر اوغير مباشر ضد شعبها. ومن جهة اخرى ؛ قد تلجأ إحدى المجموعات السياسية او الدينية لإشاعة التوترعن طريق تواتر الاعتراضات المدنية لأغراض سياسية مما يؤدى إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار السياسى. وفسر الباحثون المرونة الفعالة بوصفها نقلة نوعية من حيز الرغبة فى منع النزاع عبر ضبط ومحاصرة التغيير للحد من أثره او إنهاؤه جملة؛ إلى وضعية مقدرة النظم المجتمعية على التواؤم مع التغيير وتسهيل إنسياب المعلومات وإقامة نظم جديدة تهدف إلى دعم التنظيم الذاتى لضرورته فى إدارة أجهزة المجتمع المعقد وهى فى النهاية عملية بناء سلمى وجمعى وإيجابى.