رحم الله أخي (ناروس). تذكرتُه وأنا أقرأ كلمة وزير الخارجية قبل أسابيع بمناسبة زيارة رئيس الجمهورية للوزارة والتي فاخر فيها الوزير بأن الوزارة وفّرت للخزينة العامة 20 مليون دولار بعد أن "وجّهها" الرئيس بشد الحزام، وهو تفاخر كان موضوعا لعناوين الصحف بوصفه إنجازا عجز عن تحقيقه أسلافه. وفي رأيي أن زعم وزير الخارجية بتوفير هذه الملايين لا يعدو ان يكون ضربا من ضروب "الكُوار"، بل هو خير مثال لما نسميه "تجارة ناروس".
كان ناروس (وهو لقبه بين أترابه) شخصية فريدة – أسطورية إن شئت. كان رحمه الله حاضر البديهة ذا حس فكاهي رفيع، ترك وراءه "قفشات" وحكاياتوتعليقات أبقت ذكراه حيّة عند أهله ومعارفه ومجايليه. وددتُ لو كتبتُ سيرة حياته المدهشة لولا أن أمر الله كان أسرع.
كانت حياته عجيبة تستحق التسجيل فعلا. عمل فيها في مختلف المهن والحِرَف شملت، ضمن عدد كبير من المهن المختلفة، ممرض بيطري بالأبيض، وفنّي تبريد بالمملكة العربية السعودية، وانتهت بمُصوِّر في جريدة الجمهورية القاهرية حتى توفاه الله ودُفن في "الباجور" شمال القاهرة حيث أقام مع أسرته. ولكن ما يهمنا في هذا المقام، والعهدة على رواته، إشتغاله في مقتبل حياته العملية في تجارة الدواجن. كان رحمه الله يطوف بقُرى "ضهاري" الأبيض، يشتري الدجاجة بخمسة عشر قرشا ليبيعها بعشرة قروش في الأبيض، ويؤوب إلى داره في نهاية اليوم مزهوّا أنه "صرَّف" - باع - كل ما لديه من الدجاج، غير منتبه إلى أن التجارة هي البيع بهامش ربح، صغر أم كبر، بعد حساب المنصرفات. ومنها أتى تعبير "تجارة ناروس" نُطلقه على كل من يحذو حذوه في حساب الربح والخسارة الأشتر.
هذا حال وزير الخارجية وهو يُفاخر بتوفير وزارته مبلغ 20 مليون دولار أمريكي لأنها أغلقت عددا من سفارات السودان الجديدة في معظمها، (ولم يُكمل بعضها عامه الأول)، وخفضت الوظائف في البعض الآخر بعد أن "حشتها" بوظائف، معظمها وظائف كبيرة. هذا عندي "الكُوار" بعينه، و"تجارة ناروس" الخالق الناطق.
لماذا أقول ذلك؟ باختصار: أولا: التوفير المزعوم الذي فاخر به الوزير هو توفير "افتراضي" لم يحدث بعد، ولن يصل في نهاية عام من إغلاق السفارات وتخفيض العمالة إلى العشرين مليون بأي حال من الأحوال، بل هو، كما أسلفت، محض "كوار" ينسى "ثمن" فتح هذه السفارات.
ثانيا: يُغفل زعم هذا التوفير "الإفتراضي" المنصرفات الحقيقية لفتح هذه السفارات التي تم إغلاقها وتأثيثها، وتأثيث منزل السفير، وشراء المعدات والسيارات "رباعية الدفع"، وذلك قبل حين ليس بالبعيد، وفي بلدان أشك أن البريد السوداني يصلها، ناهيك عن وجود مصالح اقتصادية أو سياسية تستحق اقتطاع "مزعات" من لحم هذا الشعب الصابر حُرمت منها قطاعات التعليم والصحة وغيرها والتي هي أساس وشرط التنمية البشرية والتنمية.
ثالثا: يُغفل التوفير "الإفتراضي" الذي فاخر به الوزير المنصرفات "الحقيقية" اللازمة لإغلاق هذه السفارات والتخلص من سياراتها وأثاثاتها ومعداتها (التي إن تم بيعها "سكند هاند" لن تسترجع إلا الجزء اليسير من تكلفها الأصلية، رغم جدتها النسبية)، وتكلفة عودة هذا العدد الكبير من السفراء (بالدرجة الأولى) والدبلوماسيين والكوادر المساعدة وأسرهم، ومقابلة حقوقهم وحقوق العمال المحليين والمنصرفات الأخرى المرتبطة بإغلاق السفارات، وهي تجربة مرّت بها وزارة الخارجية من قبل وخبِر الناس آثارها المُدمّرة، وإهدارها للمال العام، وإثارتها للتساؤلات حول سمعة البلاد وجدّيتها في إقامة العلاقات الدبلوماسية مع دول العالم، إن كان هناك من يتعظ ويعتبر بالتاريخ القريب.
أمّا الأمر الأهم الذي أغفله خطاب الوزير وقرار إغلاق السفارات، فهو التطرق لمبررات فتح هذه السفارات أساسا إن كان إغلاقها يتم بهذه السهولة. ويبدو القرار، والزهو الذي صاحب إعلان التوفير، وكأن هذه السفارات قد فتحتها جهة أخرى غير حكومة السودان. ولا معنى للتحجج بالضائقة الاقتصادية وشح النقد الأجنبي، لأن العديد منها تم فتحه بعد إنفصال الجنوب وفقدان نصيب السودان من دخل البترول والذي شكّل جُلّ مداخيل البلاد من النقد الأجنبي في وقت تدنت فيه مساهمة الزراعة والقطاعات الأخرى في ميزانية النقد الأجنبي (بفضل القرارات الاقتصادية الخرقاء)، أي أن العديد من هذه السفارات تم فتحها في ظروف اقتصادية لا تختلف كثيرا في سُوئها عن الظروف الحالية التي قِيل لنا أنها وراء القرار. وعلى سبيل المثال، افتتح السودان سفارة جديدة في استراليا، والسؤال البدهي ليس هو لماذا تم إغلاق هذه السفارة ولمّا يحول عليها الحول بعد، بل لماذا فُتحت أساسا، وبأي مبررات، ومَن اتخذ قرار فتحها في ظروف الأزمة الاقتصادية، ومَن يتخذ قرار تعيين سفراء جدد (من الفاقد السياسي والعسكري) كل يوم ثمّ يلجأ لتخفيض العمالة في السفارات؟ والحق يُقال أن نفس التساؤلات يُمكن طرحها، ليس فقط على فتح سفارات جديدة من بوركينا فاسو إلى فنزويلا وما بينهما، وإرسال الوفود الكبيرة إلى مشارق الأرض ومغاربها، بل على كل قرار اتخذه النظام، دون تبصّر ودون حساب، في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. البوربون الجدد لا يتذكرون ولا يتعظون!
أما أسلوب الخطاب الإنشائي الأجوف الممتلئ ب"النقاط"، وأبيات الشعر، و"الثقوب" في المنطق، فلا تعليق لي عليه سوى أن أقول أننا عِفناه منذ "ثورة مايو الظافرة أبدا" التي زرعت في البلاد "خوازيق" أخفّها ضررا مثل هذا الخطاب الذي يجعل الكلام الّلزج، المًنمّق، المخادع، مكان النيّة الصادقة، والقرارات المُرشّدة المدروسة، والعمل الجاد.