تحت اصوات الرصاص وزيارات الدعامة (٢)
الرشيد جعفر على
20 February, 2024
20 February, 2024
Rasheed132@hotmail.com
الرشيد جعفر
حى جبرة يعتبر من اكثر المناطق الملتهبة اشتعالا بالخرطوم أثناء فترة الحرب الجارية بحكم انه متاخم لسلاح المدرعات أقوى الأسلحة بالجيش السودانى ، واسهم وجود منازل حميدتى وأسرته بالمنطقة أن جعله على صفيح ارض ساخنة من خلال المواجهات المندلعة بين الطرفين ، فمن الاشياء العجيبة هى بقاء تلك المنازل تحت سيطرة الدعم الى الان ، على الرغم من قربها من سلاح المدرعات وقذق الطائرات لها باشد المتفجرات التى يهتز لها كل ارجاء الحى ، فنتخيل بأنه لن يكون هنالك دعامى واحد بعد القذف ولكنه يظل الحال كما هو لا يبرح مكانه.
كان الضرب بعيدا من مربعنا بالمنطقة الا من خلال اصوات المدفعية والرصاص خلال الأربعة شهور الأولى ، نصحو باكرا فنجد الطلقات متناثرة فى فناء المنزل قادمة من المناطق البعيدة مثل حى الامتداد او منطقة السوق العربى ، او مربع الشهيد طه الماحى حيث علمت ان امتداد انطلاق الرصاص فى بعض انواعه يمكن ان يصل لخمسة كيلو ، حفظتنا منه العناية الإلهية .
سافرت الأسرة إلى الخارج بعد شهر من بداية الحرب ، وبقى معى اخى الأصغر والابن الأكبر لثلاثة أشهر ، فكانت المعاناة الحقيقية فى انقطاع الكهرباء طيلة تلك الفترة ، بالإضافة إلى عدم استقرار المياة ، فكان النوم داخل المنزل ليلا خوفا من الدانات الساقطة فى ظل انعدام الكهرباء وسخونة الجو لدرجة عالية جدا يماثل ذلك سخانة المعارك المحتدمة الجارية ، ومثل ذلك قمة المعاناة فاحيانا كنا نتغاضى عن شظايا الرصاص الطائشة بالنوم بالخارج لكى ننعم بالنوم ، لانك داخل البيت تصحو على ابتلال ملابسك من العرق اثر سخونة الجو لدرجة بعيدة.
فالدانات بعد ثلاثة أشهر أصبحت سيدة الموقف تقع فى مربعنا وغير معروف مصدرها مرة تاتى من الدعم واخرى من الجيش كان نصيب حدود منازلنا او المناطق القريبة منا حوالى سبعة عشر دانة حتى لحظة بقاءنا بالحى .
وبعد خروجى الإجبارى من المنزل ، عند زيارتى للحى بعد فترة لاحظت زيادة اعدادها فى تأثير المنازل منها الى الضعف ، احداها كانت عند باب منزلنا الخالى . والموسف والمولم حقا أن جل الدانات المصوبة لم تصيب أحدا من الأعداء لان حدود منطقتنا كانت خالية من تواجد الدعم السريع حتى الأربعة شهور الأولى فكنا فى اشد الحيرة من اطلاق دانات من الجيش فى منطقة خالية تماما من الدعم السريع ، ففى احداها اصيب جارنا بكسر مركب فى يده وكان ضرب الدانات احد اكبر العوامل فى رحول أغلبية السكان الا من قلة بسيطة ، فكنا نسمع بان الدانات تقطع اوصال المرء الى عدة اجزاء يحتاج جمعها الى معجزة مثل ما حدث باللاماب ناصر .
فاحيانا بالنهار وانت تتجول بالمربع الخالى من السكان ومظاهر الحياة ، تحس بانك مثل النبتة الوحيدة التى نبتت فى وسط الصحراء نتاج هجرة الكثير للحى وبلادهم التى ترعرعوا فيها لا يدرون اى اتجاه يصوبون حركتهم .
فأصعب اللحظات وأكثرها غصة تقف فى الحلق كانت هى تناثر اعداد الجيران بالحى نقصانا بالسفر والنزوح إلى الولايات وخارج البلاد ، بعد زيادة وتيرة المعاناة يوما بعد الاخر بالإضافة إلى تصاعد فقدان الأمن والأمان وعدم وجود اى جهة رسمية بالبلاد تحاول أن تنور المواطنين وتبث فيهم روح الأمل وتحدثهم عن ما يجرى لماذا حدث ....وكيف حدث ...ومتى سينتهى ....وماذا يجب أن يفعل فالكل حيارى إزاء ما يجرى وما يجب أن يفعل .
كنت واضعا فى ذهنى اننى لن أغادر منزلنا ابدا ولو أدى ذلك إلى حتفى ، كنت انظر إلى منزل الوالد الراحل كأنه قطعة منه وكل موضع فيه يمثل ذكريات وأيام جميلة قضيناها فى رحابه ، وصورته المعلقة على الحائط توثبنى وتدفعنى ان لا اغادر ابدا فحقا مغادرة الديار دون وفق ارادتك مثل القتل مجرد التفكير فى ذلك يمثل موت بالبطى لروحك وانهزام موجع لكل عزيمتك وقواك الروحية والجسدية .
فى احدى المرات تحدثت عقب صلاة الجمعة حاثا المصلين على البقاء والدفاع عن ممتلكاتهم ومنازلهم فمن مات دون ماله وعرضه ودينه فهو شهيد ، من شدة ما كان يعترى الصدور من غليان إزاء ما يجرى لم اتهيب ابدا عواقب الحديث عن جرائم الدعم السريع ومواجهة ذلك ولكن جرت مياة كثيرة بين الاحداث وجدت فيها نفسى مجبرا خارج البلاد بعد ثمانية اشهر من اندلاع الحرب .
كان مغادرة الأسر للحى يوما بعد الآخر فى متوالية متواصلة من النقصان لإعداد المقيمين بالحى بمثابة خنجر مسموم يغرس فى احشائنا كل يوم ، فأصبحت الدموع ملازمة يوميا لافواج المغادرين ، احاول ان احبسها ولكن يغلبنى ذلك لعلها دموع على الوطن الذى تسرب من بين ايدينا والخشية أن يطول امد الحرب ، من اكثر المواقف حزنا هى وفاة احد الجيران بشقته دون علم احد الا بعد خمسة أيام حتى خرجت رائحة الجثمان للخارج ، فتم دفنه بالحى بالقرب من المنزل فى موقف محزن ومولم .
بعد تناقص أعداد الجيران اصبحنا مجموعة صغيرة نحتمى بالمسجد المجاور لنا فكان بمثابة النادى عقب كل صلاة وملاذ ننثر فيه اوجاع الحرب ومحنها التى بدأت تظهر فى تناثر مداخرات الناس ونفادها فمن لم يهرب من الحرب خوفا خرج بحثا عن العمل لمقابلة منصرفات أبناءه ، فكنا نعد الإفطار كعزابة ونتناول الوجبات بالمسجد فى تعاضد وتعاون قرب الكثير من بعضهم البعض ، وجعل الحى عبارة عن شعلة من النشاط والتعاون لم تحدث من قبل .
ومن فوائد الحرب أصبحت لأول مرة موذن المسجد وفى بعض الأحيان إماما حتى تندر أحدهم بأن اكون اماما للجمعة بالمسجد ، وأصبحت مجودا لطهى الطعام بعد أن تطاول فترة الإبتعاد من ذلك منذ العودة من الغربة فكان العدس والفول سادة المائدة حتى الفول كنا احيانا نتناوله ساعة الغداء .
كان أعداد الحلة كل يوم على احد افراد المربع الذى اصبحنا فيه بعد أربعة أشهر ثلاثة افراد فقط بالإضافة إلى أسرة واحدة فقط ظلت مقيمة بالحى حتى موعد مغادرتى البلاد واذكر فى احدى زيارتى للحى فى احدى المرات ذهبت اليهم فاستغرب الدعامة عندما عرفو بان هنالك اسرة مقيمة حتى الان وطالبونى بحثهم على الخروج خوفا عليهم من ضرب الدانات.
عدنا إلى الكورة بعد سنين طويلة فاصوات الضرب تلعلع تحت مناكفات اللاعبين داخل الملعب ، بالجزء الشمالى من المربع كانت شلة الضمنة والكوتشينة ولأول مرة فى حياتى العب الضمنة فكنا نلهى أنفسنا من الفراغ القاتل حيث لا عمل ولا حركة على أمل قرب نهاية الحرب فقد كنا نمنى انفسنا على اخبار انتصار الجيش ولكن كانت أكثرها عبارة عن اوهام ومجريات مخالفة للواقع حتى الان لم ننفك منها فالعيش دون أمل هو الفناء بعينه خاصة ان كل بدائل طرد حلم العودة إلى حياض الوطن تبدو غاتمة ومظلمة .
الرشيد جعفر
حى جبرة يعتبر من اكثر المناطق الملتهبة اشتعالا بالخرطوم أثناء فترة الحرب الجارية بحكم انه متاخم لسلاح المدرعات أقوى الأسلحة بالجيش السودانى ، واسهم وجود منازل حميدتى وأسرته بالمنطقة أن جعله على صفيح ارض ساخنة من خلال المواجهات المندلعة بين الطرفين ، فمن الاشياء العجيبة هى بقاء تلك المنازل تحت سيطرة الدعم الى الان ، على الرغم من قربها من سلاح المدرعات وقذق الطائرات لها باشد المتفجرات التى يهتز لها كل ارجاء الحى ، فنتخيل بأنه لن يكون هنالك دعامى واحد بعد القذف ولكنه يظل الحال كما هو لا يبرح مكانه.
كان الضرب بعيدا من مربعنا بالمنطقة الا من خلال اصوات المدفعية والرصاص خلال الأربعة شهور الأولى ، نصحو باكرا فنجد الطلقات متناثرة فى فناء المنزل قادمة من المناطق البعيدة مثل حى الامتداد او منطقة السوق العربى ، او مربع الشهيد طه الماحى حيث علمت ان امتداد انطلاق الرصاص فى بعض انواعه يمكن ان يصل لخمسة كيلو ، حفظتنا منه العناية الإلهية .
سافرت الأسرة إلى الخارج بعد شهر من بداية الحرب ، وبقى معى اخى الأصغر والابن الأكبر لثلاثة أشهر ، فكانت المعاناة الحقيقية فى انقطاع الكهرباء طيلة تلك الفترة ، بالإضافة إلى عدم استقرار المياة ، فكان النوم داخل المنزل ليلا خوفا من الدانات الساقطة فى ظل انعدام الكهرباء وسخونة الجو لدرجة عالية جدا يماثل ذلك سخانة المعارك المحتدمة الجارية ، ومثل ذلك قمة المعاناة فاحيانا كنا نتغاضى عن شظايا الرصاص الطائشة بالنوم بالخارج لكى ننعم بالنوم ، لانك داخل البيت تصحو على ابتلال ملابسك من العرق اثر سخونة الجو لدرجة بعيدة.
فالدانات بعد ثلاثة أشهر أصبحت سيدة الموقف تقع فى مربعنا وغير معروف مصدرها مرة تاتى من الدعم واخرى من الجيش كان نصيب حدود منازلنا او المناطق القريبة منا حوالى سبعة عشر دانة حتى لحظة بقاءنا بالحى .
وبعد خروجى الإجبارى من المنزل ، عند زيارتى للحى بعد فترة لاحظت زيادة اعدادها فى تأثير المنازل منها الى الضعف ، احداها كانت عند باب منزلنا الخالى . والموسف والمولم حقا أن جل الدانات المصوبة لم تصيب أحدا من الأعداء لان حدود منطقتنا كانت خالية من تواجد الدعم السريع حتى الأربعة شهور الأولى فكنا فى اشد الحيرة من اطلاق دانات من الجيش فى منطقة خالية تماما من الدعم السريع ، ففى احداها اصيب جارنا بكسر مركب فى يده وكان ضرب الدانات احد اكبر العوامل فى رحول أغلبية السكان الا من قلة بسيطة ، فكنا نسمع بان الدانات تقطع اوصال المرء الى عدة اجزاء يحتاج جمعها الى معجزة مثل ما حدث باللاماب ناصر .
فاحيانا بالنهار وانت تتجول بالمربع الخالى من السكان ومظاهر الحياة ، تحس بانك مثل النبتة الوحيدة التى نبتت فى وسط الصحراء نتاج هجرة الكثير للحى وبلادهم التى ترعرعوا فيها لا يدرون اى اتجاه يصوبون حركتهم .
فأصعب اللحظات وأكثرها غصة تقف فى الحلق كانت هى تناثر اعداد الجيران بالحى نقصانا بالسفر والنزوح إلى الولايات وخارج البلاد ، بعد زيادة وتيرة المعاناة يوما بعد الاخر بالإضافة إلى تصاعد فقدان الأمن والأمان وعدم وجود اى جهة رسمية بالبلاد تحاول أن تنور المواطنين وتبث فيهم روح الأمل وتحدثهم عن ما يجرى لماذا حدث ....وكيف حدث ...ومتى سينتهى ....وماذا يجب أن يفعل فالكل حيارى إزاء ما يجرى وما يجب أن يفعل .
كنت واضعا فى ذهنى اننى لن أغادر منزلنا ابدا ولو أدى ذلك إلى حتفى ، كنت انظر إلى منزل الوالد الراحل كأنه قطعة منه وكل موضع فيه يمثل ذكريات وأيام جميلة قضيناها فى رحابه ، وصورته المعلقة على الحائط توثبنى وتدفعنى ان لا اغادر ابدا فحقا مغادرة الديار دون وفق ارادتك مثل القتل مجرد التفكير فى ذلك يمثل موت بالبطى لروحك وانهزام موجع لكل عزيمتك وقواك الروحية والجسدية .
فى احدى المرات تحدثت عقب صلاة الجمعة حاثا المصلين على البقاء والدفاع عن ممتلكاتهم ومنازلهم فمن مات دون ماله وعرضه ودينه فهو شهيد ، من شدة ما كان يعترى الصدور من غليان إزاء ما يجرى لم اتهيب ابدا عواقب الحديث عن جرائم الدعم السريع ومواجهة ذلك ولكن جرت مياة كثيرة بين الاحداث وجدت فيها نفسى مجبرا خارج البلاد بعد ثمانية اشهر من اندلاع الحرب .
كان مغادرة الأسر للحى يوما بعد الآخر فى متوالية متواصلة من النقصان لإعداد المقيمين بالحى بمثابة خنجر مسموم يغرس فى احشائنا كل يوم ، فأصبحت الدموع ملازمة يوميا لافواج المغادرين ، احاول ان احبسها ولكن يغلبنى ذلك لعلها دموع على الوطن الذى تسرب من بين ايدينا والخشية أن يطول امد الحرب ، من اكثر المواقف حزنا هى وفاة احد الجيران بشقته دون علم احد الا بعد خمسة أيام حتى خرجت رائحة الجثمان للخارج ، فتم دفنه بالحى بالقرب من المنزل فى موقف محزن ومولم .
بعد تناقص أعداد الجيران اصبحنا مجموعة صغيرة نحتمى بالمسجد المجاور لنا فكان بمثابة النادى عقب كل صلاة وملاذ ننثر فيه اوجاع الحرب ومحنها التى بدأت تظهر فى تناثر مداخرات الناس ونفادها فمن لم يهرب من الحرب خوفا خرج بحثا عن العمل لمقابلة منصرفات أبناءه ، فكنا نعد الإفطار كعزابة ونتناول الوجبات بالمسجد فى تعاضد وتعاون قرب الكثير من بعضهم البعض ، وجعل الحى عبارة عن شعلة من النشاط والتعاون لم تحدث من قبل .
ومن فوائد الحرب أصبحت لأول مرة موذن المسجد وفى بعض الأحيان إماما حتى تندر أحدهم بأن اكون اماما للجمعة بالمسجد ، وأصبحت مجودا لطهى الطعام بعد أن تطاول فترة الإبتعاد من ذلك منذ العودة من الغربة فكان العدس والفول سادة المائدة حتى الفول كنا احيانا نتناوله ساعة الغداء .
كان أعداد الحلة كل يوم على احد افراد المربع الذى اصبحنا فيه بعد أربعة أشهر ثلاثة افراد فقط بالإضافة إلى أسرة واحدة فقط ظلت مقيمة بالحى حتى موعد مغادرتى البلاد واذكر فى احدى زيارتى للحى فى احدى المرات ذهبت اليهم فاستغرب الدعامة عندما عرفو بان هنالك اسرة مقيمة حتى الان وطالبونى بحثهم على الخروج خوفا عليهم من ضرب الدانات.
عدنا إلى الكورة بعد سنين طويلة فاصوات الضرب تلعلع تحت مناكفات اللاعبين داخل الملعب ، بالجزء الشمالى من المربع كانت شلة الضمنة والكوتشينة ولأول مرة فى حياتى العب الضمنة فكنا نلهى أنفسنا من الفراغ القاتل حيث لا عمل ولا حركة على أمل قرب نهاية الحرب فقد كنا نمنى انفسنا على اخبار انتصار الجيش ولكن كانت أكثرها عبارة عن اوهام ومجريات مخالفة للواقع حتى الان لم ننفك منها فالعيش دون أمل هو الفناء بعينه خاصة ان كل بدائل طرد حلم العودة إلى حياض الوطن تبدو غاتمة ومظلمة .