تحت زخات الرصاص وزيارات الدعامة (5)

 


 

 

الرشيد جعفر

الهزيمة ليست هي تلك التي تتكبدها الجيوش في معارك القتال. الهزيمة الحقيقية الكبرى ، هى الهزيمة الداخلية، هزيمة المواطن الفرد حين تنخر النفوس الدواخل واحدة بعد الأخرى وتصيبها بالخراب وفساد المعنويات. والشعور بالذل والقهر والمهانة من تم اعداداهم من خزينتك العامة لكى يحموا الوطن ويدافعوا عنك عند المحن والبلايا ، ولكنهم للاسف كان يتم تجهزيهم لضرب اقرانهم من بنى جلدتهم ووطنهم .

فذلك لم يكن خافيا فقد اعلنه قائدهم المجرم وعلى الملأ وهو بمثابة نائب رئيس الدولة (لمن تقوم الحارة الا بيوتكم دى تقعد فيها الكدايس لن يبقى فيها احد والله ستصبح الخرطوم مثل كتم ) وقد كان له ذلك فى وضح النهار ، واصبح حديثه واقعا تجسده البيوت المفتوحة والخالية من كل شى لقرابة العام مسكونة من الدعامة ، شياطين الانس والجن وكدايس حميدتى المذكورة وكلاب الخرطوم الضالة ، فقد كان جوهر كل ما يجري هو الوصول بهذا المواطن البسيط إلى هذا المآل البائس ليفرغ الوطن تماما من أبناءه . لنتجادل نحن الحيارى فى مندوحة من أشعل الحرب .

فأليس تصريح المجرم اعلاه باكرا قبل عدة اعوام هو بمثابة اعلان للحرب الماجورة التى جعلت الامارات لاعب اساسى فى سوق بيع الوطن ، دع عنك تصريحات بقية قادة الحركات المسلحة فى ذات المضمار من بينها وزير المالية الحالى ردا على احد هتافات عساكره بيوت خرطوم كسر بيوت خرطوم كسر فيرد عليه حافظ خزينة القوات المسلحة الحالى( بيوت ما تكسروها لكن شيلوها ) فى فيديو شهير متداول وسط الميديا فيا وجع الزمان ومحن السودان .

لم يتطور النهب الذى مورس من الفراغ ، وفى الواقع لطالما كان موجودًا ، الجديد هنا هو مستواه واعتزاز الجنود به وتصريح قائده به وانه سيجرى كذا وسيحدث كذا ، ولا احد يردعه ولا يسأل عما صرح به ، انه اكبر تصريح مهدد للامن القومى يدلى به مسوول على سدة الحكم على مدى تاريخنا الممتد تحت مرمى ومسمع قادة الأجهزة الأمنية ، ليبقى المخطط وحديثه واقعا ليتناثر ابناء الوطن فى وحشة الخلوات الجرداوات والصحارى الجوف وسنابك الموت عبر البحار ، يركبون الصعب وهم موقنون فى الغالب الاعم بحتفهم ، ولتعتلى حرائر البلاد وكبار السن بكاسى التهريب فى اوضاع مذلة ومهينة لا تمت للانسانية بصلة ليس خوفا لان الخوف ليس شيمتهم ، حاشا وكلا بنو السودان أحفاد مهيرة بت عبود .

ولكنهم وجودوا أنفسهم بلا قيادة ، وقت المحنة الكبرى فى زمن ظهور القيادة ، غاب مسوولى الدولة المغيبة اصلا ، ومدعى السياسة ورواد انقاذه من الكيزان ، فى وقت كان من المفترض أن يكون لهم كلمة وتبصير ورسم لمخرجات الطريق وبقاء مع الناس وسط النيران ، فهذا الوطن الغالى هو كل ما نملك ، باعوه من يعتلون اعلى المناصب ومن من باسمه للخارج لأنهم قمة العمالة والخيانة والنجاسة .

ففى الايام الاخيرة اثناء وجودنا بالمربع وبداية حملات السرقة مع بداية الشهر الرابع ، بدأت المنازل الخالية تفتح وتسرق فى عين النهار ، فكنا نحاول ان نغلق الابواب منعا للنصب ، وتعطيل بعض السيارات الموجودة بالمنازل للاحالة دون اخذها ، ولكن هولاء الاوباش كأنت لا حيلة تقف امامهم يحبون ويستمتعون بالمصاعب ، جاهزين لكل اسبيرات سيارة معطلة مع طاقم كامل من الميكانيكية الجاهزين للعمل والتعاون معهم .

حتى البيوت التى سدت امامهم فتحت مرة أخرى ، كانك يا أبوزيد ما غزيت كانوا فى الفترة الاولى يتحاشون
الدخول لاى منزل به احد ، وشعارهم الكذوب نحن ما عندنا قضية مع مواطن ، واذا عندكم اى مشكلة تعالوا لينا .

أما المنازل الخالية اعتبروها منازل مغتصبة للهجوم عليها واخذ كل محتوياتها إلى أن وصل النقل بالتكاتك والدفارات التى كان مجملها من مجندى الدعم بمنطقة مايو جنوب الخرطوم ليدخلوا المساكن الخالية وغير خالية من السكان فى مرحلة اخرى .

اذكر اول هجوم على منازل الحى ليلا عند الثانية صباحا ، استيقظت على صوت ضرب شديد جدا بالرصاص والأدوات الثقيلة للكسر ، اصوات تجيب الرايح من اقاصى الدنيا ، فتيقنت أن الجماعة قد وصلوا للحى واصبحنا فى مرمى اهدافهم لا محالة ، كان معى جارى الحلفاوى القح ،الرجل الشهم الذى تعرفت عليه خلال فترة الحرب من ضمن مئات الأشخاص عرفتنا بهم الحرب فى اشد واقسى أيام المحنة ، فايقظته من نومه العميق لاصوات الضرب فاقترح على أن نذهب اليهم ....فرفضت ذلك واكدت له هولاء دعامة من طريقة تكسيرهم وضربهم العالية الصوت دون خوف من قادم اليهم ، فهولاء ليس لصوص عاديين حتى نواجههم ، لا حيلة لنا معهم ، فواصل نومه مرة أخرى وأصبحت انا فى حيرة من امرى متابعا للضرب الذى استمر قرابة الساعتين . وفى الصباح علمنا انهم ابناء صاحب التصريح الداوى الخرطوم ستبقى مثل كتم ، قدموا بتاتشر اخذوا ما طاب لهم من منزل احد الجيران ومضوا .

وفى سابقة أخرى بالنهار لدى سرقة احد المنازل تم الاتصال بشباب الحى لمنعهم من اخذ سيارة احد المنازل ، فاجتمع حوالى خمسة عشر شابا ، حاول بعضهم التسلح لمهاجمتهم فرفضت ومعى بعض الاخوان ذلك لاننا سندخل معهم فى معركة غير متكافئة وغير مؤهلين ومستعدين لها ، سنخسر فيها بعض الشباب لا محالة ان لم يكن جل المجموعة ، الى ان اقتنعوا بحديثنا ، فذهبنا للمعتدين ودخلنا فى مشاجرة معهم انتهت أن رجعنا إلى ادراجنا دون المقدرة على منعهم من مواصلة مبتغاهم ، فلا صوت يعلو على استخدام الرصاص دون وعى ومسؤولية .

فى احدى المرات كنا نصلى الظهر بالمسجد المجاور لمنزلنا وكان هنالك منزل اخر مستغل من الدعامة أصبح وكرا للدعارة مثل اغلب بقية منازل الخرطوم الان ، كلا منهم يأتى لقضاء نزواته ويخرج والمنزل أبوابه مطلة على فناء المسجد ولم نلحظه وهو بالداخل ونحن نهم باداء صلاة الظهر ، فتوجس منا وأعتقد اننا متربصين به ، فما كان منه إلا إطلاق نيران كثيفة فى الهواء جعلتنا نطلق اقدامنا للريح حفايا وسط الشمس الحارقة ، فمن من وقع أرضا ، ومن تخفى خلف اعمدة المسجد ، ومن انطلق كأنه صبى فى مضراب سباق . ولكن ما لبث أن عدنا سريعا مع تيقن مطلق النار بأننا مصلين فقط لا ترصد لنا به ، فخرج هو ايضا مع رفيقته دون مواربة وخجل .

وفى يوم اخر تكرر ضرب النار ايضا مرة أخرى ، فى صلاة المغرب بكثافة عالية لأنهم أصبحوا يقيمون بذلك المبنى ، ولا يرتاحون لمقدم المصلين بالقرب منهم ، فاتفقنا أن نذهب اليهم فى اليوم التالى لدى ارتكازهم القريب منا بتقاطع البيبسى لنحاول أن نخبرهم بأننا مصلين فقط بالمسجد ، فلا داعى لاطلاق النيران ودعوتهم للصلاة معنا أن كانوا يرغبون ، وفى حقيقة الامر كنا نحاول نصنع الحجج من أجل ان نزورهم كل مرة لمحاولة تعريفهم بأننا مواطنين ساكنين بالقرب منهم حتى نتجنب زياراتهم الليلية التى كانت تاتى دون مواعيد ، وكذلك لتسهيل عملية الدخول والخروج للمنزل نهارا ، ولكى نحول بينهم وبين منازلنا باعتبار أن هنالك اسر موجودة فكانت بمثابة نجدة لنا من الاعتداء لفترة من الزمن حيث كان شعارهم لا تعرض لاى بيت اهله لم يخرجوا منه .

ففى حقيقة الأمر كانت هنالك مجموعة من الدعامة حسنة التعامل والتفهم بأن هولاء الموجودين سكان فقط لا حيلة لهم ولا غرض غير البقاء بمنازلهم فحقيقة الامر هنالك مجموعة كبيرة منهم لا علاقة لهم باذى المواطن بل يخفون لمساعدته عند كثير من المواقف الانسانية وبعضهم يقول ليك نحن ما عندنا قضية معاكم لكن اعمل حسابك من مجموعتهم الاخرى .

فقد كانت المعضلة الأساسية هى تغييرهم من فترة لأخرى بمجموعة جديدة فعندما وصلنا لارتكازهم والقينا عليهم التحية ، كان هنالك قادم جديد ذو طبع مختلف جدا فاستشاط غضبا عندما رانا ، فرد غضبا لا سلام ولا ...... اقعدوا هنا فى الواطة دى ، ياخى نحن مواطنين ومجموعتك دى بعرفونا ، اسأل قائدكم ، فقد كنا نحفظ اسماء الضباط لتفادى أذى العساكر ، فعند قدوم حملات التفتيش والسرقة كنت اردد عليهم اسماء ضباطهم فى اننا معلومين لديهم مواطنين فقط وقد سمحوا لنا بالاقامة فمنهم من يقتنع ومنهم من يمثل ويدعى فى انه لا يعرف أشخاص بتلك الأسماء .

انقسم مربع (١) بجبرة الى جزءين الناحية الجنوبية التى بها تقاطع البيبسى والقريبة منا تابعة إلى الدعم السريع والجزء الشمالى منه محطة الكبرى والكهرباء حتى تقاطع الإسكان كانت تحت سيطرة جنود المدرعات حيث كان يتخفى جنود الجيش لاصطياد جنود الدعم الغير مدركين لتواجد افراد الجيش هنالك ، نتاج ذلك كان يوميا يلقى حوالى ستة او سبعة افراد حتفهم من جراء مباغتة الجيش لهم ، فيتم دفنهم من شباب الحى على قارعة الطريق . فقد كانت جثث الدعم وهى ملقاة على قارعة الطريق وبعضها محترق محزنة لشباب فى مقتبل العمر تحكى عن قصة وطن ظل ينزف لأكثر من خمسة عقود من الزمان .

ذات مرة وانا راجع الى المنزل ولدى مدخل شارع المنزل عند ارتكاز الدعم وكان هنالك ضرب نار كثيف من قبل الجيش فتم توقيفى واجلاسى على الارض مع تعامل أحدهم بصورة قاسية فى الحديث وتوعده بأن يضربنى فى راسى بالعصا التى يحملها واتهامه باننى عسكرى والا لماذا لا يستهدفنى قناص الجيش الذى يصوب من بعيد فى اتجاههم على حسب تعبيره ، فاكدته له اننى مواطن اسكن فى هذا الشارع وبأن قائد الارتكاز يعرفنى جيدا وإمكانية سواله أن كنت من سكان الحى ام لا واذا لم اكن كذلك فالتفعل ما بدا لك ، فهاج وماج مرة أخرى انت داير تورينى اعمل شنو ، فاردفت له بان الامر ليس كما تتخيل بقدر ما اريد فقط ان اثبت حقيقة امرى .

بعدها جاء ضابط المجموعة فاطلق سراحى وبدأت أتيقن بأن الرحول ومغادرة المنزل أصبح مسألة وقت فقط لا محالة وبدأت ارتب واجهز فى محتوياتى المهمة ووضعها فى حقيبة ، فى انتظار ساعة الرحيل القادمة لا محالة .

 

آراء