ثورة على القديم
مؤيد شريف
9 July, 2012
9 July, 2012
sharifmuayad@gmail.com
جاءت صرخة أطلقتها سيدة سودانية متقدمة في العمر مُعبرةً عن حال الملايين من السودانيين الفقراء والمُعدمين الذين لا يجدون ما يسدون به الرمق ويكابدون في كل يوم وساعة الصعاب لأجل توفير لقمة العيش: " ما لاقين سخينة، ما لاقين طماطمة ".
صادفت السيدة الفُضلى تظاهرة مرت من أمامها بضاحية شمبات – بحري، فعبرت بعفوية وصدق عن الحالة الإقتصادية والمعيشية الكارثية التى يُعانيها السواد الأعظم من أهل السودان، وتفاعلت مع هتافات المتظاهرين بالتركيز على حالها ما جعل صرختها تخرج صادقةً، ويشعرُ بها كل من مرَ على التسجيل المبثوث على مواقع التواصل الإجتماعي والصحف الإلكترونية السودانية.
حالُ السيدة، والسواد الأعظم من السودانيين لا يخفى على الجنرال البشير وأطقمه السياسية والإقتصادية، وأقر الجنرال نفسه بأن الإجراءات الإقتصادية الأخيرة، القاضية بزيادة أسعار المحروقات، تُضيف وتُضاعف أعباءً إضافية على الشرائح الإجتماعية الأكثر ضعفاً والأقل حظاً في المجتمعات السودانية، وكذلك إعترف نائبه الأول على عثمان طه بأن "تبديداً" لمدخولات البلاد من العملات الصعبة قد وقع من خلال ما أسماه بـ"البذخ السياسي"، وقطع النائب الأول "عهداً" إلى الشعب بعدم تكرار الأخطاء السابقة في الصرف من الأموال العامة بأولويات مختلة.
فُجعت قيادات الإنقاذ، وأظنها "تألمت" غاية الألم وهي تُراقب الفئات العمرية صغيرة السن، عالية الهِمة، من طالبات وطلاب الجامعات، وحتى الأطفال، يُبادرون بالتظاهر في الجامعات والأحياء السكنية، ويُعلّون هتافاتهم بضرورة إسقاط نظام الجنرال البشير، ويتجرأون على الجنرال، بوضوح الهُتاف ودون تأتأة في شعاراتهم، بوصفه بـ"لص كافوري" والفاسد الأول الذى يُظلل ويحمي بالقمع مجموعات فاسدة أخرى نافذة في السلطة.
كيف لا يُفجع الرئيس ونافذيه وقد خرج على سلطتهم شابات وشباب صغار السن، ظنوا أنهم وفقوا في إعادة صياغتهم - عبر ربع قرن من الحكم أو يكاد - على "هدي" "المشروع الرسالي" أو الحضاري .... الذى إدعوه وبذلوا في سبيل طرحه تثبيته أنفس عزيزة وجهد جهيد ومال غزير.
لما وجد نظام الجنرال البشير نفسه في وضعٍ إقتصادي مهترئ، وخزينة دولة مُفلسة - بحسب توصيف وزير المالية في خطابه أمام البرلمان - ولما غابت عنه كل الوسائل لتدارك العجز الكبير والمتسع في الميزاينة، وقرر أن يُحمل الشعب المطحون بالغلاء نتائج سياساته الإقتصادية، وبذخه السياسي، وفساده وتهاونه في لجم الفاسدين، إستخدم خدعة من فرط إنكشافها لم تعد تنطلي على
أحد: حاول النظام أن يُقدم الوعد للشعب بتطبيق إجراءات صارمةً للتقشف الحكومي على إعلانه لقرار رفع أسعار المحروقات، وهو ما فشل فيه عملياً إذ تم إنزال الزيادات السعرية للمحروقات قبل أن يتم إعفاء أعداد من "الخبراء" لم يكن أحد يعرفهم أو يعلم حدود إختصاصاتهم ومهامهم الوظيفية وقدر مخصصاتهم المالية.
النظامُ نفسه يعلم أن العجز في الميزانية كبير ومتسع ولا أمل في أن تغطيه أية إجراءات تقشفية من أي نوع، غير أنهم قدروا بأن مجرد الإعلان عن إجراءات تقشفية تطال المسؤولين المُنَعميّن كافٍ لتخفيف غضب الشعب وتجنب إحتجاجه، وقد وضح خطأ التقدير بخروج التظاهرات وإتساع رقعتها.
لجأ النظام كعادته لإستدعاء التعامل الأمني مع المتظاهرين، ومحاولة الإيهام بأن المتظاهرين قلة قليلة مدفوعة من أحزاب معارضة، وتبارى قادته في الإساءة للمتظاهرين إبتداءً بالجنرال البشير الذى وصفهم بشذاذ الآفاق والقلة "المحرشة"، وليس إنتهاء بمستشاره مصطفى إسماعيل فقال عنهم انهم "خفافيش" وغير ذلك من الأوصاف.
هجوم قادة النظام الكلامي، وإساءاتهم للمتظاهرين من الشابات والشباب، مَّثل الضوء الأخضر لعملاء جهاز الأمن، وأفراد الشرطة، والجماعات شبه العسكرية من المدنيين، لقمع الإحتجاجات بقسوة، وإستخدام كافة الوسائل من ضرب بالهراوات والعصي الغليظة، وإعتقالات وتعذيب وحشي - أظهرت صور لمعتقلين تعرضوهم للتعذيب في معتقلات الأجهزة الأمنية - وتوظيف سيئ للقضاء وأحكام القضاء ..
طالبات وطلاب الجامعات الذين إبتدروا الهبات الشعبية والمطالبات بإسقاط نظام الجنرال البشير، مؤكد أن من بينهم مُتحزبين لأحزاب معارضة، يأملون في أن يكون فعلهم مبتدأً لثورة كاسحة تُزيل كل أثر للنظام، لكن يمكن هنا الجزم أن الغالبية الغالبة من المتظاهرين في شوارع الخرطوم الوسطى وشوارع الولايات وفي الأحياء والأزقة الضيقة ليسوا قطعاً من المُتحزبين أو المُلتزمين سياسياً، إنما هم من السواد الأعظم المغلوب على أمره والمطحون بالغلاء والمترتب على كاهله الأثر الأعظم لإنهيار الإقتصاد الوطني، ومشاركتهم في الإحتجاجات تحت عنوانها الواضح "إسقاط النظام" تُعبر عن قناعاتهم الراسخة بإنتفاء إمكانية إيجاد مخارج لإحتقانات ومشكلات البلاد ما دام نظام الجنرال البشير قائما. وهنا يَكمُن الفرق وتتمايز نوايا المتظاهرين المُعلنة هتافاً عن النوايا الظاهرة لبعض السياسيين من المحسوبين على المعارضة؛ فالجماهير أسقطت من حساباتها الرجاء، وتخلت عن العشم في إستجابة النظام للنداءات المتواترة والمتكررة له بضرورة الإصلاح، وإعادة الدولة إلى الشعب بعد أن مُلّكت حيازةً بوضعِ اليد لحزبٍ حاكم، ورفعت صوتها وهُتافاتها بضرورة رحيل النظام، بينما يرى بعض السياسيين المعارضين في الإحتجاجات ضغوطاً مؤثرة على النظام، لا تُهدد سلطته بالزوال، لكنها قد تُرغمه على القبول بـ"أجندة للحل الوطني" لتتجنب البلاد بالنتيجة منزلقات عُنفيّة ومخاطر أخرى يُفَصلون فيها.
يُنبئ القمع المفرط والعنف غير الآدمي الذي واجه به النظام طلائع الإحتجاجات بإستعداديته العالية للذهاب بعيداً في القمع والإستمرار في إقتراف الجرائم دون إكتراث بالرأي العام المحلي أو العالمي، والنظام ليس أمامه أو خلفه ما يخسره، فالرموز منه تُلاحقها مذكرات ضبط وإحضار دولية، ويحسبون كل حركة حولهم دسيسة ومكيدة لِحَز رقابهم، والسلطة تعني لهم الأمان بقدرٍ من المحاكم المحلية والدولية والحصانة من إستحقاق العدالة.
عبّرت موجات الإحتجاج الأخيرة عن نشوء وتقوي حركات طلابية شبابية مُتحللة من كل إلتزام حزبي عائق، منطلقة في التفكير نحو مخاطبة أصل الإستشكال التاريخي في الحالة السودانية، مُتطلعة لإحداث التغيير الجذري والشامل في الواقع السوداني بما يتعدى المطالبة الوقتية بإسقاط نظام الطاغية إلى المناداة بضرورة نقض الإحتكارية التاريخية للعسكر وقدرة الأحزاب الطائفية والعقائدية التقليدية على التعامل معها ضمن شروطها.
//////////////