تحالف العسكر والخوف من المستقبل
أحمد ضحية
5 April, 2023
5 April, 2023
منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. أخذت "التعددية الإِثنية" تجد اهتماماً كبيراً، من قبل الباحثين والأكاديميين وكتاب الدراما والسينما. انعكس ذلك في الكثير من الأعمال، كان أبرزها في جنس السينما في العام ٢٠٠٤، فيلم فندق (رواندا) Hotel Rwanda، الذي تناول قصة حقيقية عن حياة (بول روسيساباجينا)، مدير الفندق، الذي آوى أكثر من ١٢٦٨ لاجئ من (التوتسي) الفارين من ميليشيا (الهوتو)، ومن بين اللاجئين زوجته وأولاده، ليحميهم من الإبادة الجماعية، التي حدثت في رواندا في العام ١٩٩٤.
كذلك فيلم (الهجوم على دارفور) Attack on Darfur (٢٠٠٩) الذي تحكي قصته، عن مغامرة فريق مكون من ستة صحفيين أميركان يزورون دارفور؛ ويصدمون من هول فظائع الحرب، التي رأوها بأعينهم. فيجدون أنفسهم بين خيارين: العودة إلى أميركا، لنشر ما شاهدوه من فظائع وأهوال، للرأي العام الأميركي أو البقاء لمساعدة بعض الضحايا؛ الذين يواجهون خطر الموت.
وفيما يقرر أربعة منهم مغادرة دارفور، والعودة إلى أميركا. يقرر إثنان منهم (فريدي سميث وثيو شوارتز) البقاء.
وبرفقة وحدة عسكرية تتبع لـ"بعثة الاتحاد الأفريقي"، يزور الاثنان اللذان قررا البقاء "قرية صغيرة"، في الوقت الذي ترد فيه أخبار؛ عن أن (ميليشيا الجنجويد الحكومية)، في طريقها للهجوم على (القرية).
فيقرران البقاء مع قائد "وحدة الاتحاد الأفريقي"، الكابتن (جاك توبامك)، ومحاولة إنقاذ الأهالي، الذين كانوا يتعرضون في هذه اللحظة، للإبادة من قبل "ميليشيا الجنجويد التابعة للنظام الإسْلاموطائفي في الخرطوم".
ومنذ اللحظات الأولى للهجوم، يشرع (الجنجويد) في قتل جميع الرجال والنساء والأطفال، ويتم كذلك قتل، كل من الكابتن (توبامك) و(ثيو) و(فريدي) واحداً تلو الآخر، في تبادل إطلاق النَّار مع الجنجويد، وبعد أن يحرق الجنجويد القرية ويغادرون، تأتي (وحدة) من "بعثة الاتحاد الأفريقي" في اليوم التالي، ترافقها الصحفية (مالين لوسبرج)، من أفراد الفريق الصحفي الأربعة، الذين كانوا قد قرروا العودة، والتي تعثر بين الجثث على رضيع (هو الناجي الوحيد من تلك المذبحة)، كان زميلها الصحفي (فريدي) قبل أن يُقتل؛ قد خبأه تحت جثته.
تأخذ (مالين) الطفل معها وتغادر القرية المدمرة؛ مع بقية أفراد البعثة.. أوردت هذين النموذجين، للتدليل على أن (الصراعات الاثنية)، استقطبت اهتمام حقول مختلفة؛ شملت حتى الآداب والفنون، وبطبيعة الحال ناشطين المنظمات الحقوقية والدارسين والباحثين، وكُتبت في السنوات الثلاثين الأخيرة آلاف مؤلفة من التقارير والمقالات والكتب، في مختلف البلدان بمختلف اللغات، حول الصراعات والتحديات المرتبطة بالإثنيات، بعد أن اتسعت دائرة الصراعات الاثنية واستقطبت الاهتمام، بما طرحته من أسئلة حادة؛ على مجتمعات كثيرة؛ في القبل الأربعة للعالم.
تلعب "التعددية الإثنية" دوراً متعدد الجوانب في (الحياة السياسية) في الدول المختلفة، وتكشف "خبرّة الواقع السوداني"، بما شهده ويشهده السودان من (صراعات إثنية)، على أن ثمَّة إخفاقاً في إدارة "النظم السياسية المتعاقبة للتعددية الإثنية"؛ فقد مثلَّت الصراعات بين (المركز والأطراف)، أو ما درجنا على تسميته بـ"الهامش"، أوضح مثال حول أسباب وآثار "سوء إدارة التعددية الإثنية وتحدياتها".
غني عن القول، أن ما درجنا على تسميته في (الخطاب السياسي) الشائع لمختلف القوى السياسية السودانية بـ(التنوع الثقافي)، هو ليس ظاهرة مقصورة على السودان فقط، إذ لا يكاد مجتمع من مجتمعات العالم، يخلو من (التنوع الثقافي) بدرجة من الدرجات، بل يُجمع (خبراء التنمية البشرية) أن "التنوع الثقافي" يمثل (عنصر قوّة) في أي مجتمع، نظراً لكونه يتيح الفرصة؛ للتنافس الخلاق من أجل الابتكار.
المجتمع السوداني الكبير أحد المجتمعات التي تتميز بهذا (التنوع).. وفي الحقيقة؛ عاش أسلافنا آلاف السنين، جنباً إلى جنب؛ يساهمون في بناء (عدّة حضارات إنسانية) على هذه الأرض، التي ظلت عبر آلاف السنين "مساحة حركة اسلافنا فيها" تتقلص وتتمدد.. النقطة الجوهرية هنا، أن (هويتنا الجامعة) تأخذ عناصرها المتفردة؛ من "المشتركات" التي أنتجتها أنشطة أولئك الأسلاف في التاريخ، وحضورهم الإنساني فيه عبر آلاف السنوات، لم تنتقل عبرها (الجينات) فحسب، بل و الأساسي والجوهري "القيم الثقافية" كذلك نُقلت. وهي التي صاغتنا على النحو الذي نحن عليه اليوم، باعتبارنا خلاصة تجربة كل الأجيال، التي سبقتنا عبر التاريخ.
هذه التجربة المستمرة هي ما ميزت شخصيتنا، على النحو الذي نراه في كل السودانيين، بمختلف سحناتهم و ثقافاتهم وعقائدهم.. التجارب المختلفة للاثنيات، كذلك تفيدنا أن وجود (إثنيات مختلفة) في مجتمع واحد، هو (عنصر أساسي للتقدم)، لأن كل أثنية تضع معارفها وثقافتها وخبرتها في خدمة الإثنيات الأخرى، وحاصل جمع هذه الخبرات في (المجتمع الكبير) الذي يجمع هذه الاثنيات المختلفة، يشكل خبرّة فريدة وقوية متعددة المناظير، وهي قطعاً متفوقة على خبرّة أي إثنية منفردة (رهينة منظور واحد) تمثله ثقافتها كإثنية واحدة مستقلة عن الإثنيات الأخرى.
فعندما تضع كل إثنية خبرتها، في خدمة المجتمع الكبير؛ تتعدد زوايا النظر لأي ظاهرة، وتصبح الرؤية أشمل؛ وأكثر قدرّة على الاكتشاف والخلق والإبداع والابتكار. فضلاً عن أن كل هذه الاثنيات؛ التي جمعتها جغرافيا السودان، ما يجمع بينها هو أكثر من ما يفرق بينها، وما يجمع بينها يمكن توصيفه أو تسميته بـ(الثقافة السودانية)، تلك المتجذرة في عمق تاريخ السودان القديم، بالتجليات في تاريخه المعاصر، والتي تمثل لهذا التنوع الحضاري، عنواناً لأرض خصبة، وكما قال (ونجت باشا) في "رسائل ومدونات مجلة الفجر، ١٩١٠": "في كل شبر من هذه الأرض كنز".
ويقيني أن (ونجت) لم يكن يقصد البترول واليورانيوم والذهب، وإنما قصد أهم مورد للسودان: (السودانيين انفسهم) بثقافاتهم ولغاتهم وسحناتهم وعقائدهم، والرابط الخفي الذي يربط بينهم: مَن مِن السودانيين بمختلف اثنياتهم لا يفخر باسلافه (الكوشيين) أو (النوبيين)، ويتحدث باعزاز عن (بعنخي) أو (أركماني) أو (أماني ريناس) أو (كنداكات مروي) عموماً، أو (سليمان سولونج) أو (المهدي) أو (عثمان دقنة)، أو "قوافل سلاطين الفور للأراضي المقدسة"، تحمل كساوي الكعبة والذكاة للعرب الفقراء.
نحن لا نتذكر لحظتها أننا ننتمي لإثنية مختلفة —كما نتوهم عادةً أننا مختلفون عن بعضنا— وحتى لو كان ذلك صحيحاً إلى حدٍ ما —الانتماء لإثنية مختلفة عن إثنية سلفنا موضوع الفخر— يظل العامل المهم، أن السودانيين بمختلف مكوناتهم، لديهم القدرّة على (التعايش السلمي)..
نرى ذلك خلال وجود بعض (الغرباء) في "الحلالات والفرقان والقرى والبلدات الصغيرة، وبشكل أكبر في المدن، وجميع هؤلاء (الغرباء/الآخر) لا يشعرون بأنهم ليسوا في مساقط رأسهم، فهم جزء من نسيج هذا المجتمع، الذي وفدوا إليه وأصبحوا أحد مكوناته الاجتماعية والثقافية..
بل نرى ذلك في المدن الكبيرة بوضوح تام، وكل هؤلاء وأولئك؛ على ذات الاستعداد في صنع مستقبلهم ضمن (وحدة الثقافة السودانية)، التي تمخضت عن جدل تعايشهم معاً كمجتمع مشترك. فهي ثقافة قادرة على تحقيق شروط (التعايش المشترك).
وقد كشفت (التقاليد)، التي حاول ارسائها (الثوار) أثناء "الاعتصام أمام القيادة العامة"، عن قدرّة السودانيين الفريدة؛ على إحياء العناصر الثقافية (الإيجابية) في كل مكونات السودان، والتي تفاعلت لحظتها —عندما سمح لها مناخ الثورّة ووعي الثوار المعتصمين، أن تبرز إلى السطح— فرأينا نساء دارفور وهن يطبخن للثوار، ويُعرفن الثوار بتراث دارفور، ورأينا نساء كل أقاليم السودان وهن يعكسن فلكلور مناطقهن، ورأينا مثقفين المدن وهم يعزفون على العود ويغنون والتشكيليون يرسمون على الجدران والقماش أجمل اللوحات، التي تعكس "جدل التلاحم الثقافي" الذي كان يعتمل لحظتها.
ما حدث لحظتها هو أن الجميع سيطر عليهم "شعور مجتمعي جمعي"، قلل وألغى الفوارق بين "التباينات الثقافية"، التي وجدت الفرصة لحظتها للتعبير عن نفسها؛ والتعريف بنفسها في هذا (المناخ الحر) الذي صنعه الثوار المعتصمين، إذا اتضح هذا، يتضح أن (القيم الثقافية المركزية) في كل هذا التنوع المعتصم، هي نفسها من (كولومبيا) إلى (جمهورية أعلى النفق) إلى (المجتمع أمام القيادة العامة) للجيش، إلى المجتمع في أمبدة أو المنشية والرياض والعمارات أو (دار فونقرو) المتاخمة لحدودنا مع تشاد. وإن اختلف شكل التعبير عنها في كل مكان من هذه الأماكن، التي تفصل بينها مساحات (زمنية) متقاربة، أكثر من مساحات (الجغرافيا) التي نتوهمها.
ولذلك كان شعار: (كل البلد دارفور)، ليس مجرد شعاراً عفوياً أنتجته لحظة (حماس ثوري سياسي) مؤقت، بل أحال —الشعار— إلى دلالات ومعان عميقة متجذرة، تتخطى الصراع السياسي نفسه!
مثلما أن دلالات الاعتصام (أمام مقر الجيش بالتحديد) كانت له رمزياته، التي هي أبعد من مجرد الصراع على السلطة، إذ أشر ذلك أيضاً في أحد أبعاده على أن (هذه السلطة العسكرية) هي (سجان) هذه الثقافات، ولذلك ينبغي أن —تتنحى أو تزاح— لأنها (العائق) أمام هذه الثقافات للتعبير عن جوهرها.
كما شكلَّت "جمهورية أعلى النفق" رمزاً معاكساً تماماً للمعنى الذي تمثله (قيادة الجيش) بجبروتها وبطشها. فالاعتصام أمام قيادة الجيش، لم يكن في جوهره لنيل تعاطف الجيش وطلباً لانحيازه للشعب، بل كان بحد ذاته موقف ضد هذا (السجان) فقد أدرك المعتصمون، أن المشكلة ليست في (القصر الجمهوري!) المشكلة في (قيادة الجيش)، كما كانت دوماً (منذ الاستقلال!).. تلك كانت لحظة كشف رغم ضبابيتها خارقة وحاسمة، أشبه بقفزة ديالكتيكية للوعي!
من الجانب الآخر (قيادة الجيش) اكتشفت أن الشعب أخيراً تمكن من (تحديد المشكلة)، التي لطالما سعت (قيادة الجيش) جاهدة لاخفائها، بـ(الاختباء خلف الحكومات المدنية والانتقالية)، التي عندما يشعر باقترابها من (الاستقلالية عن نفوذه) ينقلب عليها. ولذلك ارتكبت قيادة الجيش "مجزرة الاعتصام"، وبنفس النمط الذي ارتكبت به المجازر والابادات وفض معسكرات النازحين في دارفور. نفس السيناريو والتكنيك! والممارسات!
قيادة الجيش فعلت ذلك لأنها أدركت، أنه لأول مرة تُكتشف أطماعها في السلطة والثروة وتصبح عارية أمام الشعب، بهذا الوضوح!..
ظلت قيادة الجيش في كل عهود حكوماتها الانقلابية والانتقالية، على الدوام تختبئ خلف (القوى السياسية)، وجميعها كانت (في الحقيقة) تحكم باسم المدنيين، وكلما حاولت الحكومات الديمقراطية (تغيير المسار) يطيح بها الجيش، ويعيد تصميم المشهد، خلال (حكومة انتقالية)، ليأتي بحكومة (يوهم بها الشعب) أنها تعبير عن إرادة شعبية حرة و(رأي عام حر) مثلته نتيجة الانتخابات العامة!..
حدث ذلك بانقلاب عبود في نوفمبر ١٩٥٨، وحدث مرة أخرى بالانقلاب على الحكومة التي تمخضت عن انتفاضة أكتوبر ١٩٦٤ وتكرر بالانقلاب على الحكومة، التي تمخضت عن انتفاضة ابريل ١٩٨٥، ومؤخراً بانقلاب البرهان في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، وسيناريو تشبثه ومجموعته الانقلابية، المستمر حتى الآن، بإرهاق المفاوضين في مفاوضات لا نهائية، كسباً لمزيد من الزمن، لتمكين نفسه وحلفائه!
مشكلة السودان بشكل رئيسي، تتمثل في (هذا الجيش) بعقيدته الاستبدادية (النهمة للسلطة والتسلط)، وهي عقيدة لم يزرعها فيه "الإسْلاموطائفيين الجدد" في ١٩٨٩ أو نتيجة مشروع "التمكين الإسْلاموطائفي"، الذي تم تطبيقه على (الجيش والشرطة)، أبداً! فالجيش ابتداءً تأسس على (عقيدة فاسدة) دفعت بعبود في ٥٨ للاستيلاء على السلطة، ودفعت بنميري العقيدة نفسها للاستيلاء على السلطة، والعقيدة نفسها هي التي تبناها "الإسْلاموطائفيين الجدد" فنفذ البشير انقلابهم؛ ليس لأنهم استغلوه لقيادة انقلابهم في ٣٠ يونيو ١٩٨٩، ولكن لأن فكرة الانقلاب، تطابقت مع المعتقدات العسكرية، التي نشأ عليها في الكلية الحربية، ويمكن تتبع هذه العقيدة الفاسدة، في انقلابات الأحزاب السياسية نفسها، التي لا تريد أن تسمح للتعدد بالتعبير عن نفسه، فالصراع كله حول هذا التعدد، لأنها (قيادة الجيش أو الأحزاب الانقلابية) لن تتمكن من الحفاظ على (امتيازاتها التاريخية) إلا في ظل (الأحادية الثقافية)، التي تتوهم أنها ثقافتها، وأنها يجب أن تفرضها على كل التنوع السوداني!
أن استمرار المجتمع السوداني الكبير حياً وفاعلاً، يرتبط بوحدة ثقافته وهويته الوطنية، وبناء الدولة المدنية الحديثة التي يلزم فيها العسكر (السجان) حدودهم و ثكناتهم.. ليصبح ممكناً بناء الدولة التي يسودها القانون، والتي تتيح للسودانيين (دون تمييز) التعبير عن أنفسهم، للكشف عن هذه (المشتركات) المختبئة تحت وطأة القمع العسكري والاسلاموي والطائفي والايديولوجي.
هذا هو السبيل الوحيد الذي يفضي لتعبير هذه الاثنيات عن عاداتها وتقاليدها وأعرافها وثقافاتها، التي تظن أنها تختلف عن عادات وتقاليد وأعراف وثقافات الآخرين، لكنها قطعاً، ستكتشف إذا أُتيح لها المناخ الحر الملائم.. أنها في جوهرها تحمل (نفس القيم الثقافية) التي يحملها الجميع على اختلاف بيئاتهم الجغرافية وخصائصهم الثقافية، ففي نهاية المطاف سيجدون أنفسهم مجتمعين يعبرون عن (ضمير شعب السودان) و(هوية السودان الحضارية).
فالقيم الحضارية للسودانيين هي نتاج ماضيهم وحاضرهم معاً.. السودان الذي قمعت المشاريع العسكرية المتحالفة مع "الإسلاموطائفية القديمة والجديدة" منذ استقلاله، قيمه الجوهرية ستظهر عندما تزاح هذه المشاريع من مركز السلطة، لحظتها فقط سيُقدر الجميع على اختلافاتهم هذه (الهوية السودانية الجامعة)، التي تعلو على أي ايديولوجيا وفكرة تدعو إلى التجزئة والهيمنة على الآخرين، فالأمر مرتبط بعوامل تاريخية وحضارية امتزجت مع أرض هذا الوطن، على مر آلاف السنوات، ومهما تخلى العسكر عن وظيفتهم كعسكر، وتحالفوا مع السلفيين والطائفيين والإسلامويين، للسطو على (الفضاء الخاص) بقوة الأيديولوجيا الدينية والطائفية و(بقوة السلاح) على الفضاء العام، سيأتي اليوم الذي تنفجر فيه في وجوههم هذه المشتركات، التي تفجرت في (اعتصام القيادة العامة) واسقطت النظام..
هذا مسار التاريخ ولن يستطيعوا الإفلات من هذا المسار. وهنا تكمن قوة السودان حضارياً. ولذلك تتوهم الحركات المسلحة، التي تظن أن (اتفاق جوبا) فتح للمهمشين مسارات (صعود) لإحلال أنفسهم ك(مركز بديل) بازاحة (المركز القديم)، فهذه ليست فكرة الاتفاقية (إزاحة واحلال) أو (احلال وابدال). بالعكس الفكرة الجوهرية للاتفاقية (صناعة المناخ الحر الملائم) لتفاعل هذا التنوع، بما يسهل عملية إدارته!
وكذلك يتوهم العسكر أن بإمكان خططهم في (إرهاق قوى المركزي) في مفاوضات (لا ينوون إبتداءً إنهائها)، واستغلال الحركات المتحالفة معهم للحفاظ على أوضاعهم القائمة، وتدجينهم على حساب (مكتسبات الهامش) نفسها، يكشف ذلك عن "قصر نظر من يفكرون لهم"، إذ تغيب عنهم خطورة هذه التكتيكات، التي هي ليست جديدة، فلطالما مُورست خلال الثلاثين سنة الماضية، وفي كل مرة تفضي إلى نفس (النتائج الكارثية). وصحيح تماماً بقدر خطورّة فكرة حلف "العسكر والحركات والفلول" عن السلطة، بقدر ما هم خائفين من أن تعيش هذه (المجتمعات المتنوعة) حياة طبيعية، يفقدون خلالها ومجموعات المصالح التي يمثلونها والقوى الايديولوجية المرتبطة بهم أهميتهم كحرس (للثقافة والهوية والوطن)، لأنهم لن يعودوا مميزين، إذ ستصبح أي أيدلوجيا كغيرها من الأيديولوجيات وأي دين كغيره من الأديان وأي عادات كغيرها من العادات. وبالتالي أي إثنية كغيرها من الإثنيات.. بالتالي لا يتميز الأفراد سوى بابداعهم واسهاماتهم وأنشطتهم الخلاقة في التاريخ اليومي لهذه البلاد، وهذا هو ما يخيف (البرهان) وبعض (قادة الحركات المسلحة) لأنهم سيفقدون تميزهم، خاصة أنه ليس لديهم ما يجعلهم مميزين سوى (البنادق)، التي وإن شكلت تهديداً لآخرين اليوم، سيكونون هم ضحيتها غداً. إنه مسار التاريخ.
ahmeddhahia@gmail.com
كذلك فيلم (الهجوم على دارفور) Attack on Darfur (٢٠٠٩) الذي تحكي قصته، عن مغامرة فريق مكون من ستة صحفيين أميركان يزورون دارفور؛ ويصدمون من هول فظائع الحرب، التي رأوها بأعينهم. فيجدون أنفسهم بين خيارين: العودة إلى أميركا، لنشر ما شاهدوه من فظائع وأهوال، للرأي العام الأميركي أو البقاء لمساعدة بعض الضحايا؛ الذين يواجهون خطر الموت.
وفيما يقرر أربعة منهم مغادرة دارفور، والعودة إلى أميركا. يقرر إثنان منهم (فريدي سميث وثيو شوارتز) البقاء.
وبرفقة وحدة عسكرية تتبع لـ"بعثة الاتحاد الأفريقي"، يزور الاثنان اللذان قررا البقاء "قرية صغيرة"، في الوقت الذي ترد فيه أخبار؛ عن أن (ميليشيا الجنجويد الحكومية)، في طريقها للهجوم على (القرية).
فيقرران البقاء مع قائد "وحدة الاتحاد الأفريقي"، الكابتن (جاك توبامك)، ومحاولة إنقاذ الأهالي، الذين كانوا يتعرضون في هذه اللحظة، للإبادة من قبل "ميليشيا الجنجويد التابعة للنظام الإسْلاموطائفي في الخرطوم".
ومنذ اللحظات الأولى للهجوم، يشرع (الجنجويد) في قتل جميع الرجال والنساء والأطفال، ويتم كذلك قتل، كل من الكابتن (توبامك) و(ثيو) و(فريدي) واحداً تلو الآخر، في تبادل إطلاق النَّار مع الجنجويد، وبعد أن يحرق الجنجويد القرية ويغادرون، تأتي (وحدة) من "بعثة الاتحاد الأفريقي" في اليوم التالي، ترافقها الصحفية (مالين لوسبرج)، من أفراد الفريق الصحفي الأربعة، الذين كانوا قد قرروا العودة، والتي تعثر بين الجثث على رضيع (هو الناجي الوحيد من تلك المذبحة)، كان زميلها الصحفي (فريدي) قبل أن يُقتل؛ قد خبأه تحت جثته.
تأخذ (مالين) الطفل معها وتغادر القرية المدمرة؛ مع بقية أفراد البعثة.. أوردت هذين النموذجين، للتدليل على أن (الصراعات الاثنية)، استقطبت اهتمام حقول مختلفة؛ شملت حتى الآداب والفنون، وبطبيعة الحال ناشطين المنظمات الحقوقية والدارسين والباحثين، وكُتبت في السنوات الثلاثين الأخيرة آلاف مؤلفة من التقارير والمقالات والكتب، في مختلف البلدان بمختلف اللغات، حول الصراعات والتحديات المرتبطة بالإثنيات، بعد أن اتسعت دائرة الصراعات الاثنية واستقطبت الاهتمام، بما طرحته من أسئلة حادة؛ على مجتمعات كثيرة؛ في القبل الأربعة للعالم.
تلعب "التعددية الإثنية" دوراً متعدد الجوانب في (الحياة السياسية) في الدول المختلفة، وتكشف "خبرّة الواقع السوداني"، بما شهده ويشهده السودان من (صراعات إثنية)، على أن ثمَّة إخفاقاً في إدارة "النظم السياسية المتعاقبة للتعددية الإثنية"؛ فقد مثلَّت الصراعات بين (المركز والأطراف)، أو ما درجنا على تسميته بـ"الهامش"، أوضح مثال حول أسباب وآثار "سوء إدارة التعددية الإثنية وتحدياتها".
غني عن القول، أن ما درجنا على تسميته في (الخطاب السياسي) الشائع لمختلف القوى السياسية السودانية بـ(التنوع الثقافي)، هو ليس ظاهرة مقصورة على السودان فقط، إذ لا يكاد مجتمع من مجتمعات العالم، يخلو من (التنوع الثقافي) بدرجة من الدرجات، بل يُجمع (خبراء التنمية البشرية) أن "التنوع الثقافي" يمثل (عنصر قوّة) في أي مجتمع، نظراً لكونه يتيح الفرصة؛ للتنافس الخلاق من أجل الابتكار.
المجتمع السوداني الكبير أحد المجتمعات التي تتميز بهذا (التنوع).. وفي الحقيقة؛ عاش أسلافنا آلاف السنين، جنباً إلى جنب؛ يساهمون في بناء (عدّة حضارات إنسانية) على هذه الأرض، التي ظلت عبر آلاف السنين "مساحة حركة اسلافنا فيها" تتقلص وتتمدد.. النقطة الجوهرية هنا، أن (هويتنا الجامعة) تأخذ عناصرها المتفردة؛ من "المشتركات" التي أنتجتها أنشطة أولئك الأسلاف في التاريخ، وحضورهم الإنساني فيه عبر آلاف السنوات، لم تنتقل عبرها (الجينات) فحسب، بل و الأساسي والجوهري "القيم الثقافية" كذلك نُقلت. وهي التي صاغتنا على النحو الذي نحن عليه اليوم، باعتبارنا خلاصة تجربة كل الأجيال، التي سبقتنا عبر التاريخ.
هذه التجربة المستمرة هي ما ميزت شخصيتنا، على النحو الذي نراه في كل السودانيين، بمختلف سحناتهم و ثقافاتهم وعقائدهم.. التجارب المختلفة للاثنيات، كذلك تفيدنا أن وجود (إثنيات مختلفة) في مجتمع واحد، هو (عنصر أساسي للتقدم)، لأن كل أثنية تضع معارفها وثقافتها وخبرتها في خدمة الإثنيات الأخرى، وحاصل جمع هذه الخبرات في (المجتمع الكبير) الذي يجمع هذه الاثنيات المختلفة، يشكل خبرّة فريدة وقوية متعددة المناظير، وهي قطعاً متفوقة على خبرّة أي إثنية منفردة (رهينة منظور واحد) تمثله ثقافتها كإثنية واحدة مستقلة عن الإثنيات الأخرى.
فعندما تضع كل إثنية خبرتها، في خدمة المجتمع الكبير؛ تتعدد زوايا النظر لأي ظاهرة، وتصبح الرؤية أشمل؛ وأكثر قدرّة على الاكتشاف والخلق والإبداع والابتكار. فضلاً عن أن كل هذه الاثنيات؛ التي جمعتها جغرافيا السودان، ما يجمع بينها هو أكثر من ما يفرق بينها، وما يجمع بينها يمكن توصيفه أو تسميته بـ(الثقافة السودانية)، تلك المتجذرة في عمق تاريخ السودان القديم، بالتجليات في تاريخه المعاصر، والتي تمثل لهذا التنوع الحضاري، عنواناً لأرض خصبة، وكما قال (ونجت باشا) في "رسائل ومدونات مجلة الفجر، ١٩١٠": "في كل شبر من هذه الأرض كنز".
ويقيني أن (ونجت) لم يكن يقصد البترول واليورانيوم والذهب، وإنما قصد أهم مورد للسودان: (السودانيين انفسهم) بثقافاتهم ولغاتهم وسحناتهم وعقائدهم، والرابط الخفي الذي يربط بينهم: مَن مِن السودانيين بمختلف اثنياتهم لا يفخر باسلافه (الكوشيين) أو (النوبيين)، ويتحدث باعزاز عن (بعنخي) أو (أركماني) أو (أماني ريناس) أو (كنداكات مروي) عموماً، أو (سليمان سولونج) أو (المهدي) أو (عثمان دقنة)، أو "قوافل سلاطين الفور للأراضي المقدسة"، تحمل كساوي الكعبة والذكاة للعرب الفقراء.
نحن لا نتذكر لحظتها أننا ننتمي لإثنية مختلفة —كما نتوهم عادةً أننا مختلفون عن بعضنا— وحتى لو كان ذلك صحيحاً إلى حدٍ ما —الانتماء لإثنية مختلفة عن إثنية سلفنا موضوع الفخر— يظل العامل المهم، أن السودانيين بمختلف مكوناتهم، لديهم القدرّة على (التعايش السلمي)..
نرى ذلك خلال وجود بعض (الغرباء) في "الحلالات والفرقان والقرى والبلدات الصغيرة، وبشكل أكبر في المدن، وجميع هؤلاء (الغرباء/الآخر) لا يشعرون بأنهم ليسوا في مساقط رأسهم، فهم جزء من نسيج هذا المجتمع، الذي وفدوا إليه وأصبحوا أحد مكوناته الاجتماعية والثقافية..
بل نرى ذلك في المدن الكبيرة بوضوح تام، وكل هؤلاء وأولئك؛ على ذات الاستعداد في صنع مستقبلهم ضمن (وحدة الثقافة السودانية)، التي تمخضت عن جدل تعايشهم معاً كمجتمع مشترك. فهي ثقافة قادرة على تحقيق شروط (التعايش المشترك).
وقد كشفت (التقاليد)، التي حاول ارسائها (الثوار) أثناء "الاعتصام أمام القيادة العامة"، عن قدرّة السودانيين الفريدة؛ على إحياء العناصر الثقافية (الإيجابية) في كل مكونات السودان، والتي تفاعلت لحظتها —عندما سمح لها مناخ الثورّة ووعي الثوار المعتصمين، أن تبرز إلى السطح— فرأينا نساء دارفور وهن يطبخن للثوار، ويُعرفن الثوار بتراث دارفور، ورأينا نساء كل أقاليم السودان وهن يعكسن فلكلور مناطقهن، ورأينا مثقفين المدن وهم يعزفون على العود ويغنون والتشكيليون يرسمون على الجدران والقماش أجمل اللوحات، التي تعكس "جدل التلاحم الثقافي" الذي كان يعتمل لحظتها.
ما حدث لحظتها هو أن الجميع سيطر عليهم "شعور مجتمعي جمعي"، قلل وألغى الفوارق بين "التباينات الثقافية"، التي وجدت الفرصة لحظتها للتعبير عن نفسها؛ والتعريف بنفسها في هذا (المناخ الحر) الذي صنعه الثوار المعتصمين، إذا اتضح هذا، يتضح أن (القيم الثقافية المركزية) في كل هذا التنوع المعتصم، هي نفسها من (كولومبيا) إلى (جمهورية أعلى النفق) إلى (المجتمع أمام القيادة العامة) للجيش، إلى المجتمع في أمبدة أو المنشية والرياض والعمارات أو (دار فونقرو) المتاخمة لحدودنا مع تشاد. وإن اختلف شكل التعبير عنها في كل مكان من هذه الأماكن، التي تفصل بينها مساحات (زمنية) متقاربة، أكثر من مساحات (الجغرافيا) التي نتوهمها.
ولذلك كان شعار: (كل البلد دارفور)، ليس مجرد شعاراً عفوياً أنتجته لحظة (حماس ثوري سياسي) مؤقت، بل أحال —الشعار— إلى دلالات ومعان عميقة متجذرة، تتخطى الصراع السياسي نفسه!
مثلما أن دلالات الاعتصام (أمام مقر الجيش بالتحديد) كانت له رمزياته، التي هي أبعد من مجرد الصراع على السلطة، إذ أشر ذلك أيضاً في أحد أبعاده على أن (هذه السلطة العسكرية) هي (سجان) هذه الثقافات، ولذلك ينبغي أن —تتنحى أو تزاح— لأنها (العائق) أمام هذه الثقافات للتعبير عن جوهرها.
كما شكلَّت "جمهورية أعلى النفق" رمزاً معاكساً تماماً للمعنى الذي تمثله (قيادة الجيش) بجبروتها وبطشها. فالاعتصام أمام قيادة الجيش، لم يكن في جوهره لنيل تعاطف الجيش وطلباً لانحيازه للشعب، بل كان بحد ذاته موقف ضد هذا (السجان) فقد أدرك المعتصمون، أن المشكلة ليست في (القصر الجمهوري!) المشكلة في (قيادة الجيش)، كما كانت دوماً (منذ الاستقلال!).. تلك كانت لحظة كشف رغم ضبابيتها خارقة وحاسمة، أشبه بقفزة ديالكتيكية للوعي!
من الجانب الآخر (قيادة الجيش) اكتشفت أن الشعب أخيراً تمكن من (تحديد المشكلة)، التي لطالما سعت (قيادة الجيش) جاهدة لاخفائها، بـ(الاختباء خلف الحكومات المدنية والانتقالية)، التي عندما يشعر باقترابها من (الاستقلالية عن نفوذه) ينقلب عليها. ولذلك ارتكبت قيادة الجيش "مجزرة الاعتصام"، وبنفس النمط الذي ارتكبت به المجازر والابادات وفض معسكرات النازحين في دارفور. نفس السيناريو والتكنيك! والممارسات!
قيادة الجيش فعلت ذلك لأنها أدركت، أنه لأول مرة تُكتشف أطماعها في السلطة والثروة وتصبح عارية أمام الشعب، بهذا الوضوح!..
ظلت قيادة الجيش في كل عهود حكوماتها الانقلابية والانتقالية، على الدوام تختبئ خلف (القوى السياسية)، وجميعها كانت (في الحقيقة) تحكم باسم المدنيين، وكلما حاولت الحكومات الديمقراطية (تغيير المسار) يطيح بها الجيش، ويعيد تصميم المشهد، خلال (حكومة انتقالية)، ليأتي بحكومة (يوهم بها الشعب) أنها تعبير عن إرادة شعبية حرة و(رأي عام حر) مثلته نتيجة الانتخابات العامة!..
حدث ذلك بانقلاب عبود في نوفمبر ١٩٥٨، وحدث مرة أخرى بالانقلاب على الحكومة التي تمخضت عن انتفاضة أكتوبر ١٩٦٤ وتكرر بالانقلاب على الحكومة، التي تمخضت عن انتفاضة ابريل ١٩٨٥، ومؤخراً بانقلاب البرهان في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، وسيناريو تشبثه ومجموعته الانقلابية، المستمر حتى الآن، بإرهاق المفاوضين في مفاوضات لا نهائية، كسباً لمزيد من الزمن، لتمكين نفسه وحلفائه!
مشكلة السودان بشكل رئيسي، تتمثل في (هذا الجيش) بعقيدته الاستبدادية (النهمة للسلطة والتسلط)، وهي عقيدة لم يزرعها فيه "الإسْلاموطائفيين الجدد" في ١٩٨٩ أو نتيجة مشروع "التمكين الإسْلاموطائفي"، الذي تم تطبيقه على (الجيش والشرطة)، أبداً! فالجيش ابتداءً تأسس على (عقيدة فاسدة) دفعت بعبود في ٥٨ للاستيلاء على السلطة، ودفعت بنميري العقيدة نفسها للاستيلاء على السلطة، والعقيدة نفسها هي التي تبناها "الإسْلاموطائفيين الجدد" فنفذ البشير انقلابهم؛ ليس لأنهم استغلوه لقيادة انقلابهم في ٣٠ يونيو ١٩٨٩، ولكن لأن فكرة الانقلاب، تطابقت مع المعتقدات العسكرية، التي نشأ عليها في الكلية الحربية، ويمكن تتبع هذه العقيدة الفاسدة، في انقلابات الأحزاب السياسية نفسها، التي لا تريد أن تسمح للتعدد بالتعبير عن نفسه، فالصراع كله حول هذا التعدد، لأنها (قيادة الجيش أو الأحزاب الانقلابية) لن تتمكن من الحفاظ على (امتيازاتها التاريخية) إلا في ظل (الأحادية الثقافية)، التي تتوهم أنها ثقافتها، وأنها يجب أن تفرضها على كل التنوع السوداني!
أن استمرار المجتمع السوداني الكبير حياً وفاعلاً، يرتبط بوحدة ثقافته وهويته الوطنية، وبناء الدولة المدنية الحديثة التي يلزم فيها العسكر (السجان) حدودهم و ثكناتهم.. ليصبح ممكناً بناء الدولة التي يسودها القانون، والتي تتيح للسودانيين (دون تمييز) التعبير عن أنفسهم، للكشف عن هذه (المشتركات) المختبئة تحت وطأة القمع العسكري والاسلاموي والطائفي والايديولوجي.
هذا هو السبيل الوحيد الذي يفضي لتعبير هذه الاثنيات عن عاداتها وتقاليدها وأعرافها وثقافاتها، التي تظن أنها تختلف عن عادات وتقاليد وأعراف وثقافات الآخرين، لكنها قطعاً، ستكتشف إذا أُتيح لها المناخ الحر الملائم.. أنها في جوهرها تحمل (نفس القيم الثقافية) التي يحملها الجميع على اختلاف بيئاتهم الجغرافية وخصائصهم الثقافية، ففي نهاية المطاف سيجدون أنفسهم مجتمعين يعبرون عن (ضمير شعب السودان) و(هوية السودان الحضارية).
فالقيم الحضارية للسودانيين هي نتاج ماضيهم وحاضرهم معاً.. السودان الذي قمعت المشاريع العسكرية المتحالفة مع "الإسلاموطائفية القديمة والجديدة" منذ استقلاله، قيمه الجوهرية ستظهر عندما تزاح هذه المشاريع من مركز السلطة، لحظتها فقط سيُقدر الجميع على اختلافاتهم هذه (الهوية السودانية الجامعة)، التي تعلو على أي ايديولوجيا وفكرة تدعو إلى التجزئة والهيمنة على الآخرين، فالأمر مرتبط بعوامل تاريخية وحضارية امتزجت مع أرض هذا الوطن، على مر آلاف السنوات، ومهما تخلى العسكر عن وظيفتهم كعسكر، وتحالفوا مع السلفيين والطائفيين والإسلامويين، للسطو على (الفضاء الخاص) بقوة الأيديولوجيا الدينية والطائفية و(بقوة السلاح) على الفضاء العام، سيأتي اليوم الذي تنفجر فيه في وجوههم هذه المشتركات، التي تفجرت في (اعتصام القيادة العامة) واسقطت النظام..
هذا مسار التاريخ ولن يستطيعوا الإفلات من هذا المسار. وهنا تكمن قوة السودان حضارياً. ولذلك تتوهم الحركات المسلحة، التي تظن أن (اتفاق جوبا) فتح للمهمشين مسارات (صعود) لإحلال أنفسهم ك(مركز بديل) بازاحة (المركز القديم)، فهذه ليست فكرة الاتفاقية (إزاحة واحلال) أو (احلال وابدال). بالعكس الفكرة الجوهرية للاتفاقية (صناعة المناخ الحر الملائم) لتفاعل هذا التنوع، بما يسهل عملية إدارته!
وكذلك يتوهم العسكر أن بإمكان خططهم في (إرهاق قوى المركزي) في مفاوضات (لا ينوون إبتداءً إنهائها)، واستغلال الحركات المتحالفة معهم للحفاظ على أوضاعهم القائمة، وتدجينهم على حساب (مكتسبات الهامش) نفسها، يكشف ذلك عن "قصر نظر من يفكرون لهم"، إذ تغيب عنهم خطورة هذه التكتيكات، التي هي ليست جديدة، فلطالما مُورست خلال الثلاثين سنة الماضية، وفي كل مرة تفضي إلى نفس (النتائج الكارثية). وصحيح تماماً بقدر خطورّة فكرة حلف "العسكر والحركات والفلول" عن السلطة، بقدر ما هم خائفين من أن تعيش هذه (المجتمعات المتنوعة) حياة طبيعية، يفقدون خلالها ومجموعات المصالح التي يمثلونها والقوى الايديولوجية المرتبطة بهم أهميتهم كحرس (للثقافة والهوية والوطن)، لأنهم لن يعودوا مميزين، إذ ستصبح أي أيدلوجيا كغيرها من الأيديولوجيات وأي دين كغيره من الأديان وأي عادات كغيرها من العادات. وبالتالي أي إثنية كغيرها من الإثنيات.. بالتالي لا يتميز الأفراد سوى بابداعهم واسهاماتهم وأنشطتهم الخلاقة في التاريخ اليومي لهذه البلاد، وهذا هو ما يخيف (البرهان) وبعض (قادة الحركات المسلحة) لأنهم سيفقدون تميزهم، خاصة أنه ليس لديهم ما يجعلهم مميزين سوى (البنادق)، التي وإن شكلت تهديداً لآخرين اليوم، سيكونون هم ضحيتها غداً. إنه مسار التاريخ.
ahmeddhahia@gmail.com