تلك الأيام في سجون نميري “الحلقة الأخيرة ” … بقلم: صدقي كبلو

 


 

صدقي كبلو
26 July, 2009

 



الفصل السادس: خاتمة
نظرة إلى الوراء ... نظرة إلى الأمام

"اليوم عندما أنظر من وراء هذه السنوات الطويلة أشعر بالسعادة والفخر بفكر تقبلته مختارا وبمنهج سلكته عن اقتناع تام وارتاع لمجرد التفكير في أنني لو لم أكن شيوعيا ماذا كنت أصبح؟" عبد الخالق محجوب، دفاع أمام المحاكم العسكرية

وأنا أنظر اليوم من وراء تلك السنوات الطويلة أسأل نفسي: هل كان كل ذلك ضروريا؟ وللوهلة الأولى قد يبدو ذلك سؤالا بسيطا إجابته بسيطة، ويتوقع البعض أن أجيب بنعم وعيني مغمضة ودون أن يرتعش لي جفن! ولكن المسألة ببساطة أنني مثل أي شخص آخر أحب حريتي وكنت أود أن أستمتع بحياتي ووقتي بشكل أختاره أنا ولم يفرض علي. صحيح أن صمودي كان ضروريا لأكون نفسي، لأدافع عنها وعن ما أرى هو صحيحا لبلدي ولشعبي ولنفسي، وان أكون منسجما مع قناعاتي الفكرية, ويبقى السؤال: لماذا اعتقل إذن؟ هل كان إعتقالي ضروريا؟ قد ترى أجهزة الأمن التي أعتقلتني ذلك فهي تحرس أنظمة ديكتاتورية ولكني لا أعتقد أن إعتقالي أو أي من رفاقي أو أي من المعتقلين الآخرين كان ضروريا، وأن نظاما لا يستطيع أن يحتمل رأينا ومعارضتنا السلمية لا يستحق أن يحكم بلادنا وشعبنا، وأن الفيصل في قضية الحكم والبرامج التي تطبق والمصالح التي تخدم ينبغي أن يكون الشعب، ولذا لا بديل للديمقراطية وإحترام الحقوق والحريات الأساسية: 
• الحق في الحرية الشخصية، بحيث لا يتعرض الشخص للإعتقال أو التوقيف أو التفتيش بدون أمر قاض أوبدون شبهة إرتكابه لجريمة محددة، يعرض فيها خلال 48 ساعة لقاضي لينظر في أمر حبسه على ذمة التحقيق، إطلاق سراحه بضمان أوبدونه، على أن يقدم لقاضيه الطبيعي، بمعنى القاضي المختص مكانيا ونوعيا قبيل إتهامه ووفقا لإجراءات القانون العامة التي يخضع لها الجميع ووفقا لقانون سائد منسجم مع الدستور ولكل مواطن في السودان الحق في حرمة حياته الشخصية والعائلية، و لا يجوز التجسس على حياته الخاصة أو فتح مراسلاته أو التصنت على محادثاته التلفونية أو أخذ صورا أو أفلام له ولعائلته دون موافقته أو بناء على أمر محكمة ذات إختصاص.
• الحق في حرية التعبير وتلقي المعلومات لأن القاعدةأن يكون لجميع الأشخاص الحق في التعبير عن آرائهم والحق في إصدار المطبوعات والصحف والنشرات والكتب، والحق في التجمع والتظاهر وتسيير المواكب السلمية وينظم القانون هذه الحقوق دون أن يتغول عليها أو يفرض على ممارستها شروطا تجعل الاستمتاع بها مستحيلا أو حكرا لفئة اجتماعية معينة.
• الحق في حرية التنظيم والتجمع لأن الأصل في الحقوق الأساسية أن يكون لجميع الأشخاص في السودان حق تنظيم وتكوين الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والنقابية والاجتماعية وعضويتها وينظم القانون هذه الحقوق دون أن يتغول عليها أو يفرض على ممارستها شروطا تجعل الاستمتاع بها مستحيلا أو حكرا لفئة اجتماعية معينة.
إن هذه الحقوق الأساسية هي جوهر الديمقراطية، بل هي جوهر حقوق الإنسان الأخرى المدنية والسياسية والإقتصادية، فبدون الحرية والحق في حرية التعبير والتنظيم تصبح الديمقراطية مزيفة وتصبح الحقوق الأخرى بلا معنى حقيقي. لقد كان هذا هو الدرس الأساسي الذي تعلمته من معتقلاتي وعبرت عنه بشكل أكاديمي في مقالتي عن حقوق الإنسان والديمقراطية في أفريقيا التي نشرتها مجلة الدراسات السياسية، المجلة العلمية حمعية العلم السياسية في بريطانيا وأعيد نشرها في كتاب ديفيد بيثام عن "السياسة وحقوق الإنسان" الذي نشرته الجمعية في عام 1995 وأصبح مرجعا هاما لطلبة العلوم السياسية في العالم.
طبعا أنا أفهم لا كما صور بعض نقادي من اليساريين الأوربيين النخصصين في الدراسات الأفريقية والذين ينصبون نفسهم عراب ومنظرين للثورة الأفريقية دون إذت من الثوريين الأفارقة، أن الديكتاتورية ومصادرة الديمقراطية هي أحد وسائل وأسلحة الصراع الطبقي، ولكن خطابي الذي يبدو محايدا وداعيا للديمقراطية وحقوق الإنسان هو أيضا سلاحا طبقيا لأنه يدعو لحقوق الجماهير وللتطور السلمي الديمقراطي للبلدان الأفريقية
الصمود الجماعي
وأنا أنظر وراء تلك السنوات لا ينتابني أي شك أن صمودي لم يكن فقط نتاجا لشجاعة أو قناعة شخصية فردية، بل كان أيضا وفي الأساس نتاج لصمود جماعي ولحركة سياسية ديمقراطية قاومت الديكتاتورية وناضلت من أجل الديمقراطية، كان في قلبها الشيوعيون والديمقراطيون ووطنيون كثيرون من قادة وأعضاء الأحزاب الأخرى والذين ذكرت معظم من عاصرتهم في هذه المذكرات ونسيت عددا كبيرا بفعل الزمن والإعتماد على الذاكرة بعد أكثر من ثلاثين عاما من أول إعتقال.
لقد أستطاع الشيوعيون والديمقراطيون تحديدا في المعتقلات أن يأسسو حياة رفاقية تعاونية في مجال معيشتهم، فلم يكن الفقير منهم يحس بأي تفاوت في مستوى معيشته وفي تناوله للمكيفات، فقد كان الكميون يتكفل بخدمة الجميع. كما تعلم الشيوعيون كيف يخدمون بعضهم في ورديات لم يتذمر أحد منهم في القيام بدوره وكان حتى كبار السن يرفضون غعفائهم وكنا نتحايل عليهم بأن نضعهم في ورديات الشباب النشطين.
كما أستطاع الشيوعيون والديمقراطيون جعل السجن جامعات للماركسية والمعارف الإنسانية وحقول للثقافة وتبادل المعرفة والتسلية الذكية المطورة للمواهب الفنية والأدبية، فكم من فنان وأديب كشفت السجون عن مواهبهم.
وكما أوضحنا فقد حفلت المعتقلات بالرياضة من يوقا وكرة طائرة وكرة قدم وجري ومشي، وحفلت بالرياضة الذهنية مثل الشطرنج والويست والكنكان,
وقد ساعد كل ذلك في الصمود الفردي والجماعي وقد لعب بعض المعتقلين أدوار بارزة في ذلك مثل الأستاذ المهندس صديق يوسف منظم أكبر معتقل في تاريخ السودان المرحوم عباس علي والمرحوم عبد الكريم ميرغني والمرحوم السر أحمد البشير والمرحوم صلاح مازري والمرحوم قاسم أمين والمرحوم عبد المجيد شكاك والمرحوم مصطفى أحمد الذين نقاوا التجربة للشباب وما بخلو. والدكتور خالد حسن التوم والمرحوم بدر الدين مدثر وفاروق كدودة وخليل الياس من قادة المعتقلات ومفاوضي سلطات السجن والأساتذة عبدالله علي إبراهيم وعبد القادر الرفاعي ابراهيم الجزولي وجمعة جابر وكمال الجزولي والسر الناطق وياسر الطيب وحسن قسم السيد وسعودي دراج وعلي العسيلات وميرغني عطا المنان والتجاني حسن من محرري مجلات المعتقل ومخرجي المسرحيات والأسكنشات وكاتبيها. والأساتذة محمد وردي ومحمد الأمين وإدريس إبراهيم من الفنانين وكذلك المرحوم طه البصير والمرحوم حسن بيومي وعوض عبد المجيد وحسن إبراهيم ومحجوب داؤد وعبدالرؤوف علي أبنعوف من منظمي الكميونات ومسئوليها, وكان العم محمد عبد الغفار في عدد من المعتقلات إتحادا كاملا لكرة القدم ومشجعا مدهشا وساخرا يضحك الجميع. وغيرهم كثيرون من أبطال العمل الثقافي مثل الدكتور مراد وإبراهيم جادالله والخاتم عدلان وهناك أناس كان المعتقل بدونهم سيكون ثقيلاً وذلك لقدرتهم على الحكي والدردشة والنكتة مثل عمر الدوش الشاعر المبدع، وخليل ألياس وعلي الكنين وكسباوي ومحمد ميرغني نقد وحسن قسم الله ومحمد عثمان طه ودكتور حزمر وهاشم سوركتي ومحمد مراد.
ولم يكن صمود المعتقلين ممكنا بدون دعم أسرهم ولم يعرف تاريخ المعتقلات أيام نميري غير حوادث لا تتجاوز عدد أصابع اليد بأسر ضغطت على أفرادها في المعتقل أو طلبت منهم التخلي عن الطلريق الذي أختاروه، بل أن الأسر كانت تستقطع من لقمة عيشها لتوفر للمعتقلين بعض الضروريات، بل أحيانا كثيرا من الكماليات. ولم تكتف الأسر بكل ذلك بل نظمت حملات مطالبة مسنودة بالحزب الشيوعي والإتحاد النسائي لإطلاق سراح المعتقلين.
التضامن الأممي والدولي: 
ووجد المعتقلون دعما وتضامنا أمميا واسعا من الأحزاب الشيوعية والإشتراكية والليبرالية ومن النقابات والإتحاد العالمي للنقابات والإتحاد الديمقراطي العالمي للشباب والإتحاد الطلابي العالمي، وكثير من المنظمات الوطنية والعالمية.
وكان دعم منظمات حقوق الإنسان العالمية دعما نوعيا مغايرا في خطابه وأسبابه وأهدافه وتأتي في مقدمة هذه المنظمات منظمة آمنستي العالمية التي لم تكتفي بتبني المعتقلين كسجناء رأي، بل ساهمت في علاجهم وفي دعم أسرهم.
نظرة إلى المستقبل:
أكتب كل هذا وعيني على مستقبل ديمقراطي تحترم فيه حقوق الإنسان، فنحن على أعتاب لآخر عهود الديكتاتوريات وأكثرها بشاعة، ولكني كلي أمل في المستقبل وعلى إستعداد لتقديم تضحيات أكثر من أجل مستقبل تحترم فيه الحقوق الأساسية وتتخلل الديمقراطية كل خلايا مجتمعه.
وأملي في أجيال جديدة حملت راية الكفاح ضد اليكتاتورية العسكرية للجبهة الإسلامية وهدفي أن أنقل لها تجربة من الماضي، فهل بلغت؟



 



 

 

آراء