تجربة خاصة: قصة قصيرة: للكاتبة تشيماماندا نجوزي أديتشي الحائزة على جائزة أورانج

 


 

 

ترجمها إلى العربية: د. عمر عباس الطيب

تتسلق تشيكا بخفة وفزع أولاً إلى داخل المتجر؛ من خلال نافذته المواربة، ثم تمسك بمزلاج النافذة بينما تتسلق المرأة الأخرى من بعدها إلى الداخل، بدا المتجر مهجورا ربما قبل أن تبدأ أعمال الشغب بوقت طويل؛ فالصفوف الفارغة من الرفوف الخشبية المغطاة بالغبار الأصفر تدل على ذلك، وكذلك الحاويات المعدنية المكدسة في زاويته، المتجر صغير جداً، حتى أنه أصغر من خزانة ملابس تشيكا، نزلت المرأة إلى الداخل بسرعة، وصدر صرير خافت من ذلك المزلاج حين تركته تشيكا يعود إلى سابق عهده، يدا تشيكا ترتعشان، وسمانتي ساقيها تشتعلان حرارة؛ بعد الركض غير المتوازن من السوق بحذائها ذي الكعب العالي، تريد أن تشكر المرأة التي أوقفتها بعد أن تخطتها مسرعة؛ وقولها: لا تركضي من هذا الطريق!، ولإرشادها بدلاً من ذلك إلى هذا المتجر الفارغ حيث يمكنهما الاختباء، لكن قبل أن تتمكن من قول شكراً، قالت المرأة وهي تمد يدها لتلمس عنقها العاري:
- ضاعت قلادتي بينما كنت أركض.
قالت تشيكا بصوت تسيطر عليه الصدمة:
- لقد أسقطت كل شيء فزعاً، كنت أشتري برتقالاً وأسقطته ،وأيضاَ سقطت حقيبتي اليدوية، ولم تضف أن حقيبة يدها كانت من ماركة بربري الأصلية؛ والتي اشترتها لها والدتها في رحلتها الأخيرة إلى لندن.
تنهدت المرأة.. وتبادر إلى ذهن تشيكا أنها تفكر في قلادتها، ربما خرز بلاستيكي رخيص مرصوص على خيط متدل أكل عليه الدهر وشرب، تستطيع تشيكا أن تقول أن المرأة من الشمال؛ دون الحاجة للاستماع إلى لهجتها الهوساوية القوية؛ من خلال وجهها الضيق، وبروز عظمتي وجنتيها غير المألوف؛ وكذلك هي بالطبع مسلمة بسبب خمارها الذي يغطي رأسها وينسدل حول عنقها، لكنه على الأرجح كان يستر وجهها بشكل فضفاض من قبل، ويغطي حتى أذنيها، خمار طويل ورقيق وقد صبغ باللونين الوردي والأسود؛ مع لمعة براقة تدل على أن ثمنه بخس، تتساءل تشيكا ما إذا كانت المرأة تتفحصها أيضاً، وما إذا كانت المرأة تستطيع أن تعرف؛ من لون بشرتها الفاتحة والمسبحة التي تزين اصبعها؛ والتي تصر والدتها على لبسها، أنها من قبيلة الإيغبو وأنها كذلك مسيحية، لاحقًا، ستعرف تشيكا أنه بينما كانت هي والمرأة تتحدثان، كان مسلمو قبيلة الهوسا يهاجمون مسيحيي قبيلة الإيغبو بالسواطير، ويضربونهم بالحجارة، لكنها تقول لها في هذه الأثناء: شكرًا لك لأنك أرشدتني إلي هنا، لقد حدث كل شيء بسرعة كبيرة وهرب الجميع في كل الاتجاهات، وفجأة أصبحت وحيدة ولم أكن أعرف ما ينبغي علي فعله أو كيف أتصرف، شكرًا لك.
قالت المرأة بصوت ناعم يقترب من الهمس:
- يبدو هذا المكان آمناً، إنهم قطعاً لا يذهبون إلى المتاجر الصغيرة؛ بل فقط يذهبون إلى المتاجر والأسواق الكبيرة،.. قالت تشيكا:
- نعم، لكن في قرارة نفسها لم يكن لديها سبب للقبول أو الرفض؛ فهي لا تعرف شيئًا عن أعمال الشغب، جل ما فعلته هو المشاركة في ذلك الحشد المؤيد للديمقراطية في الجامعة قبل بضعة أسابيع، حيث كانت تحمل غصنًا مخضراً يانعاً وتهتف: العسكر للثكنات والرئيس أباتشي يجب أن يرحل، نطالب بالديمقراطية، بالإضافة إلى ذلك، لم تكن لتشارك في تلك المسيرة؛ لو لم تكن شقيقتها نندي إحدى منظمي تلك الفعالية؛ الذين كانوا يتنقلون من سكن طلاب إلى آخر لتوزيع المنشورات، والتحدث إلى الطلاب عن أهمية إسماع أصواتهم بقوة .
لا تزال يدا تشيكا ترتعشان، قبل نصف ساعة فقط، كانت في وسط زحام السوق مع نندي، كانت تبتاع البرتقال بينما ذهبت نندي بعيدًا لشراء الفول السوداني المحمص، ثم كان هناك صراخ مفزع بكل اللغات المحلية؛ بالإنجليزية والهوساوية ولغة البيدجين والايغبو: لقد قتلوا رجلاً؛ أعمال الشغب قادمة، ثم كان الناس من حولها يركضون بشكل هستيري؛ ويدفعون بعضهم البعض، ويقلبون ويبعثرون عربات الخضار الممتلئة بالبطاطس، تاركين وراءهم الخضروات متناثرة في كل مكان؛ تلك التي ساوموا عليها من قبل بشق الأنفس، استنشقت تشيكا رائحة العرق والخوف في أرجاء المكان؛ فركضت هي الأخرى عبر الشوارع الواسعة، إلى هذا الشارع الضيق؛ الذي كانت تخشاه بل شعرت فيه بالخطر، حتى رأت المرأة..
خيم الصمت عل المرأتين في المتجر لبرهة من الوقت، وهما ينظران إلى الخارج في فزع ؛ من خلال النافذة التي تم تسلقها إلى داخل المتجر ، ومزاليجها الخشبية ذات الصرير الخافت تتأرجح في الهواء، كان الشارع هادئ في البداية، ثم سمعتا صوت أقدام خائفة تهرول، ابتعدت المرأتان بشكل غريزي عن النافذة، على الرغم من ابتعادهما إلا أن تشيكا لا يزال بإمكانها رؤية رجل وامرأة يمران بسرعة من أمامها، المرأة ترفع إزارها فوق ركبتيها، بينما ربط طفل رضيع بإحكام إلى ظهرها. يتحدث الرجل بصوت خفيض بلهجة الإيغبو وكل ما سمعته تشيكا هو: ربما عليها ان تسرع لبيت خالها.
قالت المرأة بنبرة آمرة:
- أغلقي النافذة.
أغلقت تشيكا النوافذ؛ عند ذلك سجن الهواء داخل المتجر، فجأة أصبح الغبار كثيفاً في الداخل ، تستطيع تشيكا رؤيته من خلال شلالات الضوء المنبعثة من شقوق النوافذ، الغرفة خانقة ورائحتها لا تشبه رائحة الشوارع في الخارج؛ ولكنها تشبه رائحة ذلك الدخان الملون الذي يتصاعد في السماء أثناء أعياد الميلاد؛ عندما يحرق الناس شعر أضحياتهم بالنار للتخلص من الشعر الذي يعلو أجسادها، الشوارع التي ركضت فيها بغير هدى، غير متأكدة في أي اتجاه ركضت نندي، غير متأكدة ما إذا كان الرجل الذي يركض بجانبها صديق أم عدو، غير متأكدة ما إذا كان عليها التوقف والتقاط أحد الأطفال المذعورين؛ والذين يبحثون عن أمهاتهم في لحظة الهرج والمرج تلك، غير متأكدة حتى من الآخر ومن يقتل من.
في وقت لاحق سترى هياكل السيارات المتفحمة والثقوب الفارغة مكان نوافذها وزجاجها الأمامي، وستتخيل السيارات المحترقة التي تنتشر في أرجاء المكان؛ مثل حطب نزهة متفحم ،وستكون شاهدة صامتة على الكثير، سوف تكتشف أن كل شيء بدأ في موقف السيارات، عندما دهس رجل بسيارته نسخة من القرآن الكريم منسية على جانب الطريق، رجل تصادف أنه من الإيغبو وأنه مسيحي. الرجال الذين كانوا على مقربة منه، الرجال الذين كانوا يتسكعون طوال اليوم يلعبون لعبة الداما، الرجال الذين تصادف أنهم مسلمون، سحبوه بعنف من شاحنته.. الصغيرة، وقطعوا رأسه بضربة ساطور واحدة ،بعدها طافوا به أرجاء السوق، وطلبوا من الآخرين الانضمام إليهم؛ لقد دنس الكافر كتاب الله ، سوف تتخيل تشيكا رأس الرجل الشاحب الميت، وسوف تتقيأ وتتقيأ حتى تتقرح معدتها،.. تقطع تشيكا مسلسل أفكارها وتسأل المرأة: هل ما زلت تشتمين رائحة الدخان؟ أجابت المرأة: نعم ؛ وهي تحرر إزراها الأخضر من على جسدها؛ وتنشره على الأرض المغبرة، لم تكن ترتدي سوى بلوزة وتنورة سوداء لامعة بها الكثير من آثار الترميم والخياطة، ثم قالت لتشيكا بصوت حنون:
- تعالي واجلسي، نظرت تشيكا إلى الإزار المهترئ على الأرض؛ من المحتمل أن يكون أحد إزارين تملكهما المرأة، نظرت إلى أسفل إلى تنورتها الجينز الأنيقة وقميصها الأحمر المنقوش عليه صورة لتمثال الحرية، وكلاهما اشترتهما عندما قضت هي ونندي بضعة أسابيع صيفية مع أقارب لهما في نيويورك، قالت تشيكا:
- لا سوف يتسخ إزارك.
قالت المرأة بلغة حاسمة:
- اجلسي، لقد انتظرنا هنا لفترة طويلة.
قالت تشيكيا في ضجر:
- هل لديك فكرة كم مر من الوقت؟
- تقصدين هذه الليلة أم صباح الغد!.
ترفع تشيكا يدها بهدوء إلى جبهتها، كما لو كانت تتحسس حمى الملاريا، عادةً ما تهدئها لمسة كفها الباردة ولكن هذه المرة كفها رطبة ومتعرقة، قالت بصوت متهدج:
- ذهبت أختي لتشتري الفول السوداني المحمص، لا أعرف أين هي الآن، قد تكون ذهبت إلى مكان آمن، أوه نندي المسكينة،.. أختي اسمها نندي، نندي كررت المرأة:
- نندي، وأضفت لهجتها الهوساوية على الاسم الايغباوي رقة ونعومة.
لاحقًا، ستمشط تشيكا بصبر نافذ مشارح المستشفيات بحثًا عن نندي؛ ستذهب إلى مكاتب الصحف ممسكةً بصورة لها مع نندي؛ التقطت في حفل زفاف قبل أسبوع، تلك الصورة التي ارتسمت على وجهها ابتسامة غبية؛ لأن نندي داعبتها بقرصة قبل التقاط الصورة مباشرة، كانتا ترتديان فستانين متشابهين من فساتين الأنكارا التقليدية مكشوفتي الأكتاف، ستلصق نسخاً من الصورة على جدران السوق والمتاجر القريبة، ولن تجد نندي، لن تجد نندي أبداً، ..لكنها الآن تقول للمرأة:
- جئنا أنا ونندي إلى هنا الأسبوع الماضي لزيارة عمتي؛ نحن في إجازة مدرسية، سألت المرأة في دهشة:
- أتذهبان إلى المدرسة؟
- نحن في جامعة لاغوس، أنا أدرس الطب البشري ونندي تدرس العلوم السياسية، تتساءل تشيكا عما إذا كانت المرأة تعرف حتى معنى الذهاب إلى الجامعة، وتتساءل أيضاً إذا ما كانت قد ذكرت الجامعة فقط لتطمئن نفسها بالحقيقة الماثلة أمامها الآن؛ أن نندي غير مفقودة في أعمال الشغب، وأنها في مكان ما آمن، ربما هي الآن تضحك بتلك الطريقة العفوية التي تفتح فيها فمها بالكامل، وربما تقدم إحدى حججها السياسية، مثل كيف كانت حكومة الجنرال أباتشي تستخدم سياستها الخارجية لإضفاء الشرعية على نفسها في أعين الدول الأفريقية الأخرى؟، أو كيف ينتشر الشعر الأشقر كنتيجة مباشرة مرتبطة بالاستعمار البريطاني؟.
قالت تشيكا:
- لقد أمضينا أسبوعًا هنا مع عمتنا، ولم نذهب إلى كانو أبداً من قبل، وتدرك تشيكا في قرارة نفسها أنه لا ينبغي أن تتأثر هي وأختها بأعمال الشغب، تلك التي قرأت عنها في الصحف والتي حدثت لأناس آخرين، تسأل المرأة بعفوية:
- هل تعمل عمتك في السوق؟
لا إنها في العمل الآن؛ إنها مديرة الأمانة العامة، ترفع تشيكا يدها إلى جبهتها مرة أخرى، أرخت جسدها وجلست بالقرب من المرأة، لم تعتد على فعل ذلك في الأحوال العادية، واستقر كامل جسدها على إزار المرأة الهوساوية، رائحة نفاذة وقوية تصدر من جسد المرأة، مثل رائحة قطعة من الصابون تستخدمها خادمة المنزل لغسل أغطية الأسرة، قالت المرأة:
- عمتك ستكون في مكان آمن.
- قالت تشيكا: نعم،.. دار بخلدها أن المحادثة مع هذه المرأة سريالية وضرب من الهذيان؛ غير أن عقلها يأبى أن يستوعب أن تحدث أعمال شغب كهذه، نظرات المرأة مصوبة إلى الأمام، كل أطرافها طويلة ونحيلة؛ ساقاها الممدودتان أمامها وأصابعها ذات الأظافر المصبوغة بالحناء وحتى اخمص قدميها، قالت المرأة أخيراً:
- إنه عمل شرير.
تساءل تشيكا عما إذا كان هذا هو كل ما يدور في عقل المرأة عن أعمال الشغب، وأن ذلك كل ما تراه في هؤلاء الأشرار، تتمنى لو كانت نندي معها هنا، تتخيل لون الكاكاو البني وهو يلمع في عينيها، وتتحرك شفتاها بسرعة؛ وتشرح لها أن أعمال الشغب لا تحدث من فراغ، وأن الدين والعرق غالبًا ما يكونان مسيسان لأن الحاكم آمن، ولا يأبه إذا كان المحكومين الجائعين يقتلون بعضهم بعضًا،.. بعدها تشعر تشيكا بتأنيب الضمير؛ لتساؤلها عما إذا كان عقل هذه المرأة كبيرٌ بما يكفي لاستيعاب أي من ذلك..
- هل لديك عيادة تفحصين فيها المرضى في المدرسة؟
أشاحت تشيكا نظرها بعيداَ؛ حتى لا ترى المرأة وقع المفاجأة على صفحة وجهها؛ اجابت تشيكا بتلعثم:
- عيادتي.. نعم، بدأنا العام الماضي فحص المرضى في المستشفى التعليمي، وما لم تقله تشيكا أنها لا تثق بنفسها كثيراً، وأنها تلوذ بمؤخرة المجموعة المكونة من ستة أو سبعة طلاب، وتتجنب نظرات كبير مساعدي الاستشاري؛ آملة أن لا يطلب منها فحص مريض وإعطاء التشخيص الطبي لحالته.
قالت المرأة بوضوح:
- أنا أتاجر في بيع البصل.
أنصتت تشيكا.. بحثًا عن نبرة سخرية أو مغزى لوم في صوتها، لكن لا يوجد أي شيء؛ فالصوت ثابت وهادئ، امرأة تحكي ببساطة ما تفعله، أجابت تشيكا: أتمنى ألا يدمروا أكشاك السوق، ولم تعرف ماذا تقول غير ذلك، قالت المرأة:
- في كل مرة يقومون فيها بأعمال شغب، يحطمون السوق.
تريد تشيكا أن تسأل المرأة عن عدد أعمال الشغب التي شهدتها، لكنها لم تفعل، لقد قرأت عن الآخر في الماضي؛ المتعصبين من مسلمي الهوسا المسلمين الذين يهاجمون مسيحيي الإيغبو، وأحيانًا مسيحيي الإيغبو يقومون بمهمات انتقامية وحشية، إنها لا تريد أن تذكر الأسماء.. قالت المرأة:
- حلمتا ثديي تشتعلان كما لو أنهما دهنتا بفلفل يتأجج حرارة، قالت تشيكا:
- ماذا؟
- حلمتا ثديي تشتعلان حرارة، قبل أن تتمكن تشيكا من ابتلاع غصة الدهشة في حلقها وتنبس ببنت شفة؛ سحبت المرأة قميصها وفتحت المشبك الأمامي لحمالة صدر سوداء رثة، وأخرجت أوراق النيرا النقدية من فئة العشرة والعشرين، مطوية بعناية داخل حمالة صدرها، قبل أن تحرر ثدييها الممتلئين. . قالت: حلمتا صدري تؤلمانني كثيراَ؛ وهي تقبض على ثدييها وتميل نحو تشيكا، كما لو كانت تقدم قربانًا لروح مقدسة، تتذكر تشيكا مناوبة طب الأطفال قبل أسبوع واحد فقط؛ أرادت كبيرة مساعدي الاستشاري الدكتورة أولونلويو، أن يتحسس جميع الطلاب تضخم عضلة القلب من الدرجة الرابعة لطفل صغير، كان الطفل يراقبهم بعيون فضولية، طلبت منها الدكتورة أن تذهب أولاً، فتعرّقت، وأصبح ذهنها فارغًا، ولم تعد متأكدة من مكان القلب، أخيرًا، وضعت يدها المرتعشة على الجانب الأيسر من حلمة الصبي، واهتزازات الدم المتدفقة التي كانت تتحرك في الاتجاه الخاطئ، وتنبض على أصابعها، جعلتها تتلعثم وتقول للصبي: آسفة، آسفة على الرغم من أنه كان يبتسم لها، حلمتا المرأة لا تشبهان حلمة الصبي؛ إنهما متشققتان ومشدودتان وبنيتان داكنتان، والهالة حولهما أفتح لوناً، تنظر تشيكا بعناية إليهما، وتمد يدها وتتحسسهما، سألت تشيكا:
- هل لديك طفل؟
- نعم عمره سنة واحدة فقط .
- قالت تشيكا: حلماتك جافة لكنها لا تبدو ملتهبة، بعد أن ترضعي الطفل عليك استخدام بعض الكريمات المرطبة، وأثناء الرضاعة يجب أن تتأكدي من أن الحلمة وهذا الجزء من الهالة يتناسبان مع فم الطفل، نظرت المرأة إلى تشيكا نظرة ذات مغزى؛ ثم أردفت قائلة: هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها ذلك، على الرغم أني أم لخمسة أطفال.
- قالت تشيكا: ذات الأمر كان مع والدتي، تشققت حلمتاها عندما أنجبت طفلها السادس، ولم تكن تعرف سبب ذلك، إلى أن أخبرتها إحدى صديقاتها أن عليها أن ترطبها، تشيكا نادراً ما تكذب ، ولكن في المرات القليلة التي تكذب فيها، يكون هناك دائماً هدف من وراء الكذبة، تتساءل عن الغرض من هذه الكذبة التي التي اخترعتها للتو؛ فهي وننيدي هما بنتا والدتها الوحيدتين، علاوة على ذلك كان الدكتور إيغبوكوي بتدريبه البريطاني المصطنع على بعد مكالمة هاتفية من أمها، سألت المرأة: "كيف ترطب أمك حلماتها؟ زبدة الكاكاو تساعد في التئام التشققات سريعا، إيه؟ نظرت المرأة إلى تشيكا لهنيهة، كما لو أن هذا الكشف قد خلق رابطة ما بينهما، حسنًا، فهمت.. سأتحصل عليه واستخدمه،.. قلبت طرف وشاحها للحظة ثم قالت: أنا أبحث عن ابنتي، ذهبنا إلى السوق معًا هذا الصباح، إنها تبيع الفول السوداني المحمص بالقرب من موقف الحافلات، لأن هناك العديد من الزبائن هناك، ثم اندلعت أعمال الشغب فجأة، بحثت عنها بطول السوق وعرضه، سألت تشيكا:
- الطفلة؟ ، وهي تعرف كم تبدو غبية حتى وهي تسأل.. هزت المرأة رأسها وظهر وميض من نفاد الصبر، بل حتى غضب في عينيها:
- هل لديك مشكلة في السمع؟ ألم تسمعي ما قلته؟ قالت تشيكا:
- أنا متأسفة.
- قالت المرأة: الطفل في المنزل، هذه ابنتي الكبرى حليمة؛ بدات المرأة بالبكاء. تبكي بهدوء، أكتافها ترتفع وتنخفض، ليس من نوع ذلك النحيب الصاخب الذي اعتادت عليه النساء اللاتي تعرفهن تشيكا، من النوع الذي يصرخ أتمنى الموت لأستريح لأنني لا استطيع تحمل هذا وحدي، إن بكاء المرأة مهيب، كما لو أنها تقوم بطقوس خاصة لا تشمل أي شخص آخر، لاحقًا ستتمنى تشيكا لو أنها وننيدي لم تقررا ركوب سيارة الأجرة إلى السوق؛ فقط لرؤية جزء ضئيل من مدينة كانو القديمة خارج حي عمتهما، ستتمنى أيضًا لو أن حليمة ابنة المرأة أصابتها وعكة صحية أو كانت متعبة أو متكاسلة في ذلك الصباح، حتى لا تبيع الفول السوداني المحمص في ذلك اليوم.. تمسح المرأة دموعها بأحد أطراف بلوزتها؛ وتدعو الله بأن يحفظ نندي وحليمة في مكان آمن، ولأن تشيكا ليست متأكدة مما يقوله المسلمون حينئذ والذي لا يمكن أن يكون( آمين) فإنها ببساطة أومأت برأسها ايجاباً.
اكتشفت المرأة حنفية صدئة في زاوية المتجر، بالقرب من الحاويات المعدنية، ربما كان المكان الذي يغسل فيه التاجر يديه أو يديها كما قالت، أخبرت تشيكا أن المتاجر في هذا الشارع كانت مهجورة منذ أشهر، بعد أن أعلنت الحكومة أنها مبانٍ غير قانونية يجب إزالتها، فتحت المرأة الصنبور ولدهشتهما تدفق الماء منه؛ كان لونه بني وزنخ جدًا لدرجة أن تشيكا تستطيع شم رائحته بالفعل ومع ذلك فإنه يتدفق.. قالت المرأة بصوت عال:
- أريد أن أغتسل وأصلي ، وابتسمت لأول مرة؛ ظهرت أسنانها متراصة في تناسق، وقواطعها الأمامية مصبوغة باللون البني، بينما غاصت غمازاتها في وجنتيها عميقاً؛ بما يكفي لابتلاع نصف اصبع، كانت سمة بارزة في وجه هزيل للغاية، غسلت المرأة يديها ووجهها بصورة خرقاء عند الصنبور، ثم نزعت وشاحها عن رقبتها ووضعته على الأرض، نظرت تشيكا بعيدًا، إنها تعرف أن المرأة جاثية على ركبتيها متجهة إلى مكة، لكنها لا تنظر، بدا وكأن دموع المرأة لها تجربة خاصة بعد أن سكبتها على الأرض، وتمنت تشيكا لو كان باستطاعتها مغادرة هذا المتجر المهجور، أو أن تستطيع هي أيضًا أن تصلي، وأن تثق بإلله، أن ترى حضور أنوار الله العليم تضيء هواء هذا المتجر العطن، لا يمكنها أن تتذكر منذ متى كانت فكرتها عن الله ضبابية ، مثل انعكاس مرآة الحمام المليئة بالبخار، لا يمكنها أن تتذكر أنها حاولت تنظيف تلك المرآة، بعد ذلك لمست تشيكا مسبحة إصبعها التي لا تزال ترتديها كديكور؛ أحيانًا على خنصرها أو سبابتها، إرضاءً لوالدتها، لكن نندي لم تعد تفعل ذلك ، ضحكت ذات مرة ضحكة مجلجلة وقالت: إن المسابح في الحقيقة أشياء سحرية، وهي ليست بحاجة إليها، شكرًا لك، فيما بعد، ستشرع العائلة في عمل القداس تلو القداس؛ من أجل أن تكون نندي في أمان، ولكن ليس من أجل أن تتحرر روح نندي، وستفكر تشيكا في هذه المرأة التي تصلي ورأسها يلتصق بغبار الأرض، وستغير رأيها بشأن إخبار والدتها أن إقامة القداس مضيعة للمال، وأنه مجرد جمع تبرعات للكنيسة.
عندما استيقظت المرأة، راود تشيكا شعور غريب بأنها استعادت نشاطها مرة أخرى، لقد مرت أكثر من ثلاث ساعات وخيل إليها أن أعمال الشغب قد توقفت، وأن مثيري الشغب قد رحلوا بعيداً، وأن عليها أن تغادر المكان وتجد طريقها إلى المنزل، لكي تتأكد من أن نندي وخالتها بخير، قالت تشيكا: يجب أن أذهب؛ ارتسمت نظرة صبر نافذ على وجه المرأة : الخطر جاثم في الخارج،
- أعتقدت أنهم قد ذهبوا؛ إنني حتى لا أشتم رائحة أي دخان.
لم تنبس المرأة ببنت شفة وعادت أدراجها تجلس على الإزار؛ راقبتها تشيكا للحظات.. بدت محبطة دون أن تعرف السبب، ربما تريد أن تباركها المرأة أو شيء من هذا القبيل،. سألتها:
- كم يبعد منزلك من هنا؟
- بعيد جداً، سأستقل حافلتين للوصول إلى هناك.
قالت تشيكا: إذن سأعود مع سائق خالتي وأوصلك إلى المنزل.
تحدق المرأة في المجهول، تتحرك تشيكا ببطء إلى النافذة وتفتحها، كانت تتوقع أن تأمرها المرأة بالكف عن ذلك التسرع، لكن المرأة لم تقل شيئًا، وشعرت تشيكا بتلك العيون الهادئة تتسلق ظهرها وتخرج من النافذة، الشوارع صامتة بينما غاب قرص الشمس عن الأفق، وبعد أن أرخى الليل سدوله؛ نظرت تشيكا حولها وهي غير متأكدة أي طريق تسلك، تصلي أن تظهر لها سيارة أجرة، لا يهم أن تظهر بالسحر أو بالحظ أو عن طريق عناية الله ، ثم تصلي أن تكون نندي داخل تلك السيارة؛ فتسألها أين كانت بحق الجحيم، لقد كنا قلقين عليك، لم تكن تشيكا قد وصلت إلى نهاية الشارع المحاذي باتجاه السوق، عندما رأت جثة، لكن في الأغلب الأعم أنها لم ترها، مشت بالقرب منها لدرجة أنها تشعر بحرارتها، لا بد أن الجثة قد احترقت مؤخرًا، الرائحة مقززة؛ رائحة اللحم المشوي التي لا تشبه أي رائحة اشتمتها من قبل، لاحقاً، عندما تذهب تشيكا وعمتها للبحث في جميع أنحاء مدينة كانو، ورجل شرطة يجلس في المقعد الأمامي لسيارة عمتها المكيفة، سترى جثثاً أخرى، العديد منها محترقة، ملقاة على طول الشارع الجانبي ، كما لو أن شخصاً ما دفعها بعناية إلى هناك ورتبها بانتظام،.. نظرت إلى جثة واحدة من الجثث، عارية، متصلبة، ووجهها لأسفل، وصدمها أنها لا تستطيع أن تعرف ما إذا كان الرجل المحترق جزئيًا من الإيغبو أو الهوسا، مسيحي أو مسلم، ومن النظر إلى تلك الجثث المتفحمة؛ سوف تستمع إلى إذاعة البي بي سي؛ وهي تتحدث عن روايات عديدة عن القتل وأعمال الشغب، سيقول المتحدث بنبرة حزينة أعمال شغب وقتل على خلفية دينية وإثنية، عندها سوف تقذف بالراديو إلى الحائط،؛ وسيثور داخلها سخط دموي عنيف؛ من كيفية توصيف واختزال كل ذلك القتل وتلك الجثث في كلمات قليلة، لا تتناسب وحجم الفاجعة.. لكن الآن، حرارة الجسد المحترق قريبة جدًا منها، حاضرة ودافئة لدرجة أنها تستدير وتندفع نحو المتجر، شعرت بألم حاد أسفل ساقها وهي تركض، وصلت إلى المتجر المهجور وقرعت على النافذة بقوة، واستمرت في القرع حتى فتحت لها تلك المرأة.
جلست تشيكا على الأرض وألقت نظرة عن كثب في الضوء الخافت؛ نظرت إلى خيط الدم الذي يزحف على ساقها، تسبح عيناها بقلق في رأسها، يبدو الدم كثيفاً وغريبًا، كما لو أن شخصًا ما قد سكب عليها معجون الطماطم.
قالت المرأة بقلق:
- ساقك.. هناك دماء، .. بللت المرأة أحد طرفي وشاحها من الصنبور ونظفت الجرح في ساق تشيكا، ثم ربطت الوشاح المبلل حول الجرح وعقدته عند الساق.
- شكراً لك.
قالت المرأة:
- هل تودين الذهاب إلى المرحاض؟
- المرحاض؟ لا لا أود.
- هذه الحاويات هناك نستخدمها بديلاً للمرحاض؛ وأخذت إحدى الحاويات إلى الجزء الخلفي من المتجر، وسرعان ما ملأت الرائحة أنف تشيكا، واختلطت برائحة الغبار وزنخ والماء، وسرعان ما شعرت بدوار وغثيان فأغمضت عينيها، قالت المرأة من وراء ظهر تشيكا: إنها متأسفة حقاً لأن معدتها ليست بخير؛ جراء كل ما حدث اليوم، بعد ذلك فتحت المرأة النافذة ووضعت الحاوية في الخارج، ثم غسلت يديها جيداً في صنبور الماء، ثم عادت وجلست هي وتشيكا جنبًا إلى جنب في صمت، وبعد وقت قصير سمعتا هتافًا صاخبًا من على البعد، كلمات لا تستطيع تشيكا فهمها، كان المتجر يقبع في ظلمة حالكة عندما تمددت المرأة على الأرض؛ الجزء العلوي من جسدها على الإزار بينما بقي الجز الأكبر من جسدها السفلي خارجه.
في وقت لاحق، ستقرأ تشيكا في صحيفة الغارديان أن :المسلمين المتطرفين الناطقين بلغة الهوسا في الشمال لديهم تاريخ من العنف ضد غير المسلمين، وفي خضم حزنها ستتوقف لتتذكر أنها فحصت حلمات المرأة، واختبرت لطفها وهي امرأة من الهوسا ومسلمة، ظلت تشيكا مستيقظة معظم الليل؛ فالنافذة مغلقة بإحكام والهواء خانق والغبار الكثيف يزحف إلى أنفها، تستمر في رؤية الجثث السوداء تطفو في هالة من الغبار بجانب النافذة وهي تشير إليها بإبهام يحملها مسئولية ما حدث، وأخيراً سمعت المرأة تنهض وتفتح النافذة، وتسمح بدخول زرقة الفجر الباهتة، وقفت المرأة هناك للحظات قبل أن تتسلق خارجاً، تسمع تشيكا خطوات أقدام لأناس يمرون، وسمعت المرأة تنادي من الوقت قبل أن تخرج. تسمع تشيكا خطوات أقدام، أناس يمرون من أمامها. تسمع المرأة وهي تنادي بصوتها العالي المعروف ، متبوعًا بلهجة هوساوية سريعة لا تفهمها تشيكا.
صعدت المرأة مرة أخرى إلى داخل المتجر، انتهى الخطر إنه أبو؛ إنه يبيع أواني الطبخ في الجوار؛ إنه ذاهب لرؤية متجره، رجال الدرك في كل مكان مجهزين بالغاز المسيل للدموع، جندي قادم سأذهب الآن قبل أن يبدأ الجندي في مضايقتي، تقف تشيكا ببطء وتمط أطرافها فمفاصلها تؤلمها، ستعود سيراً على الأقدام إلى منزل عمتها عند البوابة المسورة ، لأنه لا توجد سيارات أجرة في الشارع، لا يوجد سوى سيارات جيب تابعة للجيش وعربات مركز الشرطة المهترئة، ستجد خالتها تتجول من غرفة إلى أخرى وفي يدها كوب من الماء وهي تتمتم بالإيغبو مكررة أسفها: لماذا طلبت منك أنت ونندي زيارتي؟ لماذا خدعتني يا تشيكا بهذا الشكل؟ وستمسك تشيكا بكتفي عمتها بإحكام وتقودها إلى أريكة.
والآن، تفك تشيكا الوشاح من على ساقها وتهزّه كما لو كانت تنفض بقع الدم وتسلمه للمرأة:
- شكراً لك.
قالت المرأة وهي تشد إزارها حول خصرها:
- اغسلي ساقك جيدًا، حيي أختكِ، حيي قومك.
قالت تشيكا:
- حيي أهلك أيضًا حيي طفلك وحليمة.
وفي وقت لاحق وهي تسير إلى البيت، التقطت حجرًا أحمراللون ملطخًا ببقع من الدم الجاف، ستضم التذكار الشنيع إلى صدرها، وستشك في ذلك الحين، في ومضة غريبة وهي ممسكة بالحجر أنها لن تجد نندي أبداً، وأن أختها قد رحلت، لكنها الآن تلتفت إلى المرأة وتضيف:
- هل لي أن أحتفظ بوشاحك؟ قد يبدأ النزيف مرة أخرى.
نظرت إليها المرأة للحظة كما لو أنها لم تفهما؛ ثم أومأت برأسها، ربما يوجد بداية لحزن مستقبلي على صفحة وجهها، لكنها تبتسم ابتسامة خفيفة مشتتة قبل أن تعيد الوشاح إلى تشيكا وتستدير لتخرج من النافذة.

umeraltayb248@hotmail.com

 

 

آراء