ثم ماذا بعد في السودان؟

 


 

 

ناصر السيد النور*
حولت الحرب الجارية في السودان والمفتوحة على كافة الاحتمالات وهي تدخل شهرها العاشر البلاد إلى خارطة تطبيقية لنماذج الحروب ونتائجها الكارثية وتداخلاتها الإقليمية والدولية. والأهم بطبيعة الحال تداعياتها الإنسانية المروعة بما لا يقاس عليها أي حرب أهلية في المنطقة من حيث دائرة الخراب والاتساع المتمدد بمساحاتها الجغرافية واسعة تدخل فيها شعوباً وقبائل وكل ما يشكله تنوعه المنقسم دائماً على أسس لم تكن لتقود إلى أكثر من الحرب نفسها. ولأن الحرب التي اندلعت في منتصف ابريل الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على خلفية تناقضات سياسية وصراعات بين مكونات سياسية وعسكرية ومليشاوية وجهوية، لم يكن الهدف من خوضها واضحاً أو يمكن تحديده من بين ركام ما خلفته من تصدع في بنية الدولة المتهالكة.
وإن ما شهدته الأيام الماضية من تصعيد على أكثر من جبهة من جبهات الحرب المتعددة من اجتياح للمدن وقصف للمدنيين وازدياد الكلفة البشرية وتشديد النبرة الجهوية بأحمالها الاجتماعية، جعل من كل الحلول والمبادرات على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي أبعد منالا. ولم يقتصر هذا التصاعد على الجانب العسكري المستمر على أرض المعارك، ولكن الصدام الدبلوماسي على الصعيد الإقليمي والدولي لم يكن بعيداً عن تأثيرات حرب التحالفات والتدخلات الإقليمية، فكلما اشتد اوار المعارك تباعدت فرص اللقاء بين قادة طرفي الصراع استجابة لوضع حدٍ لإنهاء نزاعهما الدموي.
ويستمر هذا التوتر على الصعيد الدبلوماسي ضمن المسار السياسي الدولي لإنهاء الحرب، فقد شكلت جبهة أخرى للحرب الدائرة انعكاساً لطبيعة اجندتها الخفية، فكل من الطرفين غض النظر عن دعاوى الشعارات يستند إليها كل فريق في شن الحرب. ومنذ تدشين الحلول الخارجية بعيد انطلاق الحرب في منبر جده برعاية أميركية سعودية كمبادرة ثنائية وخرى إقليمية في دول الهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق أفريقيا "إيغاد" لم تؤد إي منهما إلى اختراق ملموس في واقع الأزمة السودانية. ومؤخراً علق مجلس السيادة الحاكم الجيش السوداني مشاركته في اجتماعات القمة الاستثنائية الثانية والأربعين لرؤساء الدول والحكومات المقرر عقدها في أوغندا قاطعاً الطريق أمام أي حل قريب. وبما يفسره المراقبون من أن هذه الخطوة التي جاءت في بيان الخارجية السودانية موقف الحكومة من الدول التي استقبلت قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو.
وبهذه الشواهد على مسرح الأزمة السودانية المعقدة على مستوى تحقيق الأهداف أو الحسم بالمعني العسكري المباشر لأي من الطرفين المتقاتلين مما يزيد من القلق بشأن التداعيات المتسارعة في جانبها الإنساني ومصير أن يظل السودان دولة قائمة. والإصرار على سير القتال على هذا المستوى الوحشي يضع السؤال ثم ماذا بعد في السودان؟ وهو تساؤل لم يكن وليد الحرب الجارية، فمنذ أن تساءل الصحفي المصري الأشهر محمد حسنين هيكل عقب ثورة أكتوبر 64 التي أطاحت بالحكم العسكري للفريق عبود في القرن الماضي، إذ لم يكن السودان بلد تتضح فيه مسارات السياسية وطبيعة التعامل معاها كما ينبغي.
وإذا لم تتعدد مسارات الحلول المطروحة وتلك القابلة للطرح على طاولة التفاوض أو المناقشات في الشأن السوداني المأزوم فلا يمكن في غياب رؤية الحل أو التحرك نحوه بشكل فاعل، فإن الحرب وليس غيرها ما يحدد مسارات المستقبل وهي ليست على أي حال مرغوب فيها من كل الأطراف السياسية بما فيها أطراف الصراع. فنتائج الحرب المباشرة ستكون تمزيق البلاد بانفصال جغرافي واثني شامل قد حددت الحرب واجواؤها اتجاهه، ومن ثَّم ستتداعى بنية الدولة الفاشلة التي أدت الحرب إلى انهيار هياكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
هذا الموقف سيضع مستقبل السوداني إن لم يكن قد وضعه أمام سيناريوهات تطبق على هويته السياسية بما هو دولة وشعب. والواقع أن هذه السيناريوهات المحتملة لملامح سودان ما بعد الحرب ليست جديدة قد تكون الحرب قد أسهمت في بروزها من حيِّز التوقع إلى التنفيذ المباشر ورسمت حدودها التي بات من الصعب في ظل تصاعد الحرب التراجع عنها أو أيجاد وسائل بديلة. فالسودان الذي كان طوال تاريخيه السياسي عصياً على مطاوعة كافة النظم الديمقراطية منها والديكتاتورية طويلة الآجال وبصيغها الدستورية المختلفة لم تفلح في استيعاب تركيبته السكانية غير المتجانسة داخل إطار سياسي واداري يحفظ الحد الأدنى بما يمكن من خلاله تعريف الدولة وممارسة سلطاتها بعيداً عن مؤثراتها الجهوية المهيمنة.
إن سيناريو التقسيم الذي بات في حكم المؤكد بما يعني انفصال أحد اجزاءه على الرغم من أن مطلب الانفصال وخاصة دارفور ليس مطروحاً كخيار سياسي، ولكن بسيادة الخطاب الجهوي المتصاعد قد يصعد به في مواجهة المعادلة السياسية الصعبة التي يطرحها طرف الدعم السريع من شعارات مستجدة مشكوك في طرحها بالحرب. ويسعى كل طرف إلى تدمير الطرف الآخر باستئصال جذوره الاجتماعية بما يعني إبادة Annihilation على جماعة من السكان تقوم على انتماءات العرقية أو ما بات يعرف بالحواضن الاجتماعية وهو ما فُسَّر بضرب مناطق ومدن بعينها خارج نطاق المعارك انتهاجاً لسياسة الأرض المحروقة. وهو أمر لا يمكن تجاهل تأثيراته على سكان المناطق وما يمكن أن يحفز على النزاعات الانفصالية تفادياً لتهديد وجودي يستهدف المناطق بذريعة الانتماء العرقي للمقاتل في تلك المناطق.
ولا يمكن بحال تجاهل السيطرة والتمدد العسكري لقوات الدعم السريع في مناطق واسعة مما يسمح لها بفرض سياسية الأمر الواقع، ولن تكون مجرد أوراق ضغط على طاولة التفاوض مع الجيش فقط. وكما تظهر المؤشرات قد تؤسس هذه السيطرة لواقع سياسي واداري في غياب سلطة الدولة المركزية. ومع موجات التحشييد القبلي على حمل السلاح والغارات الجوية ذات الهدف الموجه واثارة جماعات في مناطق بعينها وتحريضها على القتال، يجعل من احتمالات الانفصال أو الخروج عن سيطرة الدولة (الجيش) أمراً وارداً وربما صيغة جديدة في معالجة الأزمة السودانية داخلياً وبالتالي تفاديا ما هو أكثر فداحة من الحرب نفسها. وهذا التصور المشوش على ما يبدو إلا أن ما يحول دون تنفيذه ربما عامل زمني ما بين نهاية الحرب وأقصى ما ينتج عنها من واقع لا تملك جميع الأطراف إلا الإذعان إلى ما يفرضه من حلول أو شروط.
إن الصيغ السياسية – ضمن السيناريوهات- لنظم الحكم بديلة كحل يلزم الخضوع لمطالب جماعات داخل دولة ما قبل الحرب، ستكون نظما تؤدي إلى قيام كيانات مستقلة أو شبه استقلال تخفض من قبضة الدولة المركزية على الأطراف حيث الأقاليم محل النزاع ومناطق الهامش الأخرى التي تستخدم الحرب قاضياها ولو ميكافيلياً في دعاوى الحرب. فإن النظم التي قد تفرضها الحرب أو تقترح ضمن حزمة الحلول مؤداها الحكم الذاتي أو فيدرالية وهي صيغ مجربة في تاريخ البلد السياسي وقد يكون بحكم ضرورة واقع الحرب أن يقود الحل الأخير الالتجاء إلى صيغة كونفدرالية ولو نظرياً وتكون ولادة جديدة لنظام داخل الدولة أو بين مكوناتها بشكل غير مسبوق على مستوى القارة والإقليم. وطبيعة مثل هذا النظام (الكونفدرالية) يتقضى توافقاً بين مناطق الدولة وأقاليمها لا يمكن أن يتوفر في مناخ الحرب، ثم أن الأحزاب والمكونات السياسية المدنية منها والمسلحة لا تملك تصوراً لمثل هذه الصيغة الطارئة على اجندتها وبرامجها السياسية حتى تلك تحمل السلاح في إطار الدعوة إلى رفع الظلم عن مناطقها.
وبقي أن الحل الخارجي كسيناريو قابل للتطبيق تفرضه مؤسسات دولية تحت غطاء قرارات أممية (الفصل السابع) تنقذها آليات حفظ السلام والحيلولة دون تمدد الصراع بما يشكل في نصوص الأمم المتحدة تهديداً للأمن والسلم الدوليين. وهذا السيناريو يكاد تجمع عليه بعض القوى السياسية المدنية مما يشير إلى استنفاد الحلول التي سعت لها في الخارج، وبدعوى أن السودان لا يحدد مصيره طرفا الصراع وحدهما. إذ أن للمبادرة المدنية والشعبية المتضررة من الحرب يحق لها الإسهام في حل الحرب. واي كان مصدر الحلول لإنهاء الحرب الدامية يصب في مصلحة السودانيين وليس من مصلحة ملحة غير السلام.
###

nassyid@gmail.com

 

آراء