تلك الأيام في سجون نميري “14” … بقلم: صدقي كبلو
29 June, 2009
ذكريات معتقل سياسي 1971-1983
الاعتقال الخامس والأخير
بعد أيام من إطلاق سراحي قررت الذهاب لمجلس الأبحاث الإقتصادية والإجتماعية حيث ألتحقت بالعمل قبل إعتقالي بأيام لأحي الزملاء بالمجلس ودخلت فوجدت الدكتور إبراهيم حسن عبد الجليل وبعد أن رحب بي وطلب لي شايا، قال لي متى تنوي الرجوع للعمل، فسألته هل جاءكم أي إخطار بإرجاعي للعمل فأجاب بدون تردد: نحن لانحتاج لإخطار فقرار إرجاعكم للعمل قد أذيع في التلفزيون والراديو ونشر بالصحف ثم نادى على سكرتيرته فوزية زيدان: يا فوزية شوفي لي أي جريدة فيها قرار النائب الأول بإطلاق سراح ناس صدقي وعودتهم للعمل، وكان أن جاءت فوزية بالجريدة فقال لها، ضعيها في فايل صدقي وأكتبي للأمانة العامة للمجلس (يقصد المجلس القومي للبحوث) وأخطريهم أن صدقي قد رجع للعمل منذ اليوم. ثم ألتفت لي هل تريد بعض أيام لترتيب أمورك فقلت أبدأ يوم السبت. فكان أن عدت للعمل. ولم يكتف البروفسير إبراهيم بذلك بل ساعد في أن أصرف متأخرات مرتبي كاملة مما ساعد في زواجي بعد شهرين فقط من إطلاق سراحي.
وكان بالمجلس وقتها فريقا من الباحثين ومساعدي الباحثين يتكون من الدكتور صديق التجاني المرضي، والأستاذ عبد الرحيم الريح وهو من الجمهوريين وقد كان له فضل أن ألتقي بالأستاذ محمود محمد طه وجها لوجه أمام منزله بالثورة حيث كنا نأتي بعربة أستاجرناه لإجراء بحث ميداني عن مصانع الفطاع العام لنأخذ عبدالرحيم من منزل الأستاذ في الصباح وذات مرة خرج الأستاذ مع عبدالرحيم لتحيتنا وأن يدعونا لمجلسه ولكن إعتقالي الأخير حال دون تلبية تلك الدعوة الكريمة وقد حدث بعد أيام قليلة منها.
وكان من بين الباحثين الأستاذ محمد عبد العال والأستاذ مصطفى عبدالرحمن والأستاذ حسين ميرغني والأستاذ حيدر العوض والأستاذ محمد هارون والأستاذ محمد أدهم علي والأستاذ عباس يونس والأستاذ ميرغني كدفور والأستاذة سامية الهادي النقر والأستاذ صلاح حاج الصافي و كانت الأخت مديحة أمينة للمكتبة والأخت فوزية زيدان سكرتيرة والأخوات محاسن وآمال وزينب في الطباعة. كان تيما منسجما وتسود بينه علاقات عمل ودية وتعاون أكاديمي وإجتماعي. وكان هناك أيضا عدد من مبعوثي المجلس بالخارج من بينهم الأساتذة محمد ميرغني عبدالسلام وحسن جاد كريم وعاطف صغيرون.
وشاركت عبد الرحيم الريح ومحمد عبد العال وحيدر العوض المكتب. وسرعان ما كلفت بواجبات بحثية من بينها مساعدة عبدالرحيم الريح في بحث عن القطاع العام كانت تموله مؤسسة كندية، وكلفت بمتابعة طباعة كتاب بدار النشر كان قد حرره الدكتور علي عبد القادر وكيدمان (من منظمة العمل الدولية) وقد أدى ذلك لتعرفي عن قرب على الراحل البروفسير علي المك الذي كان مديرا لدار نشر جامعة الخرطوم التي كانت تطبع الكتاب. وشاركت مصطفى عبدالرحمن في التحضير للسمنار الأسبوعي. وتقدمت بمشروع بحثي لدراسة ردود فعل المزارعين التقليديين في كردفان للتغيرات في أسعار الحبوب الزيتية وقد أستعملت نتائج ذلك البحث لكتابة رسالتي للماجستير كما سيرد لاحقا، كما قدمت ورقة بحثية عن "فائض القيمة في الصناعة التحويلية السودانية" أثارت مناقشة ثرة في سمنار المجلس الأسبوعي. وكانت فترة عملي بالمجلس والتي امتدت لأربعة عشرة شهرا من الفترات الغنية في حياتي الأكاديمية فإلى جانب عملي البحثي فقد شاركت في التدريس في جامعة الخرطوم وهي أحد متطلبات المجلس الذي يطلب من باحثيه ومساعدي الباحثين الحفاظ على علاقة مع المؤسسات الأكاديمية للحفاظ على وتطوير معارفهم الأكاديمية ونقلهم بعض نتائج بحوثهم وبحوث زملائهم للطلاب وتلك من السياسات الحصيفة وكان المجلس أيضا يوكل لبعض أساتذة الجامعة قيادة بعض الفرق البحثية بالمجلس أو الإشتراك في فرق البحوث القائمة وكان يحدد عدد من المنح لطلاب الماجستير والدكتوراة بشرط أن يكون في تحضيرهم مكون بحثي يوافق عليه المجلس.
لقد بدأ البحث العلمي الحديث في السودان (وهذا لتفرقته عن البحث العلمي التقليدي الذي عرفه المجتمع السوداني منذ قديم العصور مثل تجارب العطارين) في عام 1900 عندما أنشأت الإدارة الإستعمارية وحدة الكرنتينة البيطرية وأتبعتها لمصلحة البيطرة العسكرية والتي كانت تقوم بدراسة أمراض الحيوانات وأوبئتها خاصة الطاعون البقري.
وفي 1902 تم إنشاء معمل ويلكم للأبحاث والذي كان يبحث في الأوبئة والحشرات التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات وكانت تهتم بأبحاث البلهارسيا بشكل خاص. وفي عام 1904 أنشأت أول وحدة للأبحاث الزراعية وألحقت بمصلحة المعارف في عام 1912 وفي عام 1919 تحولت وحدة الأبحاث الزراعية لتصبح مصلحة للزراعة وكانت مهامها محصورة في الحفاظ على جودة المحاصيل وحمايتها من الآفات الزراعية.
وكان إنشاء مدرسة كتشنر الطبية (التي أصبحت كلية الطب فيما بعد) في عام 1924 وإنشاء مدرستي الزراعة والطب البيطري عام 1938 يشكل قفزة نوعية في مجال البحث العلمي، وقد ظلت بحوث هذه المدارس التي أصبحت جزءا من كلية الخرطوم الجامعية وجامعة الخرطوم فيما بعد تمثل إنجازا علميا حتى على المستوى العالمي (مثل أبحاث البروفسير النذير دفع الله في مجال البيطرة). ولقد ادى التطور اللاحق للجامعة مثل إنشاء شعبة الجيلوجيا وشعبة أبحاث السودان (التي تحولت لمعهد الدراسات الأفروآسيوية ) وإنشاء كلية الدراسات العليا ومركز أبحاث التربة والمباني والطرق ألخ. وفي الحقيقة ظلت جامعة الخرطوم تنهض بمهام البحث العلمي إلى جانب الأبحاث الزراعية والأبحاث البيطرية (اللتين كانتا يتبعان لوزارة الزراعة والثروة الحيوانية) ومصلحة المساحة والجيلوجيا وقسم الأبحاث بوزارة المالية وقسم البحوث ببنك السودان حتى قيام المجلس القومي للبحوث.
أنشأ المجلس القومي للبحوث كجهاز مستقل في يونيو عام 1970 رغم أن قانونه كان قد نشر في الغازيتة الرسمية عام 1968. ولعب المرحوم البروفسير السماني عبدالله يعقوب دورا كبيرا في تأسيسه. وفي أكتوبر سنة 1971 عدل قانون المجلس ليتم ضمه لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي وعندما حلت الوزارة، عدل القانون وصدر قانون المجلس القومي للبحوث ولوائحه عام 1973 يرأسه رئبس في درجة وزير ويتبع مباشرة لرئيس الجمهورية وأمانة عامة تدير العمل اليومي، وكان أول رئيس للمجلس هو البروفسير النذير دفع الله وخلفه السيد وديع حبشي ثم البروفسير أحمد عبد الرحمن العاقب، وتولى الأمانة البروفسير السماني عبدالله يعقوب ثم خلفه البروفسير عبد الرحمن أحمد العاقب (وهو خلاف أحمد عبد الرحمن)، ثم البروفسير عبدالرحمن الخضر ثم البروفسير سعد عبادي الذي أصبح رئيسا للمجلس وخلفه البروفسير مهدي أمين التوم.
كان المجلس يتكون من معهد دراسات طب المناطق الحارة وتتبعه مستشفى خاص بطب المناطق الحارة تديره وزارة الصحة ومعهد لعلوم البحار ببورتسودان ومجلس للأبحاث الإقتصادية والإجتماعية ومعهد للطاقة الشمسية ومعهد للأعشاب الطبية والعطرية، ثم اضيف لهم مجلس لأبحاث العلوم والتكنلوجيا.
ويمكن القول دون مجاملة أن المجلس القومي للبحوث قد أنشأه في الواقع الراحل البروفسير السماني عبدالله يعقوب، وكان مؤسسة ممتازة وكانت تتطور باستمرار حتى إعتدى عليها نظام الجبهة الإسلامية فحجمها وتخلص من خيرة الباحثين فيها وهجرها الآخرون لأن البحث العلمي لا يتطور في ظل مصادرة الحرية الأكاديمية، وتلك صفة حافظ عليها المجلس خلال حكم نميري بفضل أناس عظام مثل الراحل وديع حبشي والراحل البروفسيرالنذير دفع الله والراحل البروفسيرالسماني عبدالله يعقوب والبروفسيرعلي محمد الحسن والبروفسير إبراهيم حسن عبدالجليل والبروفسير سعد عبادي والبروفسيرعبدالرحمن أحمد العاقب والبروفسيرأحمد عبدالرحمن العاقب والبروفسير عبدالغفار محمد أحمد.وخلال تلك الفترة أديت الإمتحان الكتابي للماجستير ونجحت فيه، رغم أنه كان بعد شهور قليلة من خروجي للمعتقل وكنت قد تسجلت للماجستير قبل دخولي المعتقل، مما جعلني أهتم إلى جانب مهامي البحثية الأخرى بأن أبدأ في الإستعداد لتكملة الجزء الثاني وهو تقديم بحث عن"ردود فعل المزارعين في كردفان للمتغيرات في أسعار الحبوب الزيتية" وقد مول مجلس الأبحاث الإقتصادية دراستي الميدانية التي شملت أسواق المحاصيل الزيتية في الأبيض، النهود، الرهد، وأم روابة. وكان يشرف على رسالتي البروفسير علي عبدالقادر، رغم أنتقاله حينها لجامعة الجزيرة. وقد واصل البروفسير علي إشرافه حتى بعد إعتقالي وكنت عندما تم إعتقالي في يوليو 1979 قد عدت من العمل الميداني وبدأت تحليل المعلومات بكمبيوتر الجامعة، وقد أكملت كتابة بحثي بالمعتقل وكنت أرسل فصلا بعد فصل للبروفسير علي الذي كان يصححها ويرسل تعليقاته لي في المعتقل وكان الصديق العزيز عبدالله عباس بجامعة الخرطوم يقوم بطباعتها والصديق عباس شريف مدير الإدارة بمجلس الأبحاث الإقتصادية يتابع الطباعة.
أما على المستوى الشخصي فقد تزوجت للمرة الأولى من السيدة إعتماد بابكر الرشيد وقد أعتقلت من مستشفى الخرطوم بحري عندما كنت أزورها نهار الجمعة بعد مضاعفات حدثت لها بعد ولادتها لطفلتنا فدوى وقد تم طلاقنا بطلب منها أثناء وجودي بسجن بورتسودان.
أما على المستوى الحزبي فكانت هذه الفترة من أفقر فترات حياتي الحزبية وأذكر أنني وقد كنت أستعد للسفر لكردفان أن جاءتني رسالة بأن الزميل الراحل الجزولي سعيد يريد لقائي في نفس اليوم، ولعل الصدفة وحدها هي التي جعلتني ألقاه إذ أنني لم ألحق الطائرة فقد جاءتني عربة المجلس متأخرة. وكان لقاءاً عاصفا فقد جاء الراحل الجزولي ومعه الأخ مختار عبدالله وناقشوا معي قضية علاقتنا مع الراحل خضر نصر وعلاقة الزميل إبراهيم حامد معه، فقلت له ما أعتقد أنه صحيح، بأننا في سكرتارية أم درمان حتى إعتقالي في يناير 1977 لم نكن نتصرف بوحي من الراحل خضر نصر، بل أننا كنا دائما ننتقد المديرية وطريقة عملها السلحفائية وأن ما أتخذناه من قرارات حول إصدار بيانات وكتابة شعارات كان مستمدا من فهمنا لدورة يونيو 1975 حول دور فرع الحزب كما قدمها لنا الزميل نقد، ولكن حديثي لم يعجب الزميل الجزولي فقال لي أنني متضامن مع إبراهيم حامد وأنهم لن يتركوه.
ولكني رغم بعدي الحزبي قد ساهمت مع آخرين في مكان سكني، أمبدة شمال التي رحلت لها بعد زواجي، في إنشاء جمعية خيرية وفي دعم الجمعية التعاونية وفي مناهضة فرع الإتحاد الإشتراكي والمجلس الشعبي وخلق رأي عام ضدهم، وفتحنا منزلنا لإجتماعات فرع المعلمين الذي كانت زوجتي حينها عضوا به مما أدخلني في أول صدام أسري مع أحد أخوان زوجتي الأولى.
قلت لقد أعتقلت أثناء زيارتي لزوجتي السابقة في المستشفى بعد مضاعفات حدثت لها بعد الولادة، وكانت قد ولدت بمستشفى سوبا الجامعي وخرجت بالمنزل، ثم حدثت لها بعض المضاعفات، فبدلا من أخذها لمستشفى أم درمان أخذتها لمستشفى بحري حيث كان اصدقائي الأطباء عمر النجيب وعثمان حسن موسى والسر عثمان (الشهير بالسر طاحونة) وحمودة فتح الرحمن يعملون بذلك المستشفى، وأثناء وجودها هناك أضرب الأطباء وأعتقلت السلطات بعض الأطباء ومن بينهم الدكتور حمودة فتح الرحمن والدكتور عمر النجيب، وكنت أحضر من العمل لمنزلنا في أم درمان حيث أحمل الطعام للمستشفى وأذهب لميز الأطباء لأخذ نومة قصيرة ثم أعود للمستشفى وأرجع لأمبدة لأعتني بفدوى التي تكون طوال النهار تحت رعاية خالتيها إلهام (سوزوكي) وصديقة بابكر الرشيد، وهكذا. وفي يوم الخميس السابق للإعتقال تمت مداهمة الميز بواسطة الأمن وتعرف علي أحد ضباط الأمن وتركني أذهب وفي اليوم التالي أعتقلت من داخل غرفة المريضة وكنت أحمل فدوى التي أتينا بها لأمها لتراها وترضعها.
وأخذت لجهاز الأمن حيث سألت عن سبب وجودي بالمستشفى فحدثتهم عن السبب فسألوني لماذا أتيت بزوجتك لبحري، فقلت لهم السبب ولكنهم قالوا أن وجود زوجتي كان تغطية لتنظيم إضراب الأطباء فقلت له أن الجمعية الطبية أسست في العام الذي ولدت فيه فهل يحتاج الأطباء لمثلي لتنظيمهم وقرروا ارسالي لكوبر وعندما طلب مني صعود العربة طلبت الذهاب للحمام حيث أخفيت (أمنت بلغة المعتقلين) قلما في ملابسي الداخلية لأن عهدي بكوبر أن الأقلام كانت ممنوعة.
وكان هذا هو الإعتقال الوحيد الذي كنت أشعر دائما بأنه تم لوجودي في المكان الخطأ في الزمان الخطأ والذي أعتمد على تاريخي السابق وليس على حقيقة ما كنت أقوم به.
النصف الثاني من 1979 والوضع السياسي في السودان والمنطقة الأفريقية والعربية
شهد النصف الثاني من عام 1979 نهوضا في الحركة الجماهيرية في السودان، لربما كان إجتماع مجالس النقابات في 16/6/1979 أحد أهم سمات تجلياته وتبع ذلك نهوض في حركة المعلمين خاصة وسط معلمي الأوليات وتحركت قواعد السكة حديد وحاصرت قيادة النقابة التي كان على رأسها عباس الخضر حتى أعلنت الإضراب في 11/8/1979 وإضراب مزارعي الجزيرة وشهد شهر أغسطس مظاهرات طلاب ثانويات وجامعات.
وكان نميري قد نفذ في نفس الشهر (17 أغسطس 1979) أحد إنقلابات القصر وأقصى نائبه الأول أبو القاسم محمد إبراهيم وعين عبد الماجد حامد خليل في مكانه وعين بدرالدين سليمان وزيرا للمالية وحسن عبدالله الترابي نائبا عاما.
وفي المنطقة العربية قام صدام حسين بإنقلاب قصر في 16 يوليو أطاح فيه بأحمد حسن البكر عندما أجبره على الإستقالة وكان الأخير يجري مفاوضات لتوحيد البعث العراقي والسوري وتوحيد القطرين العراقي والسوري، وكان مشروع البكر يلقى تأييدا واسعا لدى القيادة القطرية العراقية، وقام صدام بعد الإطاحة بالبكر بإعتقال أكثر من ستين عضوا من القيادة القطرية العراقية وتم إعدام 22 منهم فيما بعد.
أما في المنطقة الأفريقية فقد شهد النصف الثاني من 1979 بداية النهاية للنظام العنصري في روديسيا الجنوبية بتوقيع إتفاقية لا نكستر هاوس والتي قررت إنتخابات عامة تجرى في فبراير 1980 تؤدي لحكم الأعلبية.
وكما سيرد فقد سلم الجنرال أوبسانقو الحكم للمدنيين في أكتوبر 1979. وفقدت أفريقيا أحد أهم قيادات حركة التحرر الوطني، لرئيس أوغستينو نيتو. ولد انطونيو أغستينو نيتو في 17 سبمتمبر 1922 في قرية كاتيتي بمقاطعة بينغو ودرس بالعاصمة لواندا ثم أصبح قسيسا، ثم رحل للبرتغال حيث درس الطب وفي جامعتي كنيمبرا وليشبونة واعتقله البوليس السري البرتغالي في عام 1951 لنشاطه من أجل إستقلال أنجولا وأطلق سراحه في عام 1958 حيث كمل دراسته وتزوج ماريا أيقونيا دي سليفيا وعاد لأنجولا عام 1959 عندما قام بتأسيس الحركة الشعبية لتحرير أنقولا بإندماج الحزب الشيوعي الأنجولي وحزب النضال الأفريقي الأنجولي. وقد أعادت السلطات البرتغالية إعتقال الدكتور نيتو في يونيو 1960 مما قاد لمظاهرات عارمة ضد السلطات االبرتغالية مما أدى لنفي أوغستينو نيتو لجزر الرأس الأخضر ومن ثم نقله للسجن في البرتغال حيث أشتدت الحملة العالمية لإطلاق سراحه فوضع في الحبس المنزلي في لشبونة وهرب إلى المغرب ثم الكونغو حيث بدأ حرب التحرير والتي أنتصرت بإنهيار نظام سالازار في عام 1975 . وأصبح رئيسا لأنجولا عند إستقلالها في 1975 وظل رئيسا حتى وفاته في 10 سبتمبر 1979.
أستقبلت في سجن كوبر بحفاوة من قبل الضباط وصف الضباط والجنود باعتباري زبون قديم، واخذت على الفور لقسم الشرقيات حيث وجدت عدد من المعتقلين من قيادات العمال وفي مقدمتهم علي الماحي السخي (رئيس نقابة عمال المسبك المركزي) ومختار عبدالله (نقابي سابق بمصنع النسيج السوداني) والفاتح الرشيد (الشهير بالفاتح المواطن، من النسيج السوداني)) وميرغني عطا المنان (حلويات ريا) وعبد الفتاح الرفاعي (سكرتيرنقابة عمال كوبتريد الهندسية) وسليم أبو شوشة (مصنع النسيج الياباني)، وعلي إدريس (الأشغال)، وجون دوك (باتا) وعلي محمد أحمد العسيلات (اسكة حديد الخرطوم) ومحمد السيد ( نقابة عمال الحكومات المحلية) وأحمد محمد الأمين (نائب رئيس وقابة المنتوجات الغذائية) . وكان هؤلاء القادة النقابيون قد حضروا إجتماعا لمجالس الإدارات لإتحاد نقابات عمال السودان وتحدوا المجموعة المايوية الإنتهازية، وكان ذلك احد تعابير نهوض حركة جماهيرية بعد المصالحة الوطنية، وتصدى جهاز الأمن بالقمع والإعتقال للشيوعيين والديمقراطيين الذين كانوا في قيادة الحركة الجماهيرية الناهضة.
وكانت دهشتي كبيرة عندما وجدت أن المعتقل ملئ بالورق والأقلام مما يعني أن جهدي لتأمين قلم كان دون جدوى وعرفت لحظتها أن هذا إعتقال سيطول، وبدأت إستعدادا نفسيا وعمليا لأعتقال طويل.
وكان أول ما فعلت أن أستلقيت على سريري بمجرد تحيتي للزملاء ونمت نوما عميقا ولم أصح إلا بعد أن ايقظني الرفاق للغذاء وكان بعض الرفاق يضحكون علي ويقولون أنني جئت في بعثة نوم، وفي الحقيقة كنت مرهقا فقد كانت الأيام الأخيرة قبل الإعتقال جد مرهقة فقد كنت أذهب للعمل بالمجلس وأقوم بالعمل الروتيني وعملي البحثي في دراسة القطاع العام وعملي البحثي الخاص بالماجستير والذي كنت قد أنهيت عمله الميداني بكردفان يرحلة طويلة مضنية شملت النهود والأبيض والرهد وأم روابة، ثم عدت لتلزم زوجتي السابقة مستشفى سوبا وأذهب لزيارتها يوميا وأعود لأمبدة ثم التحضير للسماية بعد الخروج من المستشفى ثم الدخول للمستشفى مرة أخرى في بحري والرحلة من أمبدة للعمل ثم لأمدرمان لإحضار الطعام ثم العودة لأمدرمان للسهر مع طفلتي فدوى مع محاولة بدء الكتابة في المسح النظري لبحث الماجستير وهكذا حتى إعتقالي.
وسعدت في الأيام الأولى بمشاركة زميلين الزنزانة وهما الدكتور الراحل بشير ألياس أخصائي الأنف والأذن والحنجرة والقيادي حينها بنقابة الأطباء وكان رجلا مرحا وظريفا وشجاعا وقد تعرفت عليه قبل الإعتقال بوقت قليل في منزل آل تابر نسابة الدكتور حمودة فتح الرحمن الذي أقام حفلا جميلا للمعتقلين الذين أطلق سراحهم في مايو 1978 بعد ما سمي بالمصالحة الوطنية، وكان الراحل بشير ألياس طبيبا إنسانا يفتح عيادته للرفاق والفقراء وكان نقابيا فذا ومثقفا وطنيا يهتم بقضايا التحول الديمقراطي وتطوير الخدمات الصحية.
أما الشخص الثاني الذي زاملني في الزنزانة فكان صديقي الدكتور عمر النجيب والذي تعرفت عليه للمرة الأولى في جامعة الخرطوم عام 1973 ثم قضينا فترة في المعتقل بعد إعتقاله في مظاهرة يوبيل كلية الطب في يناير 1974، ثم صحبني لجبال النوبة ضمن فريق البحث الذي جمع المعلومات لبحث الدكتور خالد عفان للتحضير لرسالته عن العمالة والدخول في الزراعة الآلية وكان وقتها موقوفا عن الدراسة بكلية الطب لأسباب سياسية وكان أحد الأطباء المسئولين عن علاج زوجتي السابقة.
ولم يبق رفيقاي في المعتقل كثيرا فنقابة الأطباء مارست ضغوطا على السلطة لإطلاق سراحهما. ومات الرفيق الطبيب الإنسان الدكتور بشير ألياس دون أن التقيه مرة أخرى فجأة عندما كان في زيارة لصديقه الشيخ كنيش!
قلنا أن حملة الإعتقال قد بدأت بعد إجتماع مجالس إدارات النقابات العمالية في 16/6/1979 وتوالت الإعتقالات خلال شهر يويو 1979 وأعتقل سليمان هباش والشيخ البلولة من المعلمين ونادر محمدالأمين (مهندس بسركيس أزمريليان).
ولكن المعتقل بدأ في النمو منذ الثاني من أغسطس 1979 فكان لا يمر يوم إلا ويأتي وافد جديد حتى إمتلأت الشرقيات والمديرية والكرنتينات والمعاملة وشملت الإعتقالات الشيوعيين والديمقراطين في كل السودان بتوجيه مباشر من جعفر نميري وكانت الإعتقالات واسعة بحيث شملت أكثر من 500 معتقل في كل السودان وكان نصيب الخرطوم منهم 120 معتقل
وكان من بين المعتقلين في الشرقيات سليمان حامد، يوسف حسين، محجوب عثمان ومحجوب داؤود والدكتور محمد مراد وعبدالمنعم سلمان وكمال الجزولي وعلي العسيلات وسليمان هباش والتجاني حسن إدريس وإسماعيل راسخ ومحمد أحمد طه وبدرالدين عبدالتام ومحمد سليمان كرور ومحمد الحسن شالنتوت و محمد احمد جادين ويوسف همت وعمر مهاجر وأحمد حمزة وأحمد الطيب وعزالدين الطيب.
وكانت ترد لنا اسماء معتقلين في اقسام الكرنتينة ب ، ج والمديرية وكان بين المعتقلين سعودي دراج، محجوب سيدأحمد، محمد خلف الله، عبدالقادر الرفاعي، ابن إدريس تابر، حسن قسم الله، عبد القادر شبر، عبدالجليل كرومة، حسن بيومي، ابراهيم بصيلي، أحمد حبيب، عوض عبد المجيد، عبدالرحمن سالنتود، أحمد علي دليل، محمد عثمان فوكس، عباس محمد إدريس، سيداحمد سمعريت وعثمان الخضر.
آمنستي إنترناشونال ترسل لي رسالة في المعتقل
يفتح السجن في السادسة صباحا بتمام ويقفل في الرابعة ظهرا بتمام آخر وفي أحد الأيام عند مواعيد قفل السجن حمل لي أحد الضباط رسالة من فرع منظمة العفو الدولية ببروكسل في بلجيكا. وكانت الرسالة بسيطة وواضحة المضمون تقول أنهم عرفوا بإعتقالي من بعض الأصدقاء وتسأل الرسالة عن حالي ومن هم المعتقلون معي وكيف يمكن للمجموعة مساعدتي. كانت الرسالة مفاجأة لي فأبلغت لجنة المعتقل وقام صديقي الأستاذ يوسف حسين بترجمتها وكتابتها على سبورة مبنية على حائط الزنازين الشرقية، واحتفلنا يومها ووزع مسئول الكميون سيجارة إضافية للمدخنين من المعتقلين وكويا من الشاي لكل معتقل فقد كان الشعور العام للمعتقلين سعادة فائقة بالتضامن. إن كل شخص مهما كان شجاعا ومقتنعا بما يفعل يحتاج للتضامن ولمن يمسك بيده في ظروف محنته. وقد ولدت تلك الرسالة في شعور عميق بالإعجاب بنشطاء حقوق الإنسان، أولئك الناس الذين أولوا على أنفسهم الدفاع عن حقوق إنسان لا يعرفونه وقد يكون مختلفا معهم في الرأي والهوية. وعاهدت نفسي حينذاك أن أتحمل مسئوليتي الشخصية في الدفاع عن حقوق الإنسان.
وكان من بين المعتقلين في أعسطس 1979 العم قاسم أمين العائد لتوه من الخارج بعد رحلة علاج بعد إعتقاله السابق الذي أمتد من عام 1974 إلى مايو 1978. ,اعتقل قاسم أمين في أغسطس ولكنه أصيب بالشلل في 1/9/1979 ولم يتم نقله للمستشفى العسكري إلا في يوم 3/9/1979 ومن ثم سمح له بالسفر للخارج للعلاج ولكنه توفى في براغ ونقل جسمانه للخرطوم بحري وقد صحب الجثمان الاحل عم الدوش ودفن بمقابر حلة خوجلي في موكب رهيب خاطبه الأستاذ محجوب عثمان وصلى عليه المرحوم الخليفة أحمد خليفة الشيخ خوجلي ابو الجاز.