بيان الإعلاميين السودانيين المؤيد للاتفاق الإطاري

 


 

 

18 يناير 2023

البيان الذي أصدره يوم الخميس 12 يناير عدد من الإعلاميين السودانيين تأييداً وتوقيعاً على الاتفاق الإطاري يستمد أهميته من مكانة بعض الأسماء الموقعة عليه وأدوارها وما تستحقه من احترام، ومن رد الفعل المرحب به من قبل قوى الحرية والتغيير وبعض قياداتها.

 

سأورد فيما يلي أربع قضايا/مبررات أعتقد أنها محور هذا البيان، وتعليقي على كل منها.

 

  1. الاتفاق الإطاري يحتوي على مبادئ تتسق مع أهداف وشعارات ثورة ديسمبر وهو قابل للتطوير وسد النواقص.


من المعلوم في السياسة السودانية بالضرورة تمادينا في نقض العهود والمواثيق، وأن التوصل لمواثيق واتفاقات ودساتير مهما بذل وقت وجهد في كتابتها وإحكامها لا يعني الالتزام بها أو تطبيقها.

نفس هذا الوصف كان ينطبق على الوثيقة الدستورية، وعلى كل وثائق وبرامج ومبادرات القوى السياسية والمدنية المختلفة، وعلى تصريحات دوائر المجتمع الدولي بمحاوره، بل وحتى على خطابات الانقلابيين البرهان وحميدتي.

الحقيقة أن خطاب الانقلابي البرهان في 25 أكتوبر أعلن فيه بالنص: " إننا نؤمن بأن هذه الثورة العظيمة ماضية بعون الله وبإيمان الشباب الذين صنعوها، ونؤكد لهم أننا لن نحيد عن الأهداف والمهام المنصوص عليها في المادة 8 من الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية الحالية" ضمن فقرات متعددة ذكر فيها شعار "حرية سلام وعدالة" خمس مرات بينما غابت الثلاث كلمات عن كامل نص بيان الإعلاميين.

بعد توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس 2019 وحتى قبل أسابيع قليلة من انقلاب 25 أكتوبر 2021 دافع نفس قادة الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري من قوى الحرية والتغيير (حين كانت الأطراف الموقعة الأخرى تسمى ثورة مضادة وفلولاً) عن الوثيقة الدستورية وعن تحقيقها لأهداف وشعارات ديسمبر، كما كانوا يقولون بإمكانية تعديل الوثيقة. وحين قاموا بذلك فعلاً عدلوها لتكوين مجلس الشركاء وللسماح بتعيين وزراء المحاصصات الحزبية. ولأن الفاعلين هم نفسهم، ولأننا شهدنا "مخرجات" الورشة النهائية لقضايا إزالة التمكين وتدل كل الشواهد على أنها لن تختلف عن مخرجات بقية الورش القادمة، وعلى ما سيكون عليه الاتفاق النهائي، فإن هذا المبرر لا ينطلي إلا على من تغلبت رغائبه على قدراته التحليلية وذاكرته.

 

  1. غياب أي برنامج بديل يوقف الدمار الزاحف.


تم تدوير هذا المبرر بأشكال متعددة قبل اندلاع ثورة ديسمبر 2018، وأثناء مفاوضات ما بعد مجزرة اعتصام القيادة في يونيو 2019، وبالذات بعد الانقلاب. فلحقن الدماء، أو لمنع انزلاق البلاد للفوضى والدمار الشامل، ولعدم توفر قيادات عسكرية يمكن أن تنحاز للشعب فليس هناك من بديل عملي سلمي غير الاتفاق مع قيادات النظام. والتاريخ القريب ينبئنا أن هذه الاتفاقات لم تفلح في أي من هذه الأهداف النبيلة، ولم يستجد شيء يقنعنا بأن النتيجة هذه المرة ستكون مختلفة.

إن حتمية فشل هذا الاتفاق سبب كافٍ للابتعاد عنه حتى وإن لم تكن هناك خيارات أو برامج بديلة. ولكن الحقيقة أن هناك مسارات أخرى رفضت قوى الحرية والتغيير بإصرار الالتفات لها ودعمها أو حتى التحاور معها بجدية. طرحت لجان المقاومة عدة مواثيق وبرامج طموحة لم تعلق عليها القوى المتنفذة، بل وعملت بكفاءة عالية على تشتيت جهد هذه اللجان وتقسيمها وتسفيه ما تقوم به.

ليس هناك طريق واحد مضمون للقضاء على الانقلاب ووضع السودان في طريق تحول ديمقراطي حقيقي يلبي تطلعات غالب شعبه، ولا يملك أحد القدرة على التنبؤ بكيف ستكون الضربة القاضية للقضاء على الانقلاب. وإن لم نكن قد تعلمنا شيئاً منذ 2019 فيجب على الأقل ألا ننسى أن إسقاط السلطة القائمة لا يعني بالضرورة نجاح الثورة أو بدء التحول للديمقراطية، وأن هذين ليسا حدثاً واحداً وإنما عمليةً ستأخذ زمناً طويلاً يعتمد على طريقة إسقاط السلطة ذاتها.

تطرح مواثيق لجان المقاومة برامج تقوم على البناء القاعدي الجماهيري الذي يعمل على بناء سلطات جماهيرية بديلة للسلطة القائمة، كما أن البرامج المطروحة منها ومن قوى مدنية أخرى متعددة تدعو في نفس الوقت للإعداد لإضراب شامل وعصيان مدني يسقطان السلطة القائمة. والإضراب الشامل والعصيان المدني من الوسائل التي ظلت قوى الحرية والتغيير تدعو لها حيناً وترجئها أحياناً في أدبياتها وخطاباتها، بما يعني أنها ليست مستحيلة أو غير واقعية. كما أن انحياز مجموعة من العساكر للجماهير ليس مستبعداً أيضاً، فنفس الأسباب التي تستبعده الآن كانت هناك في بدايات 2019.

وفي كل الأحوال، فإن مواثيق وبرامج لجان المقاومة والأجسام المقاومة الأخرى تبدو أكثر قابلية للتطوير وسد النواقص من هذا الاتفاق الإطاري وما سبقه وسيعقبه من نتائج العملية السياسية.

ختاماً فإن الدمار الشامل متحقق منذ عقود، وانهيار الدولة وغيابها واقع معروف ظلت الأطراف المكونة لقوى الحرية والتغيير تتحدث عنه منذ تسعينات القرن الماضي، وتجربة الأربع سنوات الماضية تذكرنا أن الاتفاق مع أطراف من النظام "البائد" لم يمنع استمرار انزلاق البلاد للهاوية، وليس هناك ما يجعلنا نتوقع أن الاتفاق الجديد سيفعل ذلك. وعندما يتحدث أحد عن حقن الدماء ومنع الانهيار فيمكن دعوته لتوسيع دائرة رؤيته لخارج وسط الخرطوم وبعض المدن الكبرى، فبالنسبة لغالبية شعب السودان كانت الفترة الانتقالية استمراراً لعهد نظام البشير فلم تحقن دماءهم، ولم تقدم لهم ما يبشرهم بقيام دولة تعبر عنهم وتستجيب لتطلعاتهم.

 

  1. وحدة قوى الثورة ووقف التخوين.


كرس البيان مساحة كبيرة لإلصاق أقذع الألفاظ والنعوت بمعارضي الرؤية السياسية التي تمخض عنها الاتفاق الإطاري، بل وساوى في عدة مواقع بينهم وبين الفلول وقوى الثورة المضادة، وألمح بتحميلهم مسؤولية تردي كل مناحي الحياة والعصف بالاقتصاد والأمن والصحة.

هذا البيان نفسه دليل جديد على عدم جدوى ولا واقعية الدعوات لوقف "التخوين" ووحدة قوى "الثورة" التي ما فتئت تقوم بها قوى الحرية والتغيير ومناصروها. فهذه النعوت التي تخدش المشاعر متبادلة بين كل أطراف "قوى الثورة"، والجدل حول من البادئ ومن المخطئ لا يمكن حسمه، وغير مفيد. كما أنه لم يثبت أن قوى الحرية والتغيير تعاملت بشكل مختلف حتى مع من لم يخونها ولم يبادلها الإساءات ممن أعلنوا رفضهم لمواقفها في فترات مختلفة.

ووحدة قوى الثورة بشكلها الاصطفافي الرومانسي المطروح غير مفيدة، وقد كانت وحدة "#تسقط_بس" – كما أسميتها في مقال نشرته في 4 فبراير الماضي بعنوان "وحدة #تسقط_بس غير قادرة على تحقيق شعارات ثورة ديسمبر"*  – دليلاً  آخر على عجز الوحدة السياسية التي تظهر في اللحظات الأخيرة قبل إسقاط الأنظمة الدكتاتورية (أكتوبر وأبريل وديسمبر) عن تحقيق تطلعات الجماهير، مما يستوجب التمسك بوحدة تخوض أكثر قليلاً في تفاصيل اليوم التالي، وما يريد كل حزب أو فصيل عمله، وأي مصالح سيعمل على تحقيقها، وأي شرائح من الشعب السوداني سيعطيها الأولوية في الاستجابة لتطلعاتها.

كثير من الموقعين على هذا البيان بكل استقامتهم و "كسبهم" لا شك يلاحظون مفارقة دعوتهم لوحدة ما يسمونها قوى الثورة تحت مظلة فيها الاتحادي الديمقراطي الأصل والمؤتمر الشعبي، وأشخاص كصاحب التوقيع الثالث والعشرين، والبرهان وحميدتي.

 

  1. تأكيد استقلال ومهنية ووطنية الموقعين على البيان.


من اللافت للنظر في البيان استشعار كاتبيه أو موقعيه بضرورة التأكيد على استقلالهم ومهنيتهم ووطنيتهم وتاريخهم ومسؤوليتهم، وأنا بالطبع لا أجرؤ ولا أملك الحق في المزايدة على معظهم، ولكن يبدو لي أن هناك تنازعاً داخلياً لدى بعضهم إدراكاً منهم للمآلات المنطقية لهذه العملية السياسية بإعلانها الإطاري واتفاقها النهائي (الذي كشفت مجريات وتوصيات ورشة تصفية التمكين عن ملامحه)، وأشفقوا أن يلتصق اسمهم وتاريخهم بتلك المآلات ولذلك كرروا التذكير باستقلالهم ووطنيتهم ربما ليقنعوا أنفسهم بصواب موقفهم هذا.

من حق هؤلاء الإعلاميين كما هو حق أي مواطن/ة سوداني/ة أن ي/تتخذ المواقف السياسية التي ي/تراها، ولكن لتسمية الأشياء بمسمياتها فقد ارتضى الموقعون أن يصطفوا مع "القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري" وقبلها – ومن بينها – قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي. ويجب ألا يشعروا بالخجل أو الاستياء من التعامل معهم باعتبارهم أعضاء أصيلين في هذه الجبهة السياسية، خصوصاً وأن العديدين منهم سيكونون ضمن الـ (60% من خارج القوى الموقعة) المشاركين في ترتيبات العملية النهائية.

انضمام هؤلاء الإعلاميين رسمياً لهذه الجبهة يعني موافقتهم أو غضهم الطرف عن تكتيكات ومواقف قوى الحرية والتغيير على الأقل منذ انقلاب 25 أكتوبر؛ من تبنيهم للاءات الثلاث، وإقرارهم بأخطاء جسيمة في الفترة الانتقالية، وإعلانهم الإذعان لمطالب وتكتيكات الشارع، ثم تنكرهم لكل ذلك، وارتكاب نفس الأخطاء التي شابت أداءهم في الفترة الانتقالية بنفس الشخوص وبدون الاستفادة من أي من الدروس التي دفع الشعب السوداني والوطن ثمناً غالياً لها.

من هذه الأخطاء المكررة عدم الشفافية مع الشعب السوداني، واحتكار اتخاذ القرار، وشق الحركة الجماهيرية وضعف الثقة فيها، والاعتماد على الخارج، وسيطرة ضعيفي القدرات على مفاصل العمل. ومن الأخطاء الجديدة التي سيتحملها الإعلاميون الموقعون على هذا البيان دفاعهم عن عملية سياسية يعلمون أن "مخرجاتها" لن تسمح بمساءلة مرتكبي جريمة الانقلاب ولا ردعهم عن الانقلاب القادم، ولن تبعدهم عن السلطة الحقيقية، ولن تعيد مؤسساتهم الاقتصادية للدولة، ولن تعيد هيكلة القوات المسلحة والمليشيات، ولن تحقق الحد الأدنى من مطالب وحقوق الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة والحياة الكريمة والأمن والاستقرار، ولن تخرج السودان من حالة الوصاية الدولية التي يعيشها.

 

ختاماً، لا أعلم السبب الذي جعل أساتذة نجلهم ونحترمهم ونعرف قدراتهم يستعجلون بالتوقيع على هذا البيان التاريخي ونشره دون مراجعة أو تجويد وهو بهذا المحتوى المتهافت غير المترابط، والشكل الضعيف الممتلئ بالأخطاء الإملائية والنحوية (أحصيت على عجالة أكثر من 113 خطأ من جملة 1042 كلمة). ولذلك فلم أستغرب أن يصدر بيان الترحيب به من رئيس اللجنة الإعلامية بقوى الحرية والتغيير وبه أكثر من 6 أخطاء من جملة 138 كلمة.

 

* رابط لمقال "وحدة #تسقط_بس غير قادرة على تحقيق شعارات ثورة ديسمبر"

https://sudanile.com/%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D8%AA%D8%B3%D9%82%D8%B7_%D8%A8%D8%B3-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D9%82%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82-%D8%B4%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA/

 

 

husamom@yahoo.com

 

آراء