تاريخ حياتي لبابكر بدري: الإمتاع والمؤانسة … بقلم: علي يس الكنزي

 


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

من أبواب متفرقة

علي يس الكنزي

alkanzali@gmail.com

 

 

2-9

مدخل أول لشخصيته

تعقد الدهشة لسانك عندما تعلم أن شيخنا بابكر بدري كتب مذكراته  هذه تحت إلحاح ابنه يوسف وهو في الثمانين من عمره. المدهش حقاً أن الرجل ما زال يحمل ذاكرة رطبة حية لم تجف أوراقها في ذلك العمر المتقدم، فلم تغب عن شيخنا حتى التفاصيل الصغيرة التي عاشها. فهو مازال يتذكر لبن الرضاعة وطعمه وحلاوته، وعلى أي هيئة كان يأتيه. هذا فضل من الله على حفظة القرآن، وشيخنا واحد من هؤلاء، علاوة على أنه حفظ جوارحه في الصغر فحفظها الله له في الكبر.

قال عن نفسه: أنه ينحدر من أبوين أميين فقيرين، ولكنهما غنيان بالقناعة وحسن الخلق. وعبر عن أسفه لجهل أبيه في شئون العقيدة. وحادثة اكتشافه لجهل أبيه تنم عن أدبه وكياسته، وتبجيله لوالديه: قال له أبوه يوماً: "بعد أن فرق الفقيه منصور إمام الجامع من صلاة العشاء، سأل المصلين: هل الأرض خلقها الله أم وجدها مخلوقة؟ أجاب أكثر المصلين إن خلقها فعلى أي شيء كان يقف قبل خلقها؟. ولكن أباه أجاب بأنه يظن ظناً بأن الله موجود قبل الأرض. عند نهاية الحديث خرج بابكر وأفرق عيناه من الدموع وعلم أن أباه في خطر عظيم. من يومها أتخذ حيلة في أن يعلم زوجة أبيه العقائد الدينية، ولكن في ساعات تواجد أبيه، لأنه إياه يعني، فتم له ما أراد.

عن أمه يقول: إنها ترملت قبل أن تتزوج بأبيه. ومن سيرته يتضح أن أمه لعبت دوراً هاماً في تشكيل شخصيته. فاعتنت بتنشئته وحرصت على تربيته منذ ولادته. وعندما أخضر عود الصبي بابكر ألحقته للدراسة بالخلوة برفاعة، ثم أرسلته إلى ود مدني ليواصل دراسته مع شيخ أوسع فقها وعلماً، فاستجاب  بابكر لأمرها.  وخلافاً لموقف أبيه الذي لم يناصر الثورة المهدية إلا تُقِيَة، أما أمه فكانت صاحبة عقيدة عظيمة في المهدي، وكانت تكثر من الدعاء في أخر عمرها أن تدفن بجوار المهدي بالقبة. فهي التي دفعته لمؤازرة المهدي وأن يكون واحداً من جنوده. فلم يتردد بابكر، وشارك في ثلاث عشر معركة حربية، على رأسها فتح الخرطوم وحملة فتح مصر بقيادة ود النجومي، ثم معركة كرري. ومقالتنا اللاحقة سَتُظْهر عظيم بره بوالديه وطاعته لهما، حتى في شئون بيته وأزواجه.

أما على المستوى الإنساني نجد أن شيخنا بابكر إنسان بسيط، صاحب وجه طلق بشوش، حلو المعشر.عندما تلتقيه لأول مره تحس أنك التقيت به من قبل، وعند مفارقتك إياه، تشعر بأنك تفارق صديقاً قديماً، وقراءتك لمذكراته تشعرك بأنك برفقة إنسان صريح عميق التفكير، ليس له رواسب نفسية تدفعه للتعالي والتكبر، أو الالتواء لما يدور حوله. كما تحس بأنك بصحبة رائدٍ ومجددٍ لكثير من السنن الحميدة التي سيأتي ذكر بعضها في مقالاتنا اللاحقة. فكتاب (تاريخ حياتي) هو واحد من تلك السنن التي لم نجد لها عملاً مشابهاً بين أبناء جيله أو الجيل الذي تلاه. وبهذه المبادرة الجريئة يكون شيخنا بابكر أتي بما لم تأت به الأوائل ولا الأواخر من أهل السودان، الذين لم يوثقوا لحياتهم وتاريخهم.  فأعظم ثقافتنا ومورثاتنا تعتمد على النقل الشفهي والروايات المنقولة للأحداث، وذلك لعدم انتشار ثقافة التوثيق المكتوب، ولضعف إمكانيات الضبط والتدوين عندنا. كما أن شيخنا لم يقم بهذا التدوين من قبيل الظهور أو الترف الفكري، بل كان كما قلنا نزولاً لرغبة ابنه يوسف.

حسب أدب السيرة الذاتية، يمكن أن نُصَنْف كتاب شيخنا بأدب الاعترافات الشخصية التي لا يمكن أن يقر بها رجل سوداني المنشأ إلا أن يكون بمواصفات شيخنا الذي لم يتردد بأن يقول لنا أن فلان صفعني وعجزت أن أرد عليه الصاع بصاعين، كما أنه لا يجد حرجاً في أن يبلغنا بأنه قد واقع امرأة راودته عن نفسه وهو في سن الشباب وريعان الفتوة ولم يستعصم، فأخطر أمه بالحادثة. إلا أن أمه ودينه وضميره زجروه وحذروه بأن يعود لمثله أبداً. وشيخنا لا ير بأساً أن يدون كيف لقي أخاه يوسف ربه. فإن كنت رقيق القلب ستدمع عينك أسفاً على يوسف لأن فراقه أحزن شيخنا أيما حزن، فأبكى قلبه فلم يجد ما يعبر به عن فقد أخيه إلا ما قاله لقمان الحكيم عندما بلغ بوفاة أخيه: "أن فقد الأخ هو قصم للظهر". وتراه ينعي أخاه شعراً جاء في بعضه:

يا رحمة الله تغشي روحه أبداً    فإنه كان كهفاً للمساكين

ذكرنا في مقالنا السابق أن شيخنا صاحب حيلة وفطنة، ظهرت عليه منذ بواكير صباه. وتجسد ذلك عندما دخل عليهم بخلوة رفاعة - الخلوة هو مكان دراسة القرآن- يوماً أحد الضباط الأتراك وبدأ بتوبيخ شيخه أمام  حيرانه - طلابه - ثم تطور الأمر فأوقع الضابط عقوبة الجلد على شيخه وأمام أعين حيرانه. هذا أسلوب كانت تتبناه الإدارة التركية مع أبناء البلد، ثم جاء الخليفة عبدالله ولم يكن حظ الناس معه بأحسن حالاً من الأتراك، وسار على هذا النهج من أعادوا استعمار السودان (الحكم الثنائي). وكل ذلك يرمي لاهانة إنسان السودان، وإذلاله ومحو شخصيته. يعجُ الكتاب بقصص من هذا القبيل، نورد منها ثلاث نماذج:

          تعرض شيخنا للضرب وهو صبي، من قبل استاذه الفقيه محمد الجابري الذي اقسم أن يوقع عليه عقوبة مائة جلدة. وبكي الصغير بابكر من الجلد حتى بح صوته، والشيخ يواصل الضرب، والصبي يواصل البكاء، حتى تقرحت قدماه وعجز عن السير فجاءه أهله وحملوه على حمار.

          أما الخليفة عبدالله لم يكتف بالجلد فقط، بل تعداه للسجن مع منع الماء والطعام عن المسجون. هذا ما وقع لقاضي القضاه أحمد علي، نتيجة وشاية وصلت للخليفة، فتم منعه من الطعام والشراب حتى مات جوعاً وعطشاً. وكذا الأمر بالنسبة للقاضي الشيخ الحسين الزهراء الذي أعترض هو الأخر على تصرفات عبيد يونس الدكيم فسجن ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات جوعاً وعطشاً. ولكاتب المقال أن يسأل ويحق له السؤال: هل اطلع خليفة المهدي على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن القطة التي حبستها امرأة حتى ماتت فأدخلها الله النار؟

          أما ما أتي به المستعمر الإنجليزي فيظهر في حوار غاضب جرى بين شيخنا مع المستر هللسون جاء في بعضه والشيخ يقول للمستر هللسون: "هل سمعت يا مستر هللسون عن مفتش بريطاني ربط تاجراً من رجله بحبل وأدخله مع البهائم ووضع له العشب ليأكله؟" فأجابه المستر هللسون غاضباً: "لا يمكن أن يكون هذا قد حصل من بريطاني!" فأجابه الشيخ: " هذا ما قام به المستر تيلور الذي نقل من رفاعة إلى أم درمان، أخبره بما قلتُ لك، وإن رفضه هو ولم أثبته فحاكموني".

          وعظمة شيخنا وسماحته تتجلى في تحليله لهذا الظلم الذي وقع عليه وعلى غيره، ففي حالته نجده مسامحاً لمن علمه فيقول مبرراً لفعلة شيخه الفقيه محمد الجابر أنه كان في حالة جذب، لهذا اشتط في عقابه. أما عن الخليفة عبدالله فيسكت شيخنا ممتعضاً ويكتفي بتدوين الرواية. أما مع المستعمر نجده غير متردد لا يعبأ بما سيلحق به وهو يلفت نظر الحاكم لما يفعله رجالهم في أهل البلد.

ونعود لقصة الصبي بابكر الذي فوجئ بشيخه يهان ضرباً أمام عينيه ولا يدري كيف يدفع عن شيخه الأذى، فتهديه قريحته وحيلته وفطنته، بأن يدعي الجذب -وهي حالة تعبر عن فقدان الوعي عند أهل التصوف- حماية لشيخه من جور السلطان، فتوقف الضرب وانشغل الناس بالصبي المجذوب، وبدأ الصبي يَهْزأُُ بكلامًٍ جاء فيه: " أن التركي سَيُقْتَلْ جزاء وفاقاً". ومن عجيب أمره أنه قُتِلَ في ثورة وقعت بعد عام لهذه الحادثة.

يقول شيخنا أنه التقى بشخصيات مؤثرة، وعلى رأسهم المهدي الذي كان يأتي إلى رفاعة قبل أن يصبح مهدياً، وقد كان معجباً بشخصيته التي كان يحفها الوقار، ولفت نظره شدة نظافة ثوبه وحسن هندامه. ومن المهدي تعلم معنى الآية 23 من سورة الحديد (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). ومنه أخذ صفة الزهد في الدنيا. فيقول: "أنه لا يهزه مدحاً، ولم يغضبه قدح". ومن المهدي تعلم السماح والعفو من قوله: " من فش غَبِنتُو خرب مدينتُو". وعلى نهج المهدي نشأ زاهداً. فقد روى أن المهدي في زيارة للخرطوم، بعد تحريرها، يوم الجمعة 6 فبراير 1885، رافقه مرافقة الفصيل لأمه حتى أن جسديهما كانا يلتحمان .دخل معه لبيت المال الذي كان بمنزل المفتي شاكر وفتحت الغرفة التي أودعت فيها الغنائم من سبائك الذهب وحلي النساء حتى كان للذهب توهج وبريق، فلما رآه المهدي شاح عنه بوجهه وصد راجعاً. وعند خروجه وجد امرأة تبكي فسألها عن ما يبكيها فقالت أن بنتها أُسرت مع أطفالها ورجته أن يأذن لها بأخذها، فذهب المهدي إلى المكان الذي جمعت فيه النساء وأمر أن توزع النساء قبل غروب الشمس على اهلهن أو اقرابائهن ومن لم توجد لها أقارب تزوج إن كانت فتاه. وحكى أنه كان يسمع ويرى المهدي يوصي رجاله وبصوت جهوري قائلاً: " إذا فتح الله عليكم، فغُردون لا تقتلوه، والشيخ حسين المجدي لا تقتلوه، والفقيه الأمين الضرير لا تقتلوه" وهناك رابع نسي شيخنا اسمه. ولكن بعد ساعتين من وصية المهدي رأي غردون في سرايا الحاكم –القصر الجمهوري- يسبح في دمائه التي ما زالت تجري من جسده الملقى وقت دخول شيخنا عليه، فتأسف لعدم مثول الأنصار لوصية إمامهم.

محور كتاب (تاريخ حياتي) لشيخنا بابكر بدري، هي سيرة رائعة لإنسان فريد أحسبه أسطورة ليس للقرن الذي مضى ولا الذي نحن فيه، بل لقرون ستأتي. فهي رواية لقصة إنسان عاش الفقر وعاش الغنى، نجح مرة وفشل مرات، أنتصر في الحرب وهزم في الحروب، تقدم للمعارك وأنسحب منها، عايش الفرح وتجلد بالصبر على الأحزان بفقد الأم والولد والأخ والبنت. إلا أنه في النهاية توج أعماله منصرفاً بكلياته لقضية التعليم جاعلاً منها رسالته في الحياة، خاصة بعد أن تكسرت رماح المهدية في كرري، واستشهد الخليفة عبدالله وصحبه في أم دبيكرات، فلم يجد هذا الأنصاري سلاحاً آخر يقارع به الاستعمار الجديد (الإنجليزي المصري) إلا أن يهب نفسه ووقته وماله لتعليم أبناء وبنات بلده.

كم هو فخر لبلادي، بل للإنسانية جمعاء، أن يذكر التاريخ رجل مثل بابكر بدري، الذي فرض اسمه بعطائه، فأصبح رمزاً من رموز بلادي. فهو من القلائل الذين ساهموا في بناء نهضتنا المعاصرة ولو قُدِرَ للسودان أن ينجب مائة رجل يهبون حياتهم للشأن العام كما وهب شيخنا حياته، لتغير واقعنا كثيراً. فقد زهد السياسة والتَقْرُبِ إلى أهلها إلا بذلك القدر الذي يسمح له بمواصلة رسالته في الحياة. ألا وهي رسالة التعليم، التي أثبتت الأيام بُعْدَ رؤيته فيها، لأن الأمم في عالم اليوم، تحقق وجودها من خلال تعليم أبنائها وبناتها.

وإلى مقالنا يوم الاثنين القادم إن شاء الله، مع شيخنا بابكر بدري مؤانسة ومتعة.

 

آراء