بين منتدى الرتز…ومستشفى حمد(1)

 


 

 


2/6/2012م
1
قال لي أمير صديق (والله يا زول تحمد ربك لو مرضك ده جاك في الدويم كان الليلة شربنا الشاي في خامستك!!. يقصد اليوم الخامس لوفاتي!!.لكم أكره أن يتخذ رؤساء التحرير من صحائفهم دفتراً لعرض أحوالهم الخاصة في الوقت الذي ينبغي تكريسها لخدمة قضايا الجماهير والقراء الذين يشترون الصحيفة لمعرفة أحوال البلاد والعباد وليس أحوالنا الخاصة. ولازلت أذكر قصة القارئ الذي دخل على رئيس التحرير قاذفاً بالصحيفة أمامه قائلا: (ياخي إنت أبوك ده كتلناهو نحن؟) وكان رئيس التحرير قد أكثر رثاء أبيه.
2
بعد إذنكم سأحكي لكم ما جرى لي وللوطن بين فندق الرتز ومستشفى حمد الطبية. كنت قد غادرت الخرطوم متوجهاً للدوحة وهي من أحب بقاع الأرض لي، ليس لأن لي فيها أصدقاء وأحباب وزملاء ورفاق فقط، ولكن هي بلاد وهبني الله محبة خاصة لأهلها وأرضها لعلها بعض من محبة الطيب صالح والصلحي وبابكر عيسى الذين غرسوا تلك المحبة الخاصة للقطريين في وجداننا. كان من المفروض أن أحضر لقاءً تفاكرياً حول الأزمة الوطنية دعا له المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بمبادرة جديرة بالاحترام من ثلاثة من أميز مثقفي السودان (النور حمد- عبدالله علي إبراهيم –عبد الله البشير). في ذات صباح يوم افتتاح اللقاء بفندق الرتز وجدت نفسي محشوراً بداخل إسعاف يقطع بي مسافة طويلة بين باحة الفندق ومستشفى حمد الطبي، مسافة أطول من تلك المسافة بين الحياة والموت. آلام فظيعة تعتصرني.. لابد أنها بداية لسكرات الانتقال لسفر بعيد... فكرت أن أطلب من د. ناهد محمد الحسن التي رافقتي، تلقيني الشهادة، غير أني لم أكن متيقناً من مدى شرعية تلقين المرأة الشهادة لصديق!!. خفت إن سألتها فتوى أن تشتبيك معي داخل الإسعاف. (جنّها حقوق مرأة).
3
في تلك اللحظات كان السيد عزمي بشارة المعروف رئيس المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات يفتتح بكلمة قصيرة وأنيقة، اللقاء التفاكري لمجموعة من المفكرين والمثقفين السودانيين مرحباً بهم وبفكرة اللقاء معلناً استعداد المركز لمواصلة رعاية الحوار السوداني. ألقى عزمي كلمة بليغة وحصيفة حددت جوهر فكرة الملتقى بتوصيف دقيق لهوية المشاركين. (نحن لدينا مصلحة حقيقية لجمع هذا الكم من المفكرين والمثقفين للتداول.. وهم لم يجتمعوا كممثلين لأحزاب أو حركات، ولكن كمفكرين ومثقفين لهم قدرة على التفكير والتأمل دون الغرق في نرجسيات التفاصيل الصغيرة التي أودت بحركات سياسية كثيرة، ولكن الأمر المهم الثاني أنهم كذلك قريبون من القوى السياسية حتى لا تكون أفكارهم تهويمات أو رؤى لمثقفين بعيدين عن الواقع).
4
أنهى الأطباء فحوصاتهم الدقيقة بأحدث الأجهزة التي بالتأكيد لن يسمع بها أطباء مستشفى الدويم خلال هذا القرن. بعد أن أخذوا صورة عرفوا أن جدار بطني قد تمزق من «مغائص» الوطن ويبدو أنه كان ممزقاً منذ بعيد ولكن لم تستطع الأمعاء الدقيقة إعلان تمردها إلا حين وجدت ملاذاً آمنا بالخارج وداخل الجدار!!. حتى حصولي على قرار من الأطباء كان جسدي المنهك قد تلقى ثماني زجاجات من المورفين وستة دربّات متنوعة الأغراض.
5
بفندق الرتز كان الجميع يستمعون لصوت الدكتور النور حمد؛ أحد عرابي ذلك اللقاء، يذكّرهم بقوله تعالى ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس). وقال (لا يوجد حوار حقيقي لا يتضمن الاستعداد لتنكّب مخاطره من نوع ما, أو لا يقتضي القدرة على تقديم تنازل من نوع ما, فالحوار يحتاج شجاعة فكرية استثنائية ويحتاج أيضا معرفة بالذات وقدرة على وضع الأصبع على التواءاتها. فكثيراً ما ننكص عن المضي في مسارات الحوار ليس بسبب نقص إحساسنا بالوجهة الصحيح إنما بسبب عجزنا عن تحمل تبعات السير في تلك الوجهة الصحيحة). لو أنني استمعت لكلمة النور لأستغنيت عن المورفين وانتعشت. تلك كلمة فارعة وضعت منتدى الرتز في مساره الصحيح.
6
في مستشفى حمد قرر الأطباء إجراء عملية على وجه السرعة لإنهاء تمرد الأمعاء الدقيقة. حمل إليّ هذا النبأ صديقي سعادة السفير عبدالعظيم كاروري الذي أقلقت نومه فجراً، ولكني لم أفهم سر تلك الابتسامة العريضة التي ارتسمت على وجهه. في تلك اللحظة تجولت ببصري حول السرير لأرى رد فعل الذين تحلقوا حولي فرأيت الأصدقاء فوزي بشرى وأمير صديق وناهد وحسن المجمر والأمين البدوي كاكوم وحسن البشاري والبدوي ومحمد صالح وعلى وجوههم ذات الابتسامة (شفتو الخوة كيف) وهذه ليست المرة الأولى التي يشمتون عليّ فيها فلقد جعلوا من آلام حزامي الناري مسرحاً للضحك المفتوح والولائم. نظرت إليهم وقلت موافق على العملية لأجل ابتسامتكم هذه لو أنني غادرت ستكون هذه الابتسامات خير زاد لي إلى يوم الدين، أما إذا نجوت فسأنتقم منكم فرداً فرداً يا....... (ضع الكلمة المناسبة).

عادل الباز


 

آراء