تلك الأيام في سجون نميري 17 … بقلم: صدقي كبلو
20 July, 2009
صدقي كبلو
ذكريات معتقل سياسي 1971-1983
طلبنا نقل محمد علي سعيد لنا
كان النقابي محمد علي سعيد من نقابيي السكة حديد معتقل بقسم مختلف في بورتسودان وكنا نمر عليه خروجا أو دخولاً لقسمنا وكان يؤلمنا وجوده لوحده وكنا نعرف عنه أنه حينها كان من أنصار الشريف حسين الهندي، وعندما توفى الشريف طلبنا من إدارة السجن أن ينقلوه لقسمنا موضحين لهم خطورة وجوده لوحده وكان كبيرا في العمر في ظروف حزنه على الشريف حسين، وأستجابت سلطات السجن مشكورة. وعند حضوره أقمنا تأبينا للشريف حسين مما خفف عليه كثيراً.
التركين والقراصة في السجن
ولعل من ذكريات فترة المعتقل البارزة تلك، الزيارة التي قامت بها عائلة عباس وهبة والعقيد جريس للسجن يوم جمعة في الصباح الباكر عندما جاءوا بالتركين وبدأوا تجهيز القراصة الحارة في منزل الأستاذ عبيدي ناظر بورتسودان الثانوية القريب من السجن، ويتم مواصلة ارسال القراصة الحارة السخنة على دفعات ونحن في العنابر نتناول التركين بالبصل والشطة والليمون. وبالنسبة لي كانت تجربة فريدة، فلم أكل التركين من قبل، ولكني أحببته منذ تلك التجربة وأصبحت دائما أسأل أصدقائي من أهل الشمال (محس وسكوت ودناقلة وحلفاويين) ما عندكم تركين؟
إنقلاب القصر الأخير 1982
تميز نظام نميري منذ أكتوبر 1969 بتدبير إنقلابات داخلية تغير ميزان القوى في تركيب سلطته بإستبعاد كل من يتحدى سلطته الشخصية أو يهدد إستقرار تلك السلطة من داخلها. كان إنقلاب القصر الأول عندما أبعد بابكر عوض الله العقل المدبر لإنقلاب 25 مايو مع فاروق حمدالله في أكتوبر 1969 من رئاسة مجلس الوزراء. ثم إنقلاب 16 نوفمبر 1970 الذي أبعد فيه الثلاثي اليساري بابكر النور، هاشم العطا وفاروق حمدالله. ثم إنقلاب القصر ضد أبوالقسم محمد إبراهيم في أغسطس 1979 بعد أن قدم أبو القاسم بعض التنازلات لإضرابي السكة الحديد ومزارعي الجزيرة في يوليو 1979.
ولكن إنقلاب القصر الأخير الذي قاده نميري كان في يناير 1982 بعد أن قبل نميري مزيد من شروط الصندوق وأعلن بنفسه 18 إجراءا فيما سماه الإصلاح المالي والإقتصادي في نوفمبر 1981 مما أدى لمظاهرات طلابية بدأت في الخرطوم ثم أنتشرت في المدن والأقاليم الأخرى. وأستمرت الإضطرابات غرابة الشهرين، مما دفع نميري لدعوة كل قيادات الإتحاد الإشتراكي والسلطة التنفيذية معلنا حل الإتحاد الاٌشتراكي واصراره على قرارات نوفمبر الإقتصادية عارضا إستقالته عند عدم قبول قراراته. ودعى الحاضرين لتداول الأمر في حرية. والغريب أن أركان نظام نميري صدقوه وبدأوا يتداولون بصراحة، وخاصة كبار قادة الجيش الذين أجتمعوا بنميري ثم أجتمعوا لوحدهم للتداول بصراحة وهم لا يعلمون أن الرئيس يراقب مداولاتهم. وفاجأ نميري قياداته جميعا بطرد عبدالماجد حامد خليل من وزارة الدفاع والجيش وفصل 22 من كبار قادة الجيش. وهكذا دبر نميري آخر إنقلاباته.
كنا نتابع تلك المسرحية من خلال الراديو ولكننا على الدوام كنا نعتقد ان التغيير سيحدثه الشعب.
كانت فترة بورتسودان من أصعب فترات إعتقالي على المستوى الشخصي، فقد كانت علاقتي مع زوجتي الأولى قد بدأت في التدهور عبر الخطابات التي كانت تصلني منها، صحيح أن التدهور قد بدأ في الأيام الأخيرة في كوبر، ولكنه وصل مداه بعد ترحيلنا وقد كان المعتقلون يتبادلون فيما بينهم الخطابات العائلية، وكنت لا أفعل نفس الشئ في محاولة مني لإخفاء مشكلتي العائلية حرا مني على اروح المعنوية بين الرفاق، ولكني تحت الضغط النفسي أضطرت أن أشرك صديقي وقتها إسماعيل راسخ. ثم جاءت زوجتي لزيارتي في المعتقل ومهد لنا الرائد مصطفى محمد صالح أن نلتقي لقاءا طويلا على إنفراد رأيت فيه طفلتي بع غياب حوالي عامين. وفي الزيارة طلبت زوجتي الطلاق، فرجوتها أن تؤجل المسألة بعض الوقت بحيث أعمل على تحقيق رغبتها دون الإضرار بالمعتقلين أو سمعتهم أو إضعاف موقفهم في نظر الأمن، وبعد إلحاح مني وافقت على أن تعطيني مهلة 6 شهور. ولم أنقل مادار في الزيارة لبقية المعتقلين. وبدأت في التفكير في كيفية ترتيب المسألة، ولكن بعد أسبوعين من الزيارة أستدعتني إدارة السجن لتبلغني بخبر ترحيلي للخرطوم لأنني مطلوب للمحكمة الشرعية بأمدرمان، ولم يكن ممكنا الصمت على المسألة فبلغت المسئول السياسي لفرع السجن، وأستمريت في أداء مهامي اليومية فقمت بتدريس حصتي في الإقتصاد السياسي، وأشتركت في منافسة شطرنج هزمت فيها أمام الخاتم بعد أن تعادلنا أولا.
وتم الترحيل إلى كوبر وفي يوم الجلسة ألتقينا خارج المحكمة الشرعية أمدرمان حيث جاء الأستاذ جلال السيد للمثول معي فقلت له أنا لا أحتاج لدخول المحكمة لأنني لا يمكن أن أظل متزوجا غصبا عن إرادة شريكتي التي تزوجتها برضاها، فنصحنا جلال بأن سيدخل لإعلام القاضي بإتفاقنا على الطلاق خارج المحكمة وذهبنا لمأذون منطقة أمدرمان الوسطى حيث تم الطلاق في سلام. وأحتفظنا بعلاقات طيبة بعد ذلك وتزوج كلانا.
لقائي التجاني الطيب وصموئيل أرو في كوبر
أثناء وجودي في سجن كوبر الذي أمتد لحوالي أسبوع، سمح لي الشاويش سيدأحمد بلقاء الأستاذ التجاني الطيب في قسم الشرقيات التي نقل أليها من الأمن بعد سفرنا لبورتسودان. وكان لقائي مع الأستاذ التجاني قصيرا ولم نتبادل فيه أكث من التحايا والسؤال عن الصحة والفاق ببورتسودان.
وكنت أثناء خروجي أو دخولي الكرنتينة أمر بقسم المعاملة حيث كان الأستاذ صموئيل أرو معتقلا. وكان صموئيل أرو قد أعتقل لإعتراضه ضمن آخرين تقسيم الإقليم الجنوبي وتدخل نميري في العمل السياسي في الجنوب وحله للمجلس التشريعي عدة مرات وقد أتهم بتكوين حزب غير شرعي وهو مجلس وحدة جنوب السودان الذي كان بنده الأساسي هو الإعتراض على إقتراح تقسيم الجنوب لثلاثة أقاليم. ولقد كان السيد صموئيل أرو إلى جانب ذلك رئيسا لحزب سانو.
وكنت أجد السيد أرو يلعب الشطرنج مع نفسه، فسألته لماذا يفعل ذلك فقال أنه لوحده وهذه هي الطريقة لتسلية نفسه فعضت عليه أن ألعب معه ووافق الشاويش على السماح لي بالعب معه يوميا وكان يهزمني رغم أنني أعد نفسي من لا عبي الشطرنج الحريفين وللحقيقة لم ألعب حتى تاريخه مع أي لاعب سوداني أن أجنبي أحرف من السيد صموئيل أرو. وأصبحنا أصدقاء وأمتدت صداقتنا بعد المعتقل حتى أنه ساعدني أثناء الديمقراطية الثالثة في التحضير لحفل وموكب إعلان المنظمة السودانية لحقوق الإنسان، وكان السياسي الجنوبي جات كوث بسأله من أين تعرف هذا الجلابي فيقول "My prison mate أي رفيق سحني (أو ود سجنتي كما نقول).
رجوعي لبورتسودان
ولم تطل إقامتي بكوب أكث من أسبوع، فعندما جاء مدير السجن في المرور وسألني "كيف الأوضاع في سجن بورتسودان" لم أتردد في أن أقول له "أحسن من هنا" فقال لي "يعني عايز ترجع" قلت له "نعم" فتمت إعادتي لبوتسودان.
تقسيم الجنوب لثلاثة أقاليم
أجريت إنتخابات مجلس تشريعي الجنوب في أبريل 1983 بينما صموئيل أرو ما زال في المعتقل مما أدى لتفتيت الجبهة المعادية لتقسيم الجنوب وأدى لإنتخاب السيد جوزيف جيمس طمبرة رئيسا للمجلس التنفيذي لجنوب السودان بتأييد من نواب الإستوائية والنوير والشلك والقبائل الصغيرة في بحر الغزال بينما كان قادة الدينكا الكبا يتنافسون فيما بينهم: بونا ملوال، بيت جاتكوث، هيلري باولو لوقالي والعم كلمنت أمبورو. وقد ساعد ذلك الإنقسام في إطلاق يد نميري لتقسيم الإقليم والذي مهد له بإعفاء أبيل ألير من منصب نائب رئيس الجمهورية وتعيين جزويف لاقو المؤيد والداعي للتقسيم. وهكذا قرر نميري في 5 يونيو 1983 تقسيم الجنوب وتعيين حكام للأقاليم يحمون بدون مجالس تشريعية لمدة 18 شهرا.
كنا نستمع لهذه الأخبار من الإذاعة السودانية والإذاعات الأجنبية وتأتي لنا بها الجرائد فتتفتت همومنا الشخصية وتتعلق قلوبنا بمصير البلد وكنا نستغرب أن ينسف نميري الإنجاز الوحيد له في حكمه بهذه القراات الطائشة.
الحرب تشتعل في الجنوب
ثم جاءت الأخبا لتؤكد ما كنا نخافه الجوع للحرب الأهلية من جديد، بدأت الإرهاصات بقيام أنيانا تو ثم ظهرت الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيش تحرير السودان وتوترت العلاقات المتردية مع أثيوبيا، وأصبحنا نلاحق الأخبار وكانت إذاعتا أثيوبيا وليبيا تذيعان برامج خاصة بالسودان.
إضراب القضاة الثاني
في هذه الظروف بدأت الحركة الجماهيرية في الصعود وتمت مواجهة بين نميري والقضاء ادى لتقديم القضاة لإستقالات جماعية وشن نميري هجوما فاجرا على القضاة وأتمهم بالفساد وتوعدهم بقبول إستقالاتهم مما أدى لقيام حركة تضامن معهم قادها أساتذة الجامعات والمحامين.
قوانين سبتمبر ورقة التوت الأخيرة
وفاجأ نميري الجميع بأن أعلن في 8 سبتمبر 1983 قانونا جنائيا جديدا وعدد من القوانين الأخرى كقانون الإجراءات الجنائية وقانون المعاملات المدنية وغيرها متبنيا تطبيق الشريعة الإسلامية وإطلاق سراح جميع المساجين الذين حوكموا بقوانين وضعية وإعطاء كل واحد منهم 100 جنيه واعلن عن إحتفال للتخلص من مخزون الخمور في البلاد بتحطيمها ودلقها في نهر النيل. كما عين محاكم للعدالة الناجزة وعين دفع الله الحاج يوسف رئسا للقضاء وكانت تلك أول مرة في تاريخ السودان الحديث يتم فيه تعيين رئيس للقضاء من خارج الهيئة القضائية.
لم يكن إعلان الشريعة وتطبيقها في ذلك الوقت يحمل غير معنى واحد أن أزمة النظام تتفاقم وأن الحركة الجماهيرية بدأت تتصاعد وأن لا سبيل لوقفها بدون إجراءات قمعية تستعمل فيها الشريعة الإسلامية
وبينما نحن في خضم متابعة الأحداث الدرامية التي تمر بها البلاد ناسيين همومنا الشخصية، وكنت قد إنتهيت من دورتي في إعداد الطعام وتناول الجميع العشاء وأخذت كوبا من القهوة وجلست أحتسي قهوتي واستعد لبرنامجي المسائي من قراءة وكتابة ومتابعة أخبار، إذا بالخاتم يأتيني ويقول لي " قوم لم عفشك أطلقوا سراحك" فقلت له بإستنكار "بلش الهظار البائخ دة" فأقسم لي "وشرفي أنا ما بهظر" ونادى العسكري فضحكت وقلت كمان مقلب بعسكريه، ولكنهم أصروا وقدم العسكري لي ورقة يحملها في يده قائلا "شوف الورقة" وكان مكتوب غسمي وأمامه يحضر بعفشه.
وأصطف الزملاء لتوديعي فقلت لهم جملة قالها عبدالله علي إبراهيم أيام عبود والرفاق يودعونه في عطبرة "إلى اللقاء في دار الحزب الشيوعي بالخرطوم" وخرجت ويحمل المساجين عفشي أتبع العسكري "إطلاق سراح وبالليل، الواحد يمشي وين حسع!" ووجدت أفراد من الأمن في إنتظاري وأخذوني في عربة لمكتب الأمن ببورتسودان. وطلب مني الضابط أن أوقع على ورقة بأن أحضر لرئاسة الأمن بالخرطوم بعد 48 ساعة فرفضت التوقيع قائلا هذا مستحيل فحتى لو وصلت بعد 48 ساعة أسلم على أهلي وأعزي في البكيات وأبارك الأفراح أم أذهب للأمن فقال هذه التعليمات قلت لن أوقع قال لي التعليمات أن أطلق سراحك بعد التوقيع قلت لن أوقع فدخل وخرج وأتى وقال خلاص تذهب بعد أسبوع قلت ليس لدي مانع. قال لي مع السلامة، قلت ليه أمشي وين حسع قال لي ما عارف ما عندك أهل هنا، قلت ليه عندي لكن ما بعرف أين يسكنون فسألني من هم فقلت أبناء المرحوم أحمد سمساعة، قال لي نحن نوصلك ليهم وفعلا أخذوني بعربة لمنزل المرحوم أحمد سمساعة وفوجئت أختي أرملة المرحوم وبنتاها وأبناها بدخولي المفاجئ عليهم وفرحوا بكي وأكرموا وفادتي وقضيت الليلة عندهم وفي الصباح إتصلت بالزميل عبدالرحمن الأمين وبقية الزملاء ببورتسودان الذين ساعدوني في السفر.
وقابلت الأطباء لشكرهم وكان الدكتور أسامة الفيل مصرا أن اقضي معه ولو يومين فأخبرته بمواعيدي في الأمن وساعدني في الإتصال بأهلي في أدرمان الذين نسقوا للقائي في الخرطوم بحري. وهكذا أطلق سراحي في نوفمبر 1983.
وكنت طوال الطريق من بورتسودان أفكر "لم أطلق سراحي في ذلك الوقت بالتحديد؟"
ولم أجد الإجابة إلا بعد وصولي.
وكانت الإجابة عجيبة! لقد كانت شقيقتي الأصغر الأستاذة علوية كبلو والتي تعمل معلمة تدرس بمدرسة الراهبات بالخرطوم وكان ضمن تلامذتها إبنة للواء الفاتح الجيلي نائب رئيس جهاز الأمن، فحاولت المعلمات من زميلات شقيقتي أن يقنعوها بأن تأخذ تلفون اللواء الفاتح وتحدثه عن إستمراري في الإعتقال لأكثر من أربعة سنوات ولكن أختي رفضت قائلة أنني لن أقبل ذلك فما كان من المعلمات إلا أن يطلبن التلفون ويتحدثن مع اللواء الفاتح الذي أنكر معرفته بأي معتقل يقضى مثل هذه الفترة في المعتقل فاستدعوا شقيقتي علوية للحديث معه فأكدت له المعلومة فوعدها أن سينظر في الأمر، وكان هذا هو السبب المباشر في إطلاق سراحي. ولا تعليق لي على ذلك غير سؤال ماذا كان سيحدث لو لم تقم هذه المجموعة من المعلمات بالإتصال باللواء الفاتح الجيلي؟ أظن أنني كنت سأمكث حتى الإنتفاضة مثلما حدث لبعض المعتقلين معي والذين أعتقلوا معي في نفس الفترة من عام 1979 مثل الأستاذ يوسف حسين والدكتور محمد مراد الحاج.
آمنستي تقدم لي المساعدة
بمجرد قيامي بواجباتي الإجتماعية من إستقبال الأهل والتعزية في الموتى وغير ذلك من الواجبات الإجتماعية المؤجلة لإثنين وخمسين شهرا، كان الواجب المقدم هو الكتابة لمجموعة آمنستي إنتناشونال ببروكسل التي كانت تتبنى قضية الدفاع عني. كتبت لهم أشكرهم وأخبرهم بنبأ إطلاق سراحي، فكتبوا لي شاكرين وأرسلوا لي شيكا بمبلغ من المال لكي يساعدني في مواجهة حياتي بعد خروجي من المعتقل. وقد ساعدني ذلك المبلغ في مواجهة بعض المنصرفات الملحة كإصلاح عربتي وشراء ملابس بع 52 شهرا.
مقابلة جهاز الأمن
وقمت بعد أسبوع من إطلاق سراحي بالذهاب لجهاز الأمن، وأستقبلت إستقبالا طيبا، ولم يطلب مني أي شئ وقالوا فقط يريدون مني ألا أقوم بأي عمل معاد للدولة، وكانت المرة الوحيدة التي قلت فيها خلال فترات إعتقالي كلها "أنكم لم تعتقلوني لأنني قد قمت بأي عمل معادَ للدولة" ولم يستم الحديث كثيرا وشكروني على الحضور.
عودتي للعمل
وذهبت من هناك لمجلس الأبحاث الإقتصادية حيث قابلت البروفسير إبراهيم حسن عبدالجليل مدي المجلس الذي رحب بإطلاق سراحي وعودتي للعمل وطلب من سكرتيرته إخطار الأمانة العامة للمجلس بعودتي للعمل وهكذا إنخرطت من جديد في العمل والرجوع لجو البحث والتدريس. ولا بد لي هنا من الإشارة أنه بفضل الأساتذة الكرام العاملين في المجلس القومي للبحوث حينها أنني لم أفصل من العمل خلال إعتقالي مرتين وأن أعمل بالمجلس. ولعلي من المحظوظين القلائل الذين لم يفصلوا من العمل إطلاقا خلال فتة حكم نميري.
طلب مني البروفسير إبراهيم أن أبدأ بملأ فورمات لتقديم لكورسات قصيرة قائلا "عايزك تسافر برة لسببين: الأول هو ترتاح من فترات الإعتقال والثاني تستعيد علاقتك بالأكاديميات".
وفعلا ملأت عدة طلبات أحدهما لكورس في إعداد وتقييم المشروعات الزراعية بتركيا والآخر في تخطيط التنمية الإقتصادية بنابلي بإيطاليا وكان الكورسان عبارة عن منح لا تكلف حكومة السودان شيئا. وفي إنتظار نتائج الطلبات إنخرطت في أعمال بحثية متعددة وفي نشر بعض ما كتبت في السجن وفي حضور سمنارات المجلس ومركز الدراسات الإنمائية بجامعة الخرطوم، كما بدأت تدريسا في كلية الإقتصاد جامعة الخرطوم. وعدت للتعاون مع البروفسير علي عبد القادر الذي إنتقل حينها للمصرف العربي الأفريقي في الخرطوم.
سكرتارية اللجنة المركزية تنتدب سليمان حامد للقائي
وقابلت الأستاذ محجوب عثمان في زواج إبن شقيقته ورحب بخروجي من السجن وكنت آخر مرة ألتقيته في سجن كوبر بقسم الشرقيات في عام 1979 وقال لي الجماعة ديل (يقصد السكرتارية ليست لديهم فكرة عن إطلاق سراحي)، ووعد بإخبارهم . ولم يمض على ذلك الحدث أيام حتى جاءتني بالمنزل المرحومة سميرة إسحاق وبلغتني بمكان وزمان مقابلة رتب لي مع الحزب. وذهبت سائقا عربتي ولم يكن يخط ببالي أن من ألتقيه هو الأستاذ سليمان حامد وكان قد إختفى من جديد بعد إطلاق سراحه. وبع التحايا والسلام وبعض القفشات بلغني الزميل سليمان تحياة سكرتارية اللجنة المركزية وتقديرهم لصمودي ومساهمتي في المعتقل، وسألني السكرتاية تريد أن تسألك "ماذا تريد أن تفعل؟ هل تريد أن تذهب في رحلة للعلاج والراحة أو بعثة دراسية أو المساعدة في بحث عن عمل؟" فقلت له ضاحكا "ماذا يحدث في السكرتارية أيه الطراوة دي؟" فضحك سليمان وقال "أنا قلت ليهم ما تقول للزول دة كلام دي دة هو حيستفذ" فقلت له "مطالبي بسيطة أن يتم توصيلي بسرعة لفرع أو هيئة أماس فيها نشاطي وأن توف لي وثائق الحزب التي لم تصلني" وقلت له "على أي حال أشكر السكرتارية نيابة عني وقول ليهم مشكلة الشغل محلولة وأنا رجعت العمل وأنتهيت من الماجستير ورسالتي الآن عند الممتحن الخارجي، وأما الدكتوراة فسأنتظر دوري في البعثات الحكومية". وأوصلت الزميل سليمان بعربتي حيث أراد وودعته وعدت إلى منزلي وأنا مرتاح البال. لقد تركت مقابلة سليمان لي أثرا طيبا في نفسي، وشعرت إهتماما من الحزب بكوادره وأعضائه.
استمرار رقابة الأمن بعد خروجي
وتلقيت خلال تلك الفترة بعض الرسائل حول الحد من حركتي ومراعاة قواعد التأمين في عدم زيارة بعض الرفاق في مكاتبهم، وكنت أشعر بالمراقبة من قبل جهاز الأمن، حتى أن زوج أختي نجاة المرحوم الحاج أبوالوفا غضب ذات مرة عندما ذهبت لزيارتهم وتبعتني إحدى عربات الأمن، فذهب في الصباح لأحد أصدقائه في الأمن محتجا، فأحضر صديقه تقرير المراقبة ورصد له حركتي، فبرر المرحوم الحاج كل مشاوير: ذهبت الثوة عدة مرات لزيارة أختي بلقيس وفتحية، ولزيارة بنتي، وذهبت لنمرة ثلاثة لزيارة خالاتي وأذهب للحلفاية لزيارة أخي محمد وذهبت للعباسية لزياة أخي صفوت، فضحك صديق نسيبي وقال تصور كنا سنعتقله لأن التقارير تقول أنه يجمع فروع مديرية الخرطوم. وكانت النتيجة أن رفعت عني الرقابة.
إختياري في اللجنة الإقتصادية
وعرف الحزب بطريقته أن الرقابة رفعت عني، فأرسل لي زميلا في مكتبي بمجلس الأبحاث الإقتصادية ليبلغني بإختياري عضوا باللجنة الإقتصادية التابعة للجنة المركزية، وبدأت فورا حضور اجتماعاتها وعملت مع الزميل نقد الذي كان يشرف على اللجنة ويحضر إجتماعاتها بإنتظام والمرحوم حمزة زروق ذلك الشيوعي العالم العظيم ذو الخلق الرفيع، والذي طوال فترة عملي معه لعدة سنوات في اللجنة الإقتصادية لم يعتذر عن أداء أي تكليف كلف به وكانت كتاباته دائما عميقة ودقيقة وعلمية. وقد حزنت كثيرا لوفاته وأنا خارج الوطن.وأستمر عملي في اللجنة الإقتصادية حتى سفري لأيطاليا في نوفمبر 1984 وأذكر أنني عندما أخطرت اللجنة الإقتصادية بموضوع سفري أن قال صديقي حمزة "حتسافر بهنا وحنعمل الإنتفاضة بوراك" فقلت له "يا أخي أنا ساكيها الوقت ده كله تعملوها بوراي" وكان نقد يستمع لحوارنا فقال لي "تعرف يا صدقي أصله البسكوها ديل ما بحصلوها". والطريف أنني لم أحضر الإنتفاضة وكذلك صديقي المرحوم حمزة زروق الذي سافر بعدي للخارج في بعثة قصيرة.