تنقية الثقافة الإسلامية والتراث الإسلامي
13 December, 2009
زفرات حرى
eltayebmstf@yahoo.co.uk
قلنا إن الشيخ القرضاوي حين ينتقي من كتابات الشيخ محمد الغزالي فإن ما ينتقيه ويختاره يعتبر مما أعجب الرجلين واتفقا عليه، وهما العالمان العَلَمان والفقيهان الربانيان اللذان نذرا حياتهما لخدمة هذا الدين والتصدي لأعدائه والدفاع عنه وتقديمه للعالمين كفكر رباني ينظر من علٍ إلى تخرصات النظريات البشرية القاصرة.
وها هو القرضاوي يختار من بين كتابات الغزالي فصلاً جديداً وينشره في كتابه القيِّم «الشيخ الغزالي كما عرفته».
كان من جوانب الاصلاح التي عني بها الشيخ الغزالي ما يتعلق بثقافتنا التقليدية، وتراثنا العلمي الموروث. وقد درسه دراسة الفاحص الناقد، لا دراسة المقلد المتلقي.
ومن ثم وجه نقده ـ الذي لا يخلو من حدة ـ الى تلك الثقافة، وذلك التراث، وبين مواضع الخلل، ونقاط الضعف، وذلك في اكثر من كتاب له، ثم افرد لذلك كتابا مستقلا نشره المعهد العالمي للفكر الاسلامي بواشنطون، وهو كتابه «تراثنا بين التسرع والعقل».
وينبه الشيخ الغزالي الى ان الطريقة التي يواجه بها المسلمون الحياة تحتوى على اغلاط كثيرة. ومرد ذلك اما الى جهلهم بأمور كان يجب ان يحيطوا بها علما، واما الى علمهم بأمور على غير وجهها الصحيح.
وفي رأيه أن الثقافة التقليدية ـ وهي التي تصنع عقيدة الامة ومزاجها وشخصيتها ووجهتها ـ مسؤولة عن ذلك القصور السائد، لأنها تنقص عناصر لا بد منها لتكوين الغذاء العقلي المطلوب للجماهير. ولانها ـ خلال القرون الطوال ـ تضمنت جملة من التصورات والاحكام المعيبة.
ولأن ما بها من حقائق مازال يعرض العرض المنفر او يفسر التفسير الناقص. وذلكم هو السر الاول في تخلف العالم الاسلامي خلال الأعصار الاخيرة، تخلفا جعل الاوروبيين ـ منذ عصر الاحياء ـ ينفردون تقريبا بقيادة القارات الخمس.
ومن السخف أن نجعل التصوف المنديل الذي نمسح به اوضارنا، فإن فساد التصوف جزء من الفساد الذي لحق بجملة العلوم الدينية، وفي مقدمتها الفقه والكلام والتفسير والحديث.
وانحطاط التعليم الديني في هذه المجالات هو المسؤول عن تكوين اجيال ضيقة الافق بيّنة القصور، لا تتقدم بها دنيا، ولا ينتصر بها دين.
لقد كان من إعزاز الله لرسالته الخاتمة أن خلد كتابها وعصمه، كما استبقى محمدا الاسوة الفريدة للكمال الانساني، فجعل سنته مصدرا ثانيا للدين بعد القرآن الكريم.
وعن طريق الكتاب والسنة يمكن تجديد التراث الديني كله، وخلق ثقافة إسلامية سليمة كاملة لا عوج فيها ولا شطط.
ولست أعيب اسلافنا او انتقص جهادهم، فمن هؤلاء الاسلاف تلقينا فنونا من المعرفة المشرفة والتربية الصالحة.
وانما نلفت الانظار الى أن القرون الاولى للاسلام مليئة بالخير والذكاء والنشاط، وأن شكوانا تنصب في جملتها على عصور الجمود والكسل العقلي، والسماح للبدع والخرافات بالتعشيش في أرجاء المجتمع، وكأنها دين قويم وصراط مستقيم.
ملاحظات مهمة على ثقافتنا
يرى الشيخ أن ثقافتنا في طورها القائم تحمل اخلاطا لا حصر لها من افكار ومذاهب تفتقر الى التمحيص، وتفرض علينا أن نميز بين الخبيث والطيب. وهناك ملاحظات صادقة على هذه الثقافة يوصي الشيخ بوجوب وعيها، لانها وراء المد والجزر الذي تعرض له تاريخنا الطويل. وهو يوجز هذه الملاحظات في ما يلي:
التقعر في ما وراء المادة
«أ» التقعر في دراسة ما وراء المادة مرض اصاب المسلمين، ولوى مسيرتهم العملية ليا شائنا، والمعروف إن الآيات المحكمة هي أم الكتاب ومناط التكاليف الاعتقادية والعلمية، وأنه بحسب المسلمين في عالم الخلق والسلوك، وعالم العقيدة والعبادة، وعالم القضاء والتشريع، أن يعتمدوا على هذه الآيات المحكمة وحدها.. اما ما تشابه في الحديث عن ذات الله وصفاته فلا مجال للعقل في بحثه.
إن العقل البشري أعجز من أن يفقه حقيقة الروح بين جنبيه، بل أعجز من أن يفقه تحول الأغذية في جسده الى طاقة وخلايا. فكيف يريد أن يعرف كنه الالوهية، واتصال الذات بالصفات؟
لكن المسلمين - للأسف - خاضوا بحاراً مغرقة في هذه البحوث العقيمة كان لها أثر وخيم في تعجيز العقل الاسلامي عن البحوث المادية وإحسان الافادة منها. وهذا الاتجاه الشارد عصيان لله الذي أمر بالنظر في الكون، وبنى على هذا النظر السديد حسن الايمان وجميل المنفعة.
التنطع في ما يسره الله
«ب» الإسلام دين عمل يؤثر الواقع على الخيال، ويؤثر الحقيقة على الظن، ويؤثر الحركة الماضية في مرضاة الله على اللغو والشقشقة وافتراض الفروض وتشقيق الكلام، وهل نجح سلف الامة إلا بهذا المنهج؟
بيد اننا وجدنا الدراسة الدينية تميل الى الشروح النظرية المطولة دون سبب واضح. والذي احسه ان دراسة الطهارات والصلوات لا تحتاج الى هذه التآليف المسهبة والاوقات المتطاولة، ومع ذلك فقد اصبح ذلك جزءا من اعمار المسلمين.. ومثار افتراق واسع بين الدهماء، بل بين نفر من المنتسبين الى العلوم الدينية. ولم يكتف البعض بهذا الطول المفتعل، فاضاف الى اعمال الحج أدعية في اشواط الطواف واشواط السعي لا اصل لها، حتى يزيد المراسم وعورة وتهيباً.
وقد تأدت هذه المزايدات الى إضعاف علاقة المسلمين بالحياة، وكانت مشغلة لهم عن انتاج اهم واجدى.
«ج» هناك فارق مؤكد بين درجة التخصيص ودرجة التثقيف العام، فالمتخصص يلم بمعارف شتى في فنه، ويعيبه أن يجهل ناحية ما في ميدانه، أما أصحاب الثقافة العامة فيكفيهم ما يحتاجون اليه في بيئاتهم وأحوالهم، ولا معنى لحشو أذهانهم بما لا أثر له في معايشهم. وقد رأيت أُناساً من العوام تبلبلت أفكارهم أثر أحاديث نبوية درست لهم، وهي أحاديث صحيحة السند، ولكن ليس من الحكمة أن يعرفها العوام، فهي فوق طاقتهم الذهنية، وقد جاء في الأثر «انك ما حدثت قوماً بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
ومع ذلك فإن قرويين وبدواً أو هملاً من الخلق، يذكر لهم أن نبينا ضرب ملك الموت ففقأ عينه، وأن آدم حاجَّ موسى في القدر فغلبه، وان موسى راجع نبينا في الصلوات الخمسين حتى جعلها خمساً، وأن الجبار ليلة الإسراء هو الذي دنا فتدلى.. الخ.
لماذا تُشغل أذهان الجماهير بهذه الأمور؟ ولماذا لا يختار لهم من السنن ما يصحح وجهتهم في الحياة؟ لقد توارث العوام أن سماع هذا الكلام عبادة، وأورثهم ذلك شيئاً من الخدر والاسترخاء غير قليل.
توجيه الضعاف للتعليم الديني
«د» ألف المسلمون أن يُحفظ القرآن للأطفال، وألفوا أن يُوجه للتعليم الديني الضعاف والفقراء ذوو العاهات، وفي بعض الأقطار الإسلامية يكاد العلم الديني يكون نصيب المطرودين من ميادين التعليم التي يشترط فيها التفوق والتبريز أو حسن المظهر وقوة العصبية.
وهذا المسلك يزري بمعنى التدين، ويضعف أهل الدين عن اقتياد الحياة بقوة، وقد يعجزهم عن مقاومة الجبارين والخطائين.
وعلى ضوء التجارب الكثيرة، ينبغي وضع سياسة أخرى للتعليم الديني.
ولنذكر أن الفجوة عمقت بين العلم والحكم في تاريخنا، وأن عدداً من الأئمة والأشياخ أدى واجبه شامخاً راسخاً.
ولكن عدداً آخر - ربما كان أكبر - آثر الانزواء، وارتضى في تغيير المنكر أضعف مراتب الايمان.
وهناك فريق آخر ربما كان أكبر وأكبر، مشى وراء الساسة مداهنا، فأكل من حلوائهم وسكت عن أهوائهم..!!
وإذا فسد العلماء والحكام أخذت الأمم طريقها إلى القاع..!!