تلك الأيام في سجون نميري (3) … بقلم: صدقي كبلو
25 May, 2009
ذكريات معتقل سياسي 1971-1983
الاعتقال الأول 23 يوليو 1971 -15 مايو 1973
قلت أن صديقي عبد الباسط سبدرات تخلى عن ولايته القضائية وطلب أن أنقل إلى جهاز الأمن، فتم نقلي إلى جهاز الأمن في حوالي 30 يوليو 1971 وبينما العسكري الذي يصحبني يحاول أن يجد المكتب الذي يسلمني أياه دخل خطأ مكتب السيد خليفة كرار والذي تعرف علي للتو وقال للعسكري تعال جيب كبلو دة هنا فقد قرأت إسمه في أوراق وجدت في منزل عبد الخالق وكتب ورقة للعسكري ليحملها لمكتب الأرشيف وأمسك بسماعة التلفون وطلب الأوراق التي كانت في منزل عبد الخالق وعندما جاءه الورق، فتش فيه قليلا ثم أخذ ورقة بدأ يقرأها بصوت عال:" مشروع قرار حول الجبهة الديمقراطية – صدقي كبلو" وفي هذه اللحظة دخل العسكري الذي صحبني للأمن وحياه قائلا الأرشيف بيقول ما فيش حاجة باسم صدقي كبلو، فقال له خليفة كرار "طيب خذه للجنة في الطابق الأول المبنى الثاني وخذ معه هذه الأوراق".
أخذني العسكري ومعي الأوراق إلى لجنة برئاسة العميد أمن أحمد عبد العزيز وكان ضمن أعضائها عبد المنعم محمد علي بخيت، شقيق الدكتور جعفر بخيت، وقد دافع عبد المنعم عني قائلا أنني عضو في الجبهة الديمقراطية وهي تنظيم طلابي وأنني ما زلت طالبا ، ولكن أحمد عبد العزيز أصر على إعتقالي وإرسالي إلى كوبر، وحاول عبد المنعم تطميني بعد الخروج من اللجنة وقال لي كلها أيام وسنطلق سراحك. ولكني بقيت في المعتقل لإثنين وعشرين شهرا وكنت ضمن المجموعة الأخيرة التي أطلق سراحها من كوبر في مايو 1973 بعد إضراب الطعام وإجازة دستور نميري الذي سمي دستورا دائما وهذا ما سنأتي لذكره فيما بعد في هذه المذكرات.
ولكن قبل الإنتقال إلى كوبر دعني أحدثكم عن قصة الأوراق التي وجدت في منزل الأستاذ عبد الخالق وعن سبب تذكر خليفة كرار لشخصي.كانت الأوراق عبارة عن مجموعة من مشروع قرارات لمؤتمر لفرع الحزب الشيوعي بالجامعة كان من المتوقع عقده في أكتوبر 1970 ولكن الأستاذ عبد الخالق إجتمع بنا عشية عقد المؤتمر وقدم لنا ملاحظات من المكتب السياسي تصف التحضير للمؤتمر ووثائقه بالضعف وطلب تأجيله لتحسين الإعداد له، وقد رفضنا أولا ذلك فقال لنا "أنتم أحرار فهو فرعكم فإذا قررتم عقد المؤتمر سنحضره وسنخاطبه" وخرج وتركنا مجتمعين مع الأستاذ سليمان حامد الذي أدار حوارا مع أعضاء لجنة الفرع وقد إحتدم النقاش وأجري التصويت ففاز الإقتراح المؤيد لتأجيل المؤتمر وكنت ضمن المعترضين. ولم تمض سوى أيام حتى أصدر نميري قرارات 16 نوفمبر 1970 وأعتقل الأستاذ عبد الخالق. ويبدو أن تلك الأوراق ظلت في منزل عبد الخالق حتى الإنقلاب المضاد ل 19 يوليو والبحث عن عبد الخالق وتفتيش منزله للبحث عن أي أوراق لها علاقة ب 19 يوليو، وقد علمت فيما بعد في كوبر أنهم قد وجدوا ورقتين: الأولى رسالة كتبها له ثلاثة أصدقاء جاءوا لمنزله لزيارته فلم يجدوه فتركوا رسالة يقولون فيها "قنطرناها يا ريس وشتها ما تنسانا" والثلاثة كانو مهندس إسمه بشير إدريس وضابط بوليس سابق يسمى فاروق هلال وأحد أبناء المرحوم محمد نور الدين (أحد قادة الحزب الوطني الإتحادي وحزب الشعب ومن السياسيين المشهورين بنزاهتهم). أما الورقة الثانية فكانت عبارة عن مقترحات بالتشكيل الوزاري ويبدو أن الدكتور مصطفى خوجلي الأستاذ حينها بكلية الطب كان مرشحا لرئاسة الوزراء.
لقد إلتقيت خليفة كرار أول مرة في مدينة الفاشر وأنا طالب بالفاشر الثانوية كنت أتردد على مكتبة الجماهير التي كان يملكها ويديرها الأستاذ صديق أحمد البشير، وكنت قد سألت صديق عن مكان أجد فيه حجرا لفلاش كمرتي ولكن صديق قال أن مثل الحجر الذي أسأل عنه غير موجود في الفاشر ولكنه موجود في نيالا فعرض السيد خليفة وكان نقيبا بالشرطة خدماته بأن يطلب من عربة لهم ذاهبة في مأمورية نيالا أن يحضر لي الحجر، ولم أقابله بعد ذلك إلا في ذلك اليوم رغم أنه تم أستدعائي من قبل للأمن والتحقيق معي ولكن كان من حقق معي وهددني بالإعتقال هو السيد مكي حسن أبو. لذا كنت مندهشا أن يتعرف علي خليفة كرار بعد 8 سنوات من لقائي به أول مرة ولكنها عقلية رجل الأمن. وسترد سيرة خليفة عدة مرات في هذه المذكرات.
بمجرد نقلي لكوبر أخضعت كغيري لتفتيش دقيق ثم صرف لي بطانيتين وبرش وكورة وأدخلت إلى السرايا من خلال باب صغير يضطر الشخص للإنحناء عند الدخول والخروج.
دخلت السرايا فوجدت عدد كبير من المعتقلين من شيوعيين وديمقراطيين من مختلف الأعمار والمهن، محامين، سفراء، أطباء، زراعيين، إقتصاديين، أساتذة جامعة، موظفي خدمة مدنية، موظفي بنوك، مهندسين وعمال فنيين، ضباط سابقين في الجيش والبوليس، إذاعيين ومخرجي تلفزيون، صحفيين وكتاب وشعراء ونقاد، نقابيين وقادة شباب وناشطين سياسيين. وهذا ما دفع البعض من المزاح مرددا أن كل الجبهة (يقصدون الجبهة الوطنية الديمقراطية)، اصبحت في يد السلطة، بينما كانت المظاهرات في 22 يوليو تقول كل السلطة في يد الجبهة.
وجدت عدد كبير من المعتقلين ممن أعرفهم من قبل: صديقي المرحوم مصطفى أحمد الشيخ، المرحومين عبد الوهاب الشيخ وأخيه إبراهيم الشيخ وخليل ألياس وثلاثتهم من قادة إتحاد الشباب، الصحفي والقاص محمود محمد مدني والقاص محجوب الشعراني والشاعر صلاح حاج سعيد والشاعر صلاح يوسف، وأستاذي الكبير فرانكو قرنق شقيق الأستاذ جوزيف قرنق الأكبر والذي التقيته عندما كان مدرسا بالفاشر الثانوية والأستاذ الكبير عباس علي والأستاذ ياسر الطيب سكرتير رابطة المعلمين الإشتراكيين والأساتذة محمد سعيد القدال ومبارك حسن خليفة والأستاذ إسحاق القاسم شداد والأستاذ بدر الدين مدثر من قادة حزب البعث والأخ محي الدين يوسف وعبد المجيد بطران و عبد القادر الرفاعي والبروفسير علي محمد خير والدكتور فاروق محمد إبراهيم والأستاذ محجوب الحارث والمرحوم برير الأنصاري وشقيقه الأستاذ قريب الله الأنصاري والأستاذ حسن شمت والأستاذ حسنين حسني والذي كنت أعرفه من أيام النهود والسيد المرحوم محمد خلف الله والذي كنت قد تعرفت عليه قبل أسابيع قليلة من الإعتقال وغيرهم عدد كبير.
وتعرفت في السرايا على عدد كبير لم أعرفه من قبل أو كنت اعرفه ولم أقابله من قبل مثل الأستاذ الكبير المرحوم عبد الكريم ميرغني الذي إمتدت علاقتي معه لما بعد المعتقل وتعلمت منه الكثير خاصة فيما يتعلق بتاريخ وأسرار الفترة الأولى من حكم نميري كما تعرفت عن طريقه على تمارين اليوغا والتي تعمقت فيها فيما بعد بمساعدة الصديق المرحوم الفاتح المواطن والأستاذ الكبير محمد محجوب شورة والدكتور الحارث حمد والأستاذ الرشيد نايل والأستاذ محمد ميرغني نقد والأستاذ إبراهيم الجزولي المخرج التلفزيوني االمدهش والأستاذ ذو النون بشرى الإذاعي المعروف وتعرفت على آل النور الذين أصبحت علاقتي معهم أسرية: أسامة عبد الرحمن النور صديق شقيقي الأكبر محمد وإبراهيم النور وقد اصبحنا أصدقاء من أول يوم إلتقينا فيه و المهندس صديق يوسف و المحامي عثمان يوسف وتعرفت على الأستاذ الكبير جلال السيد والدكتور خالد حسن التوم والأستاذ الفنان التشكيلي جرجس نصيف وتعرفت على الفنان الكبير محمد وردي والذي توطدت علاقتي به فيما سيأتي من حديث في حوش الطوارئ والأستاذ الفنان محمد الأمين والفنان إدريس إبراهيم والشاعر الكبير حدربي محمد سعد وشقيقه الأكبر الأستاذ أحمد محمد سعد. والمدهش النقابي سعودي دراج وأحمد عبدالله هلال وأبو الحسن بله الشاذلي والذي صار صديقي وصديق عائلتي والمرحوم عبد المجيد النور شكاك ذلك الرجل المتواضع صاحب القلب الكبير. وتعرفت على كمال كمبلاوي والمرحوم عبد الرحمن كمبلاوي والإقتصاديين فاروق كدودة وحمزة زروق وعبد المنعم عثمان. كما تعرفت على العم المرحوم الحاج عبد الرحمن القائد النقابي البارز والمرحوم العم محجوب سيداحمد والمرحوم علي الماحي والنقابي سليم أبو شوشة وعلى المرحوم عثمان جسور والنقابيين محجوب الزبير وفضل أحمد فضل. وتعرفت على السر تابر وأصبحنا أصدقاء رغم فارق العمر. كما تعرفت على إسماعيل المبارك وأصبحنا أصدقاء وأمتدت صداقتنا لما بعد المعتقل. كما تعرفت على المرحوم خليل أحمد علي الذي امتدت صداقتي له خارج المعتقل وتعرف على عائلتي وتزوج شقيقتي الصغرى فتحية. كما ألتقيت في المعتقل الأستاذ نور الهدى محمد نور الهدى وكان يتجول في الأيام الأولى بلبسه العسكري فقد كان متطوعا بكتائب مايو، وقد توطدت معرفتنا بعد ذلك بعد عمله في دار النشر بجامعة الخرطوم قبل أن يؤسس دار عزة للنشر بعد فصله تعسفيا من عمله أيام حكم الجبهة الإسلامية.
ولعل الإعتقال قدم لي خدمة كبيرة بالتعرف على شخصين ساعداني في الإلمام بطرف من تاريخ الحزب وهما الأستاذان صلاح مازري ومعلم الأجيال المرحوم عباس علي.
وكنت ضمن أصغر خمس معتقلين طالب ثانوي من بحري يسمى حسن التوم و رمضان سعيد شقيق الجزولي سعيد وكمال وعبدالله عطية والذاكرة لا تساعد فمعذرة على المئات من المعتقلين الذين لم أذكرهم هنا.
وبينما نحن في السرايا كان يتوافد علينا معتقلون جدد ولكن ثمة أربع معتقلين كان وصولهم موضوعا لإهتمام المعتقلين. وأول هؤلاء كان وصول المرحوم الأستاذ إبراهيم جادالله الوكيل السابق لوزارة شئون الجنوب والخبير والعالم في مجال الغابات. كان إبراهيم جادالله قد حاول الخروج من السودان عن طريق الشرق وقضى الليلة في إستراحة للغابات في سوبا ثم سافر إلى الشرق وقضى أياما ماشيا وهو مطارد وأضطر لتسليم نفسه قرب قلع النحل ونقل إلى القضارف ومن ثم بطائرة هليكوبتر إلى الخرطوم وكانت قصته مليئة بالمغامرة مما جعله ضيفا على المنتديات المختلفة بالسرايا.
أم الشخص الثاني الذي كان حضوره موضوعا للإهتمام فهو الزميل الخاتم عدلان، والخاتم دفعتي في الجامعة وتزاملنا في العمل القيادي في مجال الطلبة لسنوات عديدة وقد خضنا أول تجربة إختفاء في حياتنا السياسية سويا بعد ندوة شهيرة تحدثنا فيها في إتحاد طلاب جامعة الخرطوم بعد إنقلاب 16 نوفمبر 1970، إنقلاب القصر الذي دبره نميري والمخابرات المصرية لإبعاد فاروق حمدالله وهاشم العطا وبابكر النور من مجلس الثورة وإعتقال الأستاذ عبدالخالق محجوب والدكتور عزالدين علي عامر وسعاد احمد ابراهيم وصلاح مازري وإحالة عدد من الضباط الشيوعيين والديمقراطيين للتقاعد ومن بينهم المقدم محجوب إبراهيم والعقيد محمد محجوب عثمان والرائد خالد الكد. وكانت تلك الندوة معلما بارزا في بداية الصراع العلني ضد إتجاهات مايو الديكتاتورية والقومية العربية وإتجاهات نميري للإنفراد بالسلطة. وقد إضطرنا للإختفاء داخل الجامعة لصدور قرار بإعتقالنا. ولم يتم إعتقال أي منا حتى إغلاق الجامعة بعد احداث مارس، غير أن الخاتم قد أعتقل في 30 مايو 1971 مع عدد آخر من الشيوعيين شمل الدكتور محمد سليمان وصلاح مازري ومحمد مراد وخالد حسن التوم.
وكان الخاتم عدلان قد توجه لزيارة أهله بعد إطلاق سراحه بالجزيرة في 19 يوليو وفاجأه الإنقلاب المضاد وعودة نميري فسعى عبر محاولة فيها كثير من المغامرة الشجاعة أن يشق طريقه للخرطوم ولكنه حوصر مما أضطره لتسليم نفسه بمدني. وكانت قصة محاولته مثيرة وموضوع للسمر في السرايا.
أما الشخص الثالث الذي كان حضوره للسرايا مثيرا فكان الزميل المرحوم مكي عبد القادر والذي أضطر لتسليم نفسه لصعوبات قابلها في تأمين نفسه فأختار في شجاعة نادرة أن يسلم نفسه بدلا أن يعرض الآخرين للخطر.
أما الشخص الرابع فكان هو الأستاذ عبدالله علي إبراهيم الذي إضطرته ظروف مشابهة لتسليم نفسه بدلا من تعريض الآخرين للخطر. وقد كان لحضوره للسرايا أثر كبير في إثراء الحياة الثقافية والفنية في السرايا.
تتكون السرايا من طابقين بهما ثماني عنابر تفتح العنابر شمال جنوب وبها شبابيك كبيرة بها سياج حديدي وللعنابر أبواب حديد وبين كل عنبرين يوجد ممر سمي بالجرة وفي العادة تكون السرايا مقاما للمسجونين المعاقبين بعقوبات طويلة ومعظمهم من أصحاب السوابق وقد تم ترحيل كل المساجين لسجن بورتسودان لتفريغ سجن كوبر للمعتقلين.
أقام المعتقلون في العنابر والجرة ونصبت خيم خلف المبنى الرئيسي. وكان من سكان الخيم المرحوم عبد الكريم ميرغني والمرحوم حسنين حسني (وهو الشيوعي الذي عذبه الأميرآلاي زين العابدين حسن الطيب حاكم عسكري كردفان أيام عبود) والدكتور على محمد خير العميد السابق لكلية العلوم والعميد صلاح إبراهيم أحمد والأستاذ الكبير أحمد محمد سعد والأستاذ الكبير محمد محجوب شورة وكان من سكان الجرة (أي الممر بين العنابر) الأستاذ عباس علي والدكتور قريب الله حامد الأنصاري.
بمجرد وصولي قادني المرحوم مصطفى أحمد الشيخ إلى عنبر 5 حيث يسكن وفسح لي مجالا وأنضممت لمجموعته في الأكل التي كانت تضم إبراهيم النور وعبدالوهاب وإبراهيم الشيخ وإسحاق القاسم شداد وعبد المجيد بطران.
كان من بين المعتقلين في عنبر 5 أستاذي فرانكو أوكيل قرنق وهو شقيق القائد الشيوعي الجنوبي الراحل جوزيف قرنق وزير شئون الجنوب وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والذي تم إعدامه شنقا بسجن كوبر بعد محاكمة صورية، وقد حكى لي المرحوم الزميل عبد العظيم حسنين أن جوزيف كان معتقلا معه في المدرسة (وهي قسم بالمعتقل في الشمال الغربي لسجن كوبر) وكانا يرقدان قرب بعض عندما فتح باب المدرسة ونادى السجان جوزيف قرنق فودع جوزيف المعتقلين وقال سأعود لا بسا البردلوبة وهي لبس المساجين كناية على أنه سيحاكم بالسجن.
كان فرانكو قد تخرج من الكلية الحربية ضابطا بالقوات المسلحة السودانية ولكنه إستقال واصبح نائبا في البرلمان في إنتخابات 1958 وبعد إنقلاب عبود ذهب لبيروت حيث التحق بالجامعة الأمريكية وتخرج ببكالوريوس الآداب قسم اللغة الإنجليزية وعمل بالتدريس في الشمال والجنوب وقد كان أستاذا بالفاشر الثانوية عندما ألتقيته المرة الأولى عام 1964 بالفاشر الثانوية ورغم أنه لم يدرسني فإني أعتبره أستاذي. لهذا السبب عندما رأيته يمشي حافيا ولا يرتدي حذاءا عرضت عليه ""سفنجتي" فرفض بحزم شاكرا وأوضح أنه لا يرتدي حذاءأ لأنه في فترة حداد ووفقا لتقاليد الجور فأهل الميت لا يلبسون حذاء لمدة أربعين يوما.
كانت أول صداقاتي في المعتقل تلك التي نشأت مع إبراهيم النور وهو أخ مولانا عبد الرحمن النور القاضي السابق ووزير الإعلام في حكومة الصادق المهدي الأولى عام 1966 ، وإبراهيم درس بمصر الإقتصاد وكان قد تخرج لتوه. وشكلنا تيما للقراءة وبدأنا بقراءة الكتابين المتوفرين لدينا: المصحف وكتاب في التنمية الإقتصادية كان قد أدخله معه الأستاذ يوسف همت أحد قادة حزب البعث وكان الكتاب من تأليف البروفسير هجنز. ورغم أننا كنا نعلم أن هناك خطوات تسير في سرية وبطء لتنظيم العمل في المعتقل، غير أننا كنا نشعر بالملل والخوف أن يؤدي الفراغ وعدم دخول الكتب إلى جو الأحباط والشللية إلخ فقررنا أن نحاول كسر ذلك الجو بتنظيم محاضرات وخاصة بيننا علماء ومثقفين وقررنا تنظيم سلسلة من المحاضرات فكانت أول محاضرة تحدث فيها الدكتور فاروق محمد إبراهيم عن الإصلاح الزراعي وقد كانت خطتنا، أنا وإبراهيم النور أن يتحدث فيها أيضا المرحوم برير الأنصاري لأننا كنا نعرف أن الإثنين يحملان وجهتي نظر مختلفة حول الإصلاح الزراعي، ولكن برير كان حينها يؤخذ لجلسات المحكمة العسكرية التي حكمت عليه فيما بعد بالسجن عشرين عاما. وكانت تلك المحاضرة هي بداية العمل الثقافي الذي أستمر في كل المعتقلات زمن نميري.
وأذكر طرفتين تتعلقان بهذه المحاضرة: الأولى إني قدمت الدكتور فاروق محمد إبراهيم تقديما مفصلا حول دوره في ثورة أكتوبر وحول إسهامه الأكاديمي والسياسي، فقال لي فاروق بعدها وأنني كنت أقدمه كأنني أنعيه لأن الإعدامات والمحاكمات ما زالت قريبة، وأنا أتذكر ذلك لا بد لي أن أقول أن البروفسير فاروق محمد إبراهيم رجل مفكر شديد الذكاء وواسع الثقافة وقد ظللت على خلاف فكري معه في كثير من قضايا العمل السياسي، ولكني ظللت وسأظل دائما أنظر إليه بإحترام وتقدير يستحقه فهو رجل شجاع يعبر عن فكره بشجاعة متناهية وهو رجل مخلص لشعبه ولما يراه صحيحا ولا يبحث عن مجد أو منفعة شخصية. وقدم البروفسير فاروق في المعتقل سلسلة من المحاضرات حول علم الوراثة (لاحظ ذلك حدث في عام 1971 قبل أن يصبح الحديث عن علم الوراثة على كل لسان).
ثم جاء عبدالله علي إبراهيم للمعتقل فأعطى العمل الثقافي في المعتقل أبعادا جديدة. وعبدالله علي إبراهيم جاء إلى المعتقل بنفسه ولم تعتقله سلطات الأمن فهو كان مختفيا إذ أنه أصبح ضمن حلقة المتفرغين عام 1971 وقد كان خطاب طلب تفرغه للعمل الحزبي قطعة أدبية رائعة، ولكن عبدالله شعر بأن إختفائه ربما سبب مشكلة للعائلة التي كان مختفيا لديها فخرج من الإختفاء وسلم نفسه. وأختلف الناس حول تقييم ذلك الموقف ولكني ظللت أعتبره موقفا شجاعا ويتصف بحساسية وشعور إنساني عالي.
قلت أن عبدالله أعطى العمل الثقافي أبعادا جديدة وقد ساعد في ذلك موهبته وقدرته على العمل الإبداعي وتفجير طاقات الآخرين والتعاون معهم وكان المعتقل مليئا بالمبدعين مثل المخرج المبدع إبراهيم الجزولي والأستاذ المرحوم الموسيقار جمعة جابر والرسام والفنان على الوراق والصحفي والقصاص محمود محمد مدني والشعراء صلاح يوسف وصلاح حاج سعيد وحدربي محمد سعد والفنان التشكيلي جرجس نصيف والقصاص محجوب الشعراني والمذيعين حمدي بولاد و ذو النون بشرى والفنانين الكبار الأستاذة محمد وردي ومحمد الأمين وإدريس إبراهيم وأعداد أخرى من الذين كشف عبدالله عن مواهبهم مثل الصديق الأستاذ ياسر الطيب الذي كان سكرتيرا لرابطة المعلمين الإشتراكيين.ويمكنني القول بدون تردد أن وجود عبدالله علي إبراهيم في المعتقل في كوبر وزالنجي وشالا ثم كوبر مرة أخرى جعل المعتقل أكثر إبداعا وفنا وثقافة، ومع آخرين سيأتي ذكرهم، جعل المعتقل أكثر إحتمالا.