ترامب والسودان.. خمر قديمة ام قوارير جديدة؟

 


 

 

بعد ان اهريق حبر كثير في الصحف ، وسال مداد افتراضي غزير في الأسافير ، شهدت مراكز البحوث والدراسات في الخرطوم بعد فوز دونالد ترامب نشاطا محموما خلال الاسبوعين الماضيين، اذ انتظمت هذه المراكز عددا من الندوات وجلسات النقاش للإجابة علي السؤال : ما هو مستقبل العلاقات مع امريكا بعد فوز دونالد ترمب؟.

وقد كانت روح النقاش العامة في معظم هذه المراكز اقرب لروح التوجس والإشفاق والتشاؤم بعد شعارات الحملة الانتخابية لترامب. وزاد من حالة التوجس استعراض اسماء المرشحين لتولي مناصب مرموقة في الادارة خاصة بعد ذيوع وشيوع تصريحات وليد فارس الماروني المسيحي عن السودان وهو يعيد انتاج خطاب اليمين المسيحي المتطرف اثناء فترة الرئيس السابق جورج بوش الابن.
رغم كثرة الندوات الا إنني لاسباب عملية وقفت ملياً علي النقاشات الدائرة في ثلاثة مراكز، اذ استضاف مركز السياسة الدولية احد خبراء الشئون الدولية من العالم العربي، كما استضافت قاعة الشارقة ايضا حلقة نقاش وكذلك مجلس السياسة الخارجية التي قدم فيها الدكتور الخضر هارون والدكتور صفوت فانوس رؤيتهما حول انعكاسات نتائج الانتخابات الامريكية وأثرها علي مستقبل العلاقات مع السودان. واختتمت وزارة الخارجية ممثلة في منبر السفير جمال محمد احمد الثقافي سلسلة هذه الندوات بتنظيم حلقة نقاش تحدث فيها البروفيسور عبد الله علي ابراهيم استاذ التاريخ الأفريقي بجامعة ميسوري و الاستاذ سيد الخطيب مدير مركز الدراسات الاستراتيجية و الدكتور الصادق الفقيه سفير السودان لدي المملكة الاردنية الهاشمية.
لا شك ان هذا نشاط محمود من قِبَل مراكز البحوث والدراسات في السودان لمناقشة نتائج وأثر هذه الانتخابات وفوز الرئيس ترمب علي مستقبل العلاقات مع السودان.
اول ما لفت نظري في هذه المداخلات هو اجماع الخبراء الذين تحدثوا في المنابر المختلفة علي وجود فرصة مواتية للتعامل مع الادارة الجديدة، لأن الرئيس المنتخب ترامب قادم من سياقات تقع خارج التوقعات المألوفة وهو بحكم تكوينه السياسي وخلفيته الاقتصادية في مجال الاعمال رجل براغماتي ويري ضرورة ان تقوم كل دولة بتسديد فواتير الخدمات الامريكية.
كما اجمع الخبراء علي ان السودان لا يقع ضمن أولويات السياسة الخارجية لعدم ارتباطه بمصالح حيوية لدي الولايات المتحدة. لذا فأن السودان يستمد أهميته في سياق تأثيره الإقليمي اي ليس مرتكزا علي أهميته الذاتية بل لاتصالاته وتأثيره علي قضايا السلام في الجوار الأفريقي و مكافحة الهجرة غير الشرعية ومحاربة الاٍرهاب والتأثير علي تحولات القوة الفاعلة في الإقليم.
وقد اكد البروفيسور عبد الله علي ابراهيم في حديثه علي اهمية عقد التحالفات الداخلية في المجتمع الامريكي وأثر ذلك علي بلورة خيارات السياسة الخارجية، مشيرا الي ان التحدي الأكبر هو كيفية نقل اهتمام امريكا بقضايا السودان من الموقف الاخلاقي الي الموقف السياسي المصلحي. ويشارك الدكتور الخضر هارون في هذا العصف الذهني مؤكدا ان السودان لا يقع ضمن النطاق الحيوي للمصالح الامريكية ، وهو ذات ما اشار اليه الاستاذ سيد الخطيب في مقاربته وهو يشير الي ان تقلبات السياسة الامريكية في سياقها التاريخي توضح ان كل مشروع ليبرالي طموح أعقبته ردة فعل قوية من التيار الجمهوري المحافظ مستدلا بمشروعات كندي وكارتر وكلينتون . وقد تلاها انتصار جمهوري كاسح بوصول كل من أيزنهاور ونيكسون و ريغان وبوش للبيت الأبيض.
وهذا من ناحية اخري يوضح ان الناخب الامريكي لا يميل الي احتكار تيار سياسي محدد سواءً كان محافظا ام ليبراليا لنتائج الانتخابات والجلوس علي سدة الجهاز التنفيذي ، اذ ظل تبادل منصب الرئيس في الولايات المتحدة يجري في سياق تبادلي معتدل دون اي إخلال إلا في فترات تاريخية استثنائية مثل فوز بوش الابن بفترة رئاسية واحدة عن الحزب الجمهوري بعد انقضاء فترة حكم الرئيس ريغان التي امتدت الي فترتين رئاسيتين.
لذا يري الاستاذ سيد الخطيب وجود سانحة مواتية للتعامل مع الادارة الجديدة بعد فوز ترامب التي ستركز في سياق سياستها الخارجية علي محاربة الاٍرهاب وعدم التورط في حروب إضافية والتركيز علي القضايا الداخلية.
مشيرا الي ان قضايا جنوب السودان والاستقرار الإقليمي ومحاربة الاٍرهاب والهجرة غير الشرعية تعتبر من المصالح المشتركة التي يمكن البناء عليها في خلق علاقات متوازنة تقف علي ارضية مشتركة من المصالح المتبادلة. وانتقد الاستاذ سيد الخطيب ما اسماه عقلية الحصار التي وصلت حدا لا تفرق فيه بين مرشحي الحزبين الجمهوري والديمقراطي علي مزاعم إنهما يمثلان وجهان لعملة واحدة وبالدارجة السودانية (احمد وحاج احمد ) وينوه الاستاذ سيد الخطيب في حديثه الي ضرورة إيلاء العلاقة مع جنوب السودان الاهمية اللازمة مناديا بأن تحظي بالأولوية في سلم ترتيب الاهمية في العلاقات الخارجية لأسباب ذاتية وموضوعية لا تقتصر علي الجوار الجغرافي فحسب بل القدر التاريخي والمصير المشترك لشعب ظل واحداموحدا رغم مرارات الحرب حتي الانفصال في العام ٢٠١١.
ونعي الاستاذ سيد الخطيب في حديثه تفويت بعض الفرص التاريخية لاصلاح العلاقة مع الولايات المتحدة لعوامل شتي أهمها تأثير السودان الإقليمي وارتباطه بالتسوية السلمية واستدامة السلام في جنوب السودان.
من جانبي اري ان الحزب الجمهوري بحكم تكوينه التاريخي يحتضن ثلاث مجموعات متحالفة وهي النخبة العسكرية ومؤسسات الأمن القومي، والرأسمالية التي تقاوم مشروع دولة الرفاه علي النمط الاوروبي التي طرحها الحزب الديمقراطي التي تقوم علي توسيع دور الحكومة بينما ينادي الجمهوريون بحكومة صغيرة محدودة السلطات
لا تتحمل اعباء دفع الخدمات الاجتماعية، و وقف او تجميد الاتفاقيات التجارية التي تزيد من نسبة البطالة داخل الولايات المتحدة وتأثيرها السالب علي طبقة العمال مثل اتفاقية (نافتا) وأخيرا مجموعة اليمين المسيحي وبقايا المحافظين الجدد.
وهذه المجموعات الثلاث المتحالفة داخل شبكة التيار المحافظ والحزب الجمهوري تتبني اجندة براغماتية مما يسهل اكثر بلورة وتشكيل اجندة مشتركة معها. خاصة وان اليمين المسيحي ظل هو الراعي الرسمي لقضية جنوب السودان داخل السياسة الامريكية بحجة الدفاع عن الكيان المسيحي الوليد في شرق افريقيا. ورغم تباعد تيار المحافظين الجدد عن حملة ترامب الانتخابية وتبنيه للخطاب الشعبوي بعد خيبات هذا التيار نتيجة لحرب العراق وافغانستان وخروج كبار مفكريه مثل فوكوياما ، الا انه لا يزال يمثل تيارا كامنا داخل التيار الجمهوري المحافظ الذي هزمته هذه الانتخابات. ومع استمرار تأثير السودان علي تحولات السياسة في المنطقة عامة وجنوب السودان خاصة فإن العلاقة مع تيار اليمين المسيحي المحافظ داخل الحزب الجمهوري يمكن ان يقود الي تفاهمات موضوعية، هذا رغم قطع المحللين ان توجهات ترامب الشعبوية قد انهكت هذا التيار وأقصته من دائرة التاثير والفعل السياسي. لذا يفرق الاستاذ سيد الخطيب بين تياري المحافظين الجدد واليمين المسيحي ولا يعتبرها وجهان لعملة واحدة لأن الاول براغماتي مصلحي والثاني مثالي مبدئي . وهذا عين ما اشار اليه البروفيسور عبد الله علي ابراهيم وهو يشير الي ان ترامب حاول اثناء حملته الانتخابية ان يتبني قضية الطبقة العاملة في امريكا بينما ركز الحزب الديمقراطي علي الطبقة الوسطي. والطبقة العاملة هي المتضررة من اتفاقيات الاعفاء الجمركي ونقل التصنيع وتقديم الخدمات الي خارج الولايات المتحدة مما يعرف بظاهرة ( أوت سورسينغ) ولعل السؤال كما طرحه البروفيسور عبد الله علي ابراهيم ليس هو لماذا فاز ترامب بل لماذا خسرت كلنتون؟
و في ظني ان اكبر اخطاء هيلاري كلنتون انها طرحت نفسها كأستمرار لإدارة اوباما بما يعني حكم المؤسسة القديمة او ( الاستابلشمنت) كما يشتم من رائحة ترشحها تكريسا لظاهرة الأسر الحاكمة فبعد بوش الأب والابن تأتي كلنتون الزوجة بعد كلنتون الزوج، وهذا الامر يلامس توترات الشعور الديمقراطي الذي يعظم من مكتسبات النظام الجمهوري لدي الشعب الامريكي الذي يقوم علي التنافس والفرز لا تكريسا لحكم الأسر السياسية التاريخية. لهذا السبب ورغم بريق كسبها السياسي التاريخي ظلت أسرة كيندي تفقد سمت مشاركتها السياسية في كل جيل تالٍ منذ اغتيال الرئيس كندي. ويقف البروفيسور عبد الله علي ابراهيم علي اهمية عنصر الجندر في السياسة الامريكية وهو يقر بأن امريكا لم تتهيأ بعد لحكم امرأة مشيرا الي موقف هيلاري الاخلاقي من اخطاء زوجها بل كلنتون اثناء حادثة التحرش الجنسي مع ليونسكي، وهو ما يخالف اخلاق الاسرة المحافظة في الثقافة الامريكية. ويري الدكتور الخضر هارون سانحة للتعامل مع الادارة بناءً علي قائمة الترشيحات الاولوية اذ ان ترشيح ميت رومني لمنصب وزير الخارجية يعكس نبرة تصالحية مع الخارج وهو ينتمي الي عقيدة المورمون وهم الاكثر استقامة وصدقية في قيمهم الحياتية مما قد ينعكس علي خياراته السياسية. ويتفق كلٌ من الدكتور الخضر هارون والأستاذ سيد الخطيب في ان قضية السودان لن تحظي بالأولوية في هرم اهتمامات الادارة، مما
يدحض مزاعم التعامل معها علي مستوي البيت الأبيض او مجلس الأمن القومي. ولهذا سيتم الاهتمام بقضية السودان علي المستوي المهني الاحترافي في وزارة الخارجية مما يتيح فرصة اكبر للمؤسسات الدبلوماسية في البلدين للتعامل المنفتح والإيجابي لخدمة المصالح المشتركة. ولعل هذه المقاربة تتفق مع المدخل التحليلي للدكتور الخضر هارون وهو يشير الي خروج السودان من دائرة اهتمامات السياسة الداخلية بعد انفصال جنوب السودان ، وربما يعزز من هذا التوجه أغلبية الحزب الجمهوري في عضوية مجلسي النواب والشيوخ . وفي ذات الشأن اكد الاستاذ سيد الخطيب ان الغرب اصبح اكثر انفتاحا للاستماع لوجهة نظر السودان بعد ان صدقت توقعاته بعد انفصال الجنوب و وقوع كل المحاذير التي نبه لها من حدوث فوضي وانزلاق البلاد في أتون حرب أهلية.
ولعل العامل الاكثر بروزا في تحليل ظاهرة فوز ترامب بسدة الرئاسة الامريكية هو النزعة الشعبوية التي مثّل ترامب ابرز تجلياتها في السياسة الامريكية.
وقد اشارت مجلة ( أتلانتك ) في عددها الصادر في مطلع يوليو من العام الجاري الي ذلك حيث رجحت كفة ترامب في الانتخابات لأنه كان يعمل ضد المؤسسة وحرس السياسة القديم و( الاستابليشمنت) لذا انبنت حملة ترامب علي مخاطبة المواقف الراديكالية للاغلبية البيضاء، والحديث عن المسكوت عنه خاصة في قضايا الأقليات والمرأة والتعدد والتنوع والهجرة وقضايا المثليين وغيرها. ويعتبر فوز ترامب هو الموجة الشعبوية في امريكا مقابل خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي (بريكزت). وقد خصصت مجلة السياسة الخارجية عددها الأخير الصادر في سبتمبر الماضي لمناقشة بروز ظاهرة ( الشعبوية) في السياسة الغربية خاصة امريكا، بريطانيا، فرنسا، هولندا وعلي نحوٍ ما في ألمانيا.
قال المحلل بروك في معهد أسبن في واشنطون معللا بروز ظاهرة الشعبوية بأنها تعبيرا عن الغضب السياسي المحتقن في اعماق البنية الاقتصادية والاجتماعية الامريكية، وجاء ترامب استجابة لموجة الغضب وهو يخاطب عواطف الراديكالية البيضاء.
في مقاله العميق في دورية ( الشئون الخارجية ) تحت عنوان ( قوارير قديمة وخمر جديد) يقول مايكل كازين ان ترامب ليس شعبويا بالمعني المتعارف عليه لكنه اول سياسي من الحزب الجمهوري يقف ضد النخب الرأسمالية ويتبني قضايا الطبقة الوسطي والشغيلة. والشعبويون في التاريخ الامريكي الحديث تبنوا القومية المدنية دون اي انحيازات مهنية او طبقية، وقد أوضح فوز ترامب بروز ظاهرة ما يسمي ( الاثنية القومية) كأحد ابرز تمظهرات تيار الشعبوية لانه يناهض تطلعات النخبة الرأسمالية وانحيازه التاريخي لمصالح الشغيلة والعمال والطبقة الوسطي. ولا شك ان ترامب سيكون وفيا لقاعدته الشعبوية ووعوده الانتخابية مما يجعل تركيزه الأكبر علي قضايا الداخل وتبني اجندة راديكالية للإصلاح الاقتصادي والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وإصلاح النظام الصحي ومراجعة الاتفاقيات الاقتصادية والتركيز اكثر علي منظمة التجارة الدولية والتعامل وفقا للمصالح المشتركة في سياسته الخارجية رغم ترجيحات اهتمامه لمحاربة الاٍرهاب.
لا شك ان العصف الذهني الذي انتظم ندوات الخرطوم خلال الاسبوعين الاخيرين حمل في طياته تحليلا راشدا وتوقعات موضوعية بناءً علي معطيات وحيثيات راجحة ، ولعل خلاصة الجدل تؤكد ان السودان ربما تنفتح أمامه أبواب الحوار الموضوعي ليس لاهميته الذاتية ولكن لدوره الإقليمي المؤثر في قضايا الاٍرهاب والهجرة والسلام الإقليمي.
ولعل الحسرات والزفرات التي أطلقها اريك ريفز في مقالاته مؤخرا وهو يتحسر علي عدم فوز كلنتون التي كانت ستعضد استمرار سياسة اوباما تجاه السودان تعني ان الكتلة المعادية للسودان فقدت الكثير من تأثيرها علي صانع القرار الامريكي في ظل ادارة جديدة تؤمن بالمصالح والتوجهات البراغماتية لا الاختيارات الاخلاقية ولعل شعار ترامب بأنه. ( لا يوجد غداء مجاني) توحي بان علي الجميع المشاركة في دفع الفاتورة، ورغم ضيق جيب السودان الا انها المعادلة الأمثل لتوجهات سياسته الخارجية. وبناء قاعدة مشتركة من المصالح المتبادلة بينهما، ولعل تحليل الدكتور الصادق بخيت لم يبعد النجعة عن مواطئة هذه الحيثيات وهو يشير الي ان ترامب عبّر عن ظاهرة جديدة في السياسة الامريكية لانه تجاوز ليس فقط المؤسسة السياسية الراسخة والحزب الجمهوري وقادته في الكونقرس فحسب بل تجاوز كل المسلمات الراسخة في التحليل السياسي غارسا راية الشعبوية في جبل الجليد الامريكي، لذا تتوفر فرصة تاريخية للتعامل مع رئيس جديد يتزن ميسم بوصلته السياسية علي المصلحة القومية الراجحة لا المواقف والشعارات الاخلاقية العابرة.

khaliddafalla@gmail.com

 

آراء