تأشيرة راعي غنم

 


 

 




Osman.abuzaid@gmail.com

في صالة المغادرة بمطار الخرطوم سألني شاب صغير: يا عم صحيح كل واحد بيشتغل مع كفيله، وما يقدر ينقل كفالته؟ إنه خريج هندسة منذ ما يزيد على خمس سنوات، بقي دون عمل في تخصصه، واشتغل بائعاً متجولاً وسائق (أمجاد). أخيراً توكل على الله وسافر بتأشيرة راعي غنم ... يقول: " نعمل شنو الحالة بقت صعبة شديد، وشغل ما في، وعندي ديون لازم تتسدد".

واضح أن موجة الهجرة الأخيرة طالت الشباب وغير الشباب، فقد جلستُ في الطائرة المتجهة من الخرطوم إلى جدة إلى جانب شخص جاوز الخمسين من العمر. عرفت منه أنه راجع إلى السعودية لاستئناف فترة جديدة من الاغتراب، وكان قد أمضى قبل ذلك ستة عشر عاماً. سألته: ما الذي دفعك مرة ثانية للهجرة؟ فأجاب: بقيت في السودان أربع سنين، والعمل لا بأس به، لكن الظروف الاقتصادية الأخيرة أجبرتني للنزول على رغبة صاحب العمل في السعودية الذي ظل يطلبني باستمرار.

قبل ثلاثة أعوام، كان السودانيون من أعضاء هيئة التدريس في تلك الجامعة، قد تناقص عددهم إلى ما دون العشرة ، وفوجئت بمن يقول لي إنهم قد زادوا على الستين أستاذاً في ظرف سنتين فقط.

خلال السنوات الأخيرة حصلت زيادة كبيرة في أعداد المهاجرين. وحسب ما ذكرت وزيرة تنمية الموارد البشرية والعمل في برنامج تلفزيوني أن العدد ارتفع إلى (30) ألف في عام (2011م)، ثم تضاعف إلى (91) ألف خلال العام (2012م).

لا شك أن لهذه الهجرة المتزايدة جانبها السلبي، وأيضاً لها إيجابيات إذا أحسنا التعامل معها، بوضع سياسات مدروسة.

لا ينسى المغتربون أنهم ظلوا ضحية التقلبات الاقتصادية وتذبذب سعر العملات الأجنبية. لقد ضاعت مدخراتهم بين ارتفاع الدولار وهبوطه. صار هناك عدم ثقة يمنعهم من تحويل المدخرات إلى الداخل، ولكنهم لا يستطيعون أن يمتنعوا من إرسال مصروفاتهم، التي تمتصها تجارة العملة.

في ورشة عن اقتصاديات الهجرة ، قدم خبير أجنبي تجربة دولة إفريقية أقل نمواً مثل أثيوبيا حققت الفائدة المثلى من تحويلات المغتربين في التنمية خاصة في القطاع الصناعي. وأجازت الورشة نفسها مقترحاً بمنح ميزة تفضيلية للمغتربين في سعر الصرف عند إرسال تحويلاتهم إلى الداخل.

هذا الجانب المالي مهم جداً، ولكن ما هو أهم منه الاستفادة من الوجود السوداني في الخارج. المغترب خارج وطنه يكون أعمق إحساساً بمشكلات وطنه وأشد تفاعلاً معها. وما نلاحظ من نقاشات محمومة بين المغتربين في مواقع التواصل الاجتماعي دافعها هو هذا الإحساس العميق بالوطن.

يمكن أن يتوجه هذا الإحساس إلى نشاط إيجابي لخير الوطن، بتعزيز مكاسب الوطن على يد أبنائه في الخارج، ونقل الصورة الحسنة عنه. هناك نشاط في هذا الاتجاه يتولاه جهاز تنظيم شؤون السودانيين بالخارج، ولا سيما في حصر الكفاءات والخبرات، وتجسير العلاقة مع الداخل بأسلوب مؤسسي.

إذن المغترب قريب جداً بمشاعره وإحساسه من الوطن. ومع ذلك فقد ينظر إليه البعض وكأنه انتقل إلى الدار الآخرة! وهذا بسبب تقدير غير صحيح وشعور غير طبيعي بالعالم من حولنا. المغترب نفسه قد يعطي هذا الإحساس عندما يغيب سنوات طويلة، ويجعل تراكم السنوات حاجزاً نفسياً بينه وبين وطنه.

مهما يكن فالسودانيون يشبهون الطيور المهاجرة التي تعود إلى أوكارها وتهتدي إلى أعشاشها وإن بعدت المسافات. إنهم لا يقارنون بالمغتربين الآخرين ... فرق كبير.

علينا أن نهتم بهذا الارتباط القوي بين الوطن وأبنائه، فهل بإمكاننا مثلاً أن نقترح ملحقية عمالية في كل بلد توجد فيه جالية سودانية كبيرة. وتستطيع هذه الملحقية أن تباشر حقوق السودانيين، وتسهم في رفع المظالم التي تحيق ببعضهم مع أصحاب العمل. أليس وجود الملحقية العمالية أولى من المستشارية الثقافية التي لم يعد لها عمل ملموس في ظل تناقص العلاقات الثقافية بين السودان والخارج؟

السودانيون في الخارج يريدون الاطمئنان إلى وجود ظل لدولتهم وحكومتهم ترعى شؤونهم وتحميهم، وبذلك يزداد شعورهم بالانتماء لهذا الوطن.
يسّروا سبيل السفر والعودة، اجعلوا تطبيعاً كاملاً للدخول والخروج. يا ما تحدثنا عن صعوبة الخروج من السودان، وليست تأشيرة الخروج إلا عنواناً صارخاً لهذه الصعوبة.

لن نكف عن ترديد القول بأن السودان هو البلد الوحيد في العالم الذي يشترط تأشيرة خروج لمواطنيه. وعندما كتبنا عن هذا الأمر من قبل "تأشيرة الخروج للمواطن بدعة سودانية"، عقّب أحد المعلقين ساخراً : تصوّروا شخصاً يتعيّن عليه أن يدق باب بيته حين يريد الخروج منه!

حاشية :

قال أمير المؤمنين عليّ: من سعادة الرجل خمس: أن تكون زوجته موافقة (أي على وفاق) ، وأولاده أبراراً ، وإخوانه أتقياء ، وجيرانه صالحين ، وأن يكون رزقه في بلده.

وقال شاعر :

وكلُّ البلادِ بلادُ الفتى

وما بينه وبلادٍ نسب

إذا بلد بك يوماً نبا

فلا تخلدنّ به واغترب

 

آراء