تاريخ حياتي لبابكر بدري: الإمتاع والمؤانسة …. بقلم: علي يس الكنزي
21 June, 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
من أبواب متفرقة
alkanzali@gmail.com
3-9
مدخل ثاني لشخصيته
من حواشي الكتاب:
من حواشي الكتاب وفي صفحاته الأولى تَعَلمتُ وعَلِمْتُ كيف تُحْسَبُ الساعة بالتوقيت العربي (أي توقيت الليل والنهار)، وهو ما يعرف بتوقيت أم القرى أي "مكة المكرمة". حيث يبدأ التوقيت عند غروب الشمس، وتكون الساعة الواحدة مساء، وليس عند منتصف الليل كما هو حال الفرنجة. أما عند شروق الشمس يكون الوقت الواحدة صباحاً، وبالتوقيت الإفرنجي يكون السابعة صباحاً. ومن هذا يظهر أن توقيت أم القرى متأخر عن التوقيت الإفرنجي بستة ساعات.
كما نجد في صدر الجزء الأول من كتاب تاريخ حياتي، المعادلة التقريبية التي يمكن استخدامها، لتحويل السنة الميلادية لهجرية، والهجرية لميلادية. ومن المؤكد أن هناك معادلات رياضية أكثر دقة من هذه، ولكن تكشف لنا هاتين المعادلتين سعة علم ومعرفة شيخنا بابكر. ولفائدة القارئ نورد المعادلة التي تقول: السنة الميلادية = (السنة الهجرية + 622) - (السنة الهجرية ÷ 33). أما معادلة تحويل السنة الميلادية لهجرية فهي كالأتي: السنة الهجرية = (السنة الميلادية -622) + ((السنة الميلادية -622)÷33)).
.الشيخ الكراس:
يُعد القرآن أول المرتكزات والمكونات الثقافية والأخلاقية والتعبدية لشيخنا بابكر، ذلك فضل الله عليه الذي جعله من أم حرصت على إلحاقه بالخلوة ليتعلم القرآن وعلوم الدين. ولكي نعرف كيف تشكلت شخصية شيخنا بابكر، لا بد أن نتوقف عند بعض الشخصيات التي تتلمذ وتربى على أيديهم. ومن هؤلاء أخذ قيم الصلاح والتصوف والزهد والمجاهدة والصبر على الشدائد والمضي قدما لتحقيق أهدافه في الحياة. من حسن حظ الصبي بابكر أن يكون من بين معلميه الشيخ الكراس.
قص لنا عن شيخه وأستاذه الفقيه أحمد حامد المشهور (بالكراس) الذي درس على يديه القرآن لسبع سنوات ولم يفارقه حتى وفاته. وعلى يديه تشرب الصبي بابكر على قيم الأنفة والكبرياء والاعتماد على الله. وقد ظهر أثر ذلك في جميع مراحل عمره، وهذا ما سنراه لاحقاً. وذكر شيخنا بابكر حديثاً عظيماً في حق شيخه (الكراس) تقشعر منه جلود الذين آمنوا، مما يجعل من العسير علينا إلا إيراد بعضه.
يقول شيخنا: أن عدد الدارسين بخلوة الشيخ الكراس يفيضُ على أربعمائة طالب. ومع ذلك كان رحمة الله عليه لا يبالي برزقهم، ولا يلق لأهل المال والجاه فتيلاً، ولا يقبل هدية من أحد من الناس، ولا يسمح لأحد من أهل رفاعة ولا لنفسه باستخدام طلابه في شئونهم الخاصة، حرصاً منه ليتفرغ (الحيران) أي الطلاب لما جاءوا من أجله، ألا وهو حفظ القرآن وطلب العلم.
وقال كان شيخه الكراس يطلب من الكبار كتابة ألواحهم ثم يقوم بتصحيحها. ولكنه يُملي على متوسطي العمر غيباً فيكتبون ألواحهم. أما الصغار فكان يكتب لكل واحد منهم بنوى التمر في لوحه، ثم يطلب من الصغير أن يمرر عليه بقلمه. وبذلك يعلمه الكتابة والقرآن معاً. وكان يُكملُ مع تلاميذه في كل يوم سبع القرآن.
الكراس وزيارة ناظر الشكرية:
ويواصل حكايته، بأنه زار الخلوة يوماً الشيخ عوض الكريم أبوسن، ناظر الشكرية راكباً فرسه. وراكب الفرس في ذاك الزمان يعني الكثير، دع عنك أنه زعيم الشكرية وصاحب الكلمة المسموعة عند الأتراك. وقف الشيخ أبو سن عند باب الخلوة خارج الزريبة - الحوش أي السور- التي تحيط بالخلوة، فهف للقائه الفقيه العالم وقيع الله، ثم جاء مهرولاً مسروراً يزف البشرى للشيخ الكراس أن أبا سن بالباب! والطلاب منشغلون مع شيخهم يكتبون أو يعرضون عليه ما كتبوا أو يسمعون له ما حفظوا من القرآن، والشيخ مُنْصَرفٌ عنه لطلابه. بعد ما طال انتظار أبوسن نزل من حصانه، ودخل الخلوة واستقبله للمرة الثانية الشيخ الفقيه وقيع الله. ولكن الشيخ الكراس لم يلق لحضورهما بالاً مشتغلاً بمراجعة طلابه. عندما طال الانتظار دون التفاتة من الشيخ الكراس، طلب أبوسن الفاتحة ورفعت له دون مصافحة. بعد مغادرة أبوسن، عاتب العالم الفقيه وقيع الله الشيخ الكراس لعدم اهتمامه وحسن استقباله لزعيم وناظر الشكرية، فرد عليه زاجراً: " يازول هه! الله بسألني عن مجاملة الشيخ أبوسن، ولا عن ألواح الحيران؟"
ويزيدنا تعريفاً بشيخه قائلاً: " كان من عادة فقهاء الخلوة في ذلك الزمان، أن يُفَزِعُوا –أي يُرْسِلوا حيرانهم –أي طلابهم- للغابات يومين من كل أسبوع لجمع الحطب، ليبيعوا بعضه ويستخدموا بعضه في الخلوة، وجزء أخر في حاجات معيشتهم. أما شيخه فكان يجمع حطبه مرة في العام عند فيضان النيل –والمعلوم أن النيل الأزرق يجرف في موسم الفيضان الكثير من الأشجار الواقعة على مجراه، وعندما يعلم شيخهم أن (البحر رامي) –يعني أن النيل قد فاض بالأشجار- يأمر (حيرانه) في ذالك اليوم بالتوجه إلى (البحر) لجمع الحطب. ولسلامة طلابه كان يأمر الكبار بجلب الحطب من داخل (البحر)، أما المتوسطون فمن شاطئ (البحر)، والصغار عليهم حمل الحطب إلى الخلوة. ولضمان سلامتهم كان يكتب لكل واحد اسمه. فالمتوسطون يكتب لهم أسمائهم على الذراع، أما الصغار فعلى الساق. وعند العودة من (البحر) يفحص اسم كل واحد، فمن أمحا اسمه تُعَدُ بينة عليه بأنه دخل في الماء أكثر مما هو مسموح به، فيتم عقابه.
كما كان رحمة الله عليه، يمنع (حيرانه) من العادات التي يمارسها طلاب الخلوة في ذلك الزمان، ويحسبها من الدناءة. مثل التسول بالشرافة في السوق أو الذهاب إلى المنازل طلباً للطعام، أو ارتياد بيوت المأتم لأكل الصدقة. يقول شيخنا بابكر أنه مكث بالخلوة سبع سنين ولم يحدث أن ذهب أحد من (حيران) شيخه لمأتم، إلا مأتم الشيخ علي أبوسن ومأتم عون الله احد أقرباء شيخه. كما لاحظ أن شيخه الكراس كان شديد الحرص على الزمن واستثماره لأقصى درجة ممكنه، وذلك لوعي شيخه بأن الزمن طاقة لا تتجدد ولا تعوض. فيبدأ يومه في الرابعة صباحاً مع تلاميذه، ثم ينفض عنهم لنسائه في الحادية عشر ليلاً. ومن شدة حرصه في استثمار الزمن كان في وقت اغتساله واستحمامه بمخزن الذرة يواصل مع طلابه عرض ألواحهم.
هذا ما تطبع به شيخنا بابكر عندما خرج للحياة. فانظر لوصفه كيف يقضى يومه في أول مدرسة أنشأها للأولاد برفاعة في 14 فبراير 1903، الموافق 13 ذو الحجة 1321هـ يقول أن يومه الدراسي مع الطلاب يبتدئ على الساعة الثامنة صباحاً حتى الثانية ظهراً ويعود الطلاب في الثالثة والنصف ويستمروا في الدراسة حتى الساعة الخامسة والربع. ومن بعدها تبتدئ فترة الأنشطة الموازية والألعاب التي تنتهي بغروب الشمس. بعد ذلك يأخذ شيخنا التلاميذ كبار السن لحصة المذاكرة بمنزله حتى التاسعة مساءً، ثم يبقى شيخنا حتى منتصف الليل لتحضير الدروس ونَظْمِها وتنظيمها لليوم التالي. وكان بمدرسة شيخنا في بدايتها خمسين تلميذا وأستاذاً واحداً هو شيخنا بابكر. ومن الأدوات التعليمية التي أبتدعها بخياله الخصب المليء بالحلول العاجلة كما قلنا آنفاً، أن صنع كرة القدم لتلاميذه من شعر الحيوان والصابون والصمغ. أما الكرة الأرضية التي كان يستعين بها في حصة الجغرافيا فكانت من القرع.
يموت الفكي ويموت أبوي:
نعود لرواية إحدى قصصه مع شيخه الكراس، والتي تعبر عن حيل وطرافة وحضور بديهة شيخنا بابكر، كما تؤكد عظمة الشيخ الكراس، فيقول (الحوار) بابكر أنه تساهل يوماً في حفظ لوحه وكان خطأه في قوله تعالى (ولما فتحوا متاعهم) آية 65 من سورة يوسف (اللوح الثاني)، كان الوقت حينذاك عشاءً، فلما حضر الفقيه وقت السحر، أجتهد بابكر في الحفظ فلم يوفق. وجاءت نوبته للتسميع، فظن أن شيخه لن ينتبه له فمحا لوحه، وانتقل إلى اللوح الرابع (فلما دخلوا عليه) آية 88 من سورة يوسف. ولما قرأ عليه ضحى اليوم التالي لتصحيح قراءته سكت عنه الشيخ، إلى أن ختم بابكر (لوحه)، ووقف عند قوله (إنه العليم الحكيم) آية 100 من سورة يوسف، ونهاية اللوح الرابع. أراد الصبي بابكر بدهائه أن يتجاوز تسميع اللوح الثاني والثالث من آية 65 حتى آية 87. فناداه قائلاً: " تعال يا العليم الحكيم، أنت عرضت على من؟" يعني اللوح الثاني والثالث فأجابه بابكر: "عرضت عليك يا سيدنا وأنت تستحم في المخزن" فجابه: "بالأمس دخلتُ للاستحمام وقرأ علي فلانٌ وفلان، ففلانٌ وفلان، ثم فلانٌ وفلان"، وخرجتُ وهما يقرآن فبين لي مع من عرضتَ لوحك؟"، فأجاب بابكر: "يا سيدنا يموت الفكي ويموت أبوي أنا عرضت". فقال لبابكر: " تموت أنت! أمش أمح وتعال أكتب ما محوته". فعجز بابكر، واتضح أمره فعاقبه بالجلد، وحكم عليه أن لا يبرح الخلوة حتى يُسَمّعْ ما فاته من ألواح. فما كان لبابكر إلا أن يمتثل.
هذه مدخل للتعريف بشخصية شيخنا بابكر بدري تكشف لنا على أي نوع من الرجال والنساء نشأ هذا الرجل العُصامي، وأخضر عوده. فلا غرو مما سيأتي ذكره في المقالات القادمات إن شاء الله والتي ستكشف لنا شخصية رجل عالم عامل زاهد تميز بخلق رفيع ونفس مجاهدة صابرة رضعها من ثدي أمه، ثم تلقفها من عند مشايخه وعلى رأسهم المهدي.
يبدو أن مقالاتي عن شيخنا وجدت ترحيباً من القراء، لمسته في محادثات هاتفية أتتني من السودان من أناس سعدتُ كثيراً بسماع صوتهم ومتابعتهم لما أكتب، كما أن الشبكة العنكبوتية حملت بعض الرسائل من قراء من السعودية وألمانيا وبريطانيا، منهم من طلب عوني في الحصول على الكتاب، وهذا حقاً ما أرمي إليه، وهو أن يقرأ أهل السودان ليس هذا الكتاب فحسب. فلو كانت القراءة ديدننا في الحياة، لتجاوز السودان الكثير من العقبات.
والكتاب في تقديري وثيقة هامة وشهادة رجل لا يمكن أن يقدح في صدقه وأمانته أحد، فشيخنا لم يكتب تاريخ السودان بل كتب ما عايشه. وإلى لقاء متجدد يوم الاثنين القادم إن شاء الله، مع الإمتاعُ والمؤانسة، مع شيخنا بابكر بدري.