توطين الحركة الشعبية في الشمال

 


 

 


قرر المكتب السياسي للحركة الشعبية في أعقاب التصويت على الاستفتاء بأغلبية ساحقة أن يستقل قطاع الشمال سياسياً وتنظيمياً وإدارياً ومالياً عن الحركة الشعبية في الجنوب، وهو قرار منطقي بعد انفصال الجنوب عن الشمال في يوليو المقبل. ولكن المرء لا يملك إلا أن يلاحظ أن الحركة الشعبية قد استطاعت أن تحاور (كما يفهم في لعبة كرة القدم) كل القوى السياسية الشمالية وتتغلب عليها تكتيكياً الواحدة بعد الأخرى منذ عقدها اتفاقية الميرغني- قرنق في نوفمبر 1988م وحتى قرار دعم الانفصال في الاستفتاء وفصل قطاع الشمال عن الحركة في الجنوب. جذبت الحركة الشعبية أولاً أحزاب المعارضة الشمالية إلى معسكرها ضد حكومة الإنقاذ واستطاعت أن تبقيها في صفها حتى بعد أن تفاوضت منفردة مع المؤتمر الوطني واقتسمت معه السلطة والثروة وتنكرت للمعارضة في كل منعطف تكسب فيه شيئاً للجنوب، ثم أصبحت شريكة للمؤتمر الوطني في الحكم الذي أعطاها كل ما تريد من الانفراد بحكم الجنوب والمشاركة في حكم الشمال وفتح لها باب التفاوض مكرهاً في ثلاث مناطق شمالية حسب حدود أول يناير 56 (أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق) مع أن بروتوكول مشاكوس حسم الحدود بين الشمال والجنوب، وصارت غصة في حلق المؤتمر الوطني حتى اليوم ومع ذلك استمرت الحركة في لعبها مع المعارضة الشمالية ضد المؤتمر الوطني الذي كان يظن أنه سيتقوى بها ضد المعارضة. وانقلبت الحركة الشعبية للذين حاربوا في صفها من أبناء جبال النوبة والنيل الأزرق، فلم يجدوا في اتفاقية السلام الشامل ما كانوا يصبون إليه من حقوق في السلطة والثروة كما نال الجنوب، وبعد ذلك لم تستوعب كل المحاربين من أبناء المنطقتين في كتائب الجيش الشعبي. وتخلت عن قطاع الشمال حين منعته من خوض انتخابات الرئاسة بعد أن بدأ حملة انتخابية ناجحة كانت ستفرض على المؤتمر الوطني خوض دورة ثانية لانتخابات الرئاسة، ثم ختمت الحلقة بالتصويت للانفصال وإعلان استقلال قطاع الشمال عن الحركة الشعبية في الجنوب. وأحسب أن الحركة الشعبية قد انتقمت في سلوكها السابق لكل المقالب والمؤامرات التي كانت تحيكها القوى السياسية الشمالية ضد حركات وأحزاب الجنوب!
والسؤال هو: ماذا سيفعل قطاع الشمال في نفسه بعد أن هجرته الحركة الشعبية؟ هل سيبقى مقطورة تستخدمها الحركة الشعبية ضد حكومة الشمال متى ما تريد؟ أم سيوطن نفسه في الساحة السياسية الشمالية تنظيماً مستقلاً يعمل بجهد وحماسة لمصلحة ورفاهية أهل الشمال بصرف النظر عن مستقبل العلاقات بين الشمال والجنوب؟ أنا أتمنى أن يختار قطاع الشمال خيار التوطين وأن يدرك بوعي أبعاد ومستحقات هذا الخيار السياسية والاقتصادية والثقافية والتنظيمية، وأن يأخذ بتلك المستحقات التي تجعله لحمة قوية في جسم الشمال عصية على البتر أو الاستبعاد. وقبل أن نخوض في ماهية تلك المستحقات ينبغي أن نذكر عوامل الجذب التي دفعت بكثيرين من أبناء الشمال إلى حضن الحركة الشعبية، لأن سوء التقدير في تحديد تلك العوامل وأسبقياتها قد يؤدي إلى خطأ فادح في رسم إستراتيجية الحزب وسياساته وعلاقاته وبرامجه. ولعل أهم عوامل الجذب للحركة الشعبية في الشمال دون ترتيب هي: شعار السودان الجديد الذي يحمل مضامين المساواة والعدل والديمقراطية والحرية والعلمانية ورفع الغبن عن المهمشين؛ القيادة الكارزمية لجون قرنق؛ نموذج النجاح العسكري والسياسي الذي حققته الحركة حتى اتفاقية السلام الشامل؛ قوة الحركة الشعبية ووزنها العسكري والسياسي وعلاقاتها الخارجية المتينة مع الدول الغربية. ماذا بقي من هذه العوامل بعد الفترة الانتقالية؟ شعار السودان الجديد رغم أن الحاجة إلى مضامينه ما زالت قائمة في الشمال إلا أن تجربة حكم الحركة في الجنوب جعلته يذهب أدراج الرياح فقد افتقدت التجربة تلك المضامين بأسوأ مما يفعل المؤتمر الوطني في الشمال، وإذا كان ذلك حالها في موطنها بالجنوب فماذا ستفعل بخصومها في الشمال؟ كارزمية القيادة في الحركة كانت حكراً لجون قرنق وبرحيله تفقد الحركة هذه الميزة؛ نموذج النجاح العسكري والسياسي كان في فترة النضال ضد حكومة الخرطوم وافتقدته الحركة بعد سيطرتها على الجنوب الذي لم تستطع حتى الآن أن تقيم فيه الأمن أو تضبط سلوك الجيش الشعبي أو تؤمن فيه الخدمات الاجتماعية للمواطنين أو تحتوي القوى السياسية الأخرى تحت نظام يتفق عليه ويطمئن إليه الجميع. أما العامل الرابع وهو قوة الحركة الشعبية ووزنها العسكري والسياسي وعلاقاتها الخارجية، فأحسب أن ذلك كان أهم عوامل جذبها للمستضعفين والمهمشين من أهل الشمال الذين انضووا تحت لوائها أملاً في التقوي بها لمقارعة المؤتمر الوطني الذي انفرد بالسلطة واحتكر الثروة طيلة عقدين من الزمان وما زالت الحركة تتمتع بهذه القوة النسبية، فما عادت الأحزاب التقليدية والعقدية بقادرة على مواجهة الحزب الحاكم بصورة من الصور. وبرحيل الحركة جنوباً هل يستطيع قطاع الشمال أن يؤسس في وقت قصير قاعدة جماهيرية منتظمة تكون أكثر فاعلية من أحزاب المعارضة الشمالية، وعليه يحتفظ بأهم عوامل الجذب للحركة؟
أحسب أن لديه الفرصة بما له من قاعدة جماهيرية مقدرة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وقدراً من التعاطف الجماهيري في دارفور وربما في شرق السودان. ولكن ذلك لا يكفي إذا لم يحسن القطاع إدارة التنوع في داخله، ويشيع ديمقراطية حقيقية يحس بها الجميع، ويعكس وجهاً شمالياً قومياً يتفاعل معه كثير من أهل الشمال. ويعني ذلك أن يستقل قطاع الشمال تماماً عن هيمنة الحركة الشعبية في الجنوب وأجندتها وشعاراتها وسياساتها، ويقتحم الساحة مع الأحزاب الشمالية يختلف مع من يشاء ويتفق مع من يشاء دون أدنى نظرة إلى الخلف ليرى إن كانت الحركة في الجنوب تحب هذا الموقف القطاع أو تستهجنه، بل لعله من حسن التكتيك أن يبالغ القطاع شيئا ما في استقلاله عن الحركة الشعبية في الجنوب لأن الافتراض أن يكون متهما بالتبعية! ويستدعي ذلك أن يغير القطاع اسم الحركة الشعبية (رغم العشرة الطويلة) لأن ذلك يعني أنه ما زال مرتبطاً بكيان خارج دولة السودان الشمالية قد تكون العلاقة معه في وقت ما عدائية أو متوترة فينسحب ذلك عليه، ولا يذكر اسم «السودان الجديد» في شعاراته ولكن يحتفظ بالمضامين التي كان يجسدها الشعار فما زالت مطلوبة في الشمال، ولا أحسب أن شعارات الأفريقانية أو العلمانية مما ستقرب القطاع من جمهور أهل الشمال. ورغم مشروعية الدعوة لوحدة بين الشمال والجنوب على أسس جديدة أو علاقة كونفدرالية بين دولتين إلا أن الوقت الحاضر لا يصلح لمثل هذه الدعوات، فقطاع الشمال لم يستطع أن يقنع الحركة الشعبية بالوحدة أو الكونفدرالية وهو بين ظهرانيها وممثل في أجهزتها العليا فكيف ينجح في ذلك بعد أن خرج منها؟ إن الأقرب للواقع أن يدعو القطاع إلى تكامل اقتصادي بين الشمال والجنوب، وإلى معالجة القضايا العالقة بين الطرفين بالحوار الهادئ دون تشنج أو تهديد، ولا بأس أن يلعب القطاع دور الوساطة المحايدة بين الطرفين من أجل تسوية عادلة ومقبولة، وأن يدعو إلى سلام وجوار حسن، وإلى تبني الحريات الأربع لمواطني البلدين. ولا ينبغي للقطاع أن يرث علاقات الحركة الشعبية في الخارج وخاصة في الولايات المتحدة ليستعملها ضد حكومة الشمال مهما كان رأيه في تلك الحكومة فذلك شأن داخلي بينه وبين الحكومة، يتعاركان أو يختلفان أو يتفقان. وستكون الولايات المتحدة أقل اهتماما بالشمال بعد انفصال الجنوب والقطاع جزءٌ من ذلك الشمال فلا ينبغي أن يطمع في معاملة أحسن! وليتذكر القطاع أن هناك من يخشى منافسته في الساحة السياسية ولذلك سيسعى بكل جهده لدمغ القطاع بكل خطايا الحركة الشعبية السابقة والحاضرة، الحقيقية والمتوهمة ولن يكون إعلام القطاع ولا آلياته الجماهيرية أقوى من خصومه المتوقعين! باختصار فإن استقلال قطاع الشمال تماماً عن الحركة الشعبية في الجنوب هو طريقه الوحيد لبناء حزب وسطي يجد التأييد من الطبقة الوسطى المتعلمة ومن بعض الأقاليم التي تشكو من الظلم والتهميش، وبذلك قد يسهم في إحداث موازنة أكثر في الساحة السياسية المختلة وفي تطوير النظام الديمقراطي واستقراره. هل سيفعل؟ الله أعلم.
 

 

آراء