ثُم ماذا بعد بلبال أبريل الكذوب؟؟ … بقلم: مهدي إسماعيل مهدي/بريتوريا

 


 

 

mahdica2001@yahoo.com

 

ليس ثمة سبب يجعل المرء ينتظر حتى 06/ يناير/ 2011 "موعد الإستفتاء/الإنفصال" لكي يتساءل حينها عن السودان الجديد ومستقبله ومصيره، فالرؤيا واضحة لكل مُبصرٍ وأعشى، ولقد بح الصوت ولم يهن القلم بعد، والكُل يدعو بالصوت الجهير إلى تكوين وعاء تنظيمي شامل لكل قوى السودان الجديد، وخاصة بعد توجه سفينة الحركة الشعبية إلى وجهة إستقلالية/إنفصالية محضة بعد غياب زعيمها/ قرنق (بفعل فاعل يُدرك ما يفعل ويقرأ خارطة الأحداث جيداً) ولقد تأكدت هذه الوجهة لكُل مُتشكك خلال الأيام القليلة الماضية.

 

ظل كثير من ذوي الرؤيا والبصر الحديد ينادون منذ أمد بعيد بتكوين إطار جامع يضُم كُل قوى السودان الجديد، أي قوى الديمقراطية والحداثة في السودان، وأصبحت هذه المُناداة أكثر إلحاحاً بعد حسم الحركة الشعبية لأمرها بدون مواربة، فترشيح الحركة للسيد/ ياسر عرمان في المبتدأ كان رسالة فحواها أن أمر الإنتخابات شأنُ يخُص قطاع الشمال في الحركة ولذا رشحت من يهمه أمر الوحدة والسودان الجديد "ويُحمد لعرمان أنه لا يزال صامداً وقابضاً على جمر وحدة السودان الجديد"، أما رفاقه من تيار "الجنوب أولاً" فقد أكدت لهُم ممارسات المؤتمر الوطني خلال فترة الشراكة أن الوحدة مع هؤلاء مُستحيلة "إلا لمن يحب تعذيب ذاته"،  وقد أتى إنسحاب الحركة الشعبية الأخير من الإنتخابات الرئاسية والتشريعية (بعد طول تردد وبلبلة) بمثابة لطمة للمؤتمر الوطني حيث أنها ضمنت الإستفتاء على تقرير المصير (الأمر الذي يهمها من كل هذه الهيصة) وحرمت المؤتمر الوطني من الشرعية التي يسعى إليها (عبر إنتخابات مزورة قبل أن تبدأ)، وليس في الأمر أية صفقة أو مؤامرة كما يحاول أن يروج أمن المؤتمر الوطني وأزلامه، ولئن كانت هنالك مؤامرة فهي من الحركة ضد المؤتمر الوطني "لأنها ضمنت ما تُريد ومنعت غريمها (شريكها اللدود) مما يبتغي".

 

 لا تثريب على الحركة الشعبية في قرارها بالإنسحاب من سباق الرئاسة وإنتخابات الشمال (مثلث حمدي المشئوم) فسلوكها ليس سوى رد فعل طبيعي، لمُمارسات ظلت تتواتر منذ غزو عبد الله سعد بن أبي السرح لمملكة دُنقلا وإبرام إتفاقية البُقط (360 عبداً سنوياً)، وإنقسام المجتمع السوداني المسيحي إلى سادة وعبيد، ومُسلمين وإحيائيين/مسيحيين، وعرب وزنج، وذلك مُنذ نشوء مملكة سنار "تحالف العبدلاب والفونج". ومن بعده غزو دولة الخلافة الإسلامية العثمانية للسودان "الذي لم يشفع له حُسن إسلام المؤلفة قلوبهم" بحثاً عن العبيد والمال، ثُم إستمرار النهج الإستعلائي في الفترة المهدوية القصيرة (13 عاما؛ 1985-1998)، والتي إنتهت بالإستعمار الثُنائي، والذي لم يكُن في جوهره سوى إستمرار لسياسة النهب والإستغلال وإن كان بصورة أكثر تحضُراً ومواراة، وللمفارقة فقد حاول المُستعمر الإنجليزي توحيد الشعوب السودانية بإلغاء تجارة الرقيق فاعترض زُعماء الطوائف الثلاثة بشدة على ذلك (مُذكرة سياد الحيشان الثلاثة- المهدي والميرغني والهندي بتاريخ 06 مارس 1925)، ولم يشذ الحُكم الوطني عندما آلت إليه الأمور عن سياسة النهب والإستغلال والتهميش، فقد تميز الحُكم الوطني في كُل حقبه بضيق الأُفق وقصور الرؤية وضحالة الفكر، مُنذ أن ظن آباء الإستقلال أن السودان دولة عربية/إسلامية خالصة، وتجاهلوا كل المكونات والهويات الأُخرى للأُمة السودانية الناشئة، سعياً وراء الحفاظ على إمتيازاتهم التي حازوا عليها بسبب التفوق النسبي على بقية الأعراق، واجتهدوا وجاهدوا في سبيل تقنين هذه الإمتيازات وحمايتها بسياج كهنوتي، يُطلق عليه حيناً الدولة المهدية وحيناً آخر "حُكم السيدين/الطائفتين"، ومن بعد ذلك مُناداة أحفادهم بالدستور الإسلامي وبرنامج الصحوة  والجمهورية الإسلامية، وأخيراً "المشروع الحضاري"، وجميعها مُسميات لشئ واحد.

 

ثُم أتى نظام الإنقاذ وصمم على حصر هوية السودان في العروبة والإسلام وأردف ذلك بتسيير كتائب الجهاد، ليزيد الأمر ضغثاً على إبالة، فاتضح منذ إبرام إتفاقية نيفاشا وإنسحاب آخر جُندي شمالي من الجنوب إنفصال/إستقلال الجنوب، وما يحدث الآن ليس سوى الحصاد المُر والجانب الآخر لإتفاقية نيفاشا وثنائيتها، والتي لم تر فيها الحركة الشعبية (بعد تغييب قرنق) سوى حق تقرير المصير فعضت عليه بالنواجذ وثابرت على تنفيذ كُل ما يُعضده من إنسحاب للجيش القومي من الجنوب وترسيم للحدود وقسمة للبترول وإستفتاء في منطقة أبيي، ومُطالبة على إستحياء بمشورة شعبية هُلامية (وليس إستفتاءً على المصير) في مناطق النيل الأزرق وجبال النوبة"، بينما تراخت تماماً عن قضايا التحول الديمقراطي وما تستوجبه من قوانين وتشريعات، وساومت وتنازلت بشأن قوانين الصحافة والمطبوعات وقانون الأمن القومي والتعداد والتسجيل الإنتخابي،،، إلخ، "ولا عزاء لشماليي الحركة" ونستثني من ذلك د. الواثق كمير، الذي أدرك المسألة باكراً فآثر دعوة الحركة ومشايعيها من أقرانه "وقد أوشكنا أن نكون منهم" إلى العودة إلى منصة التأسيس ولكن هيهات، "وكان كمن يؤذن في مالطة، ولسان الحال يقول "لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تُنادي".

 

أما الشريك، أي المؤتمر الوطني (إسم التُقية للأخوان المُسلمين) فقد رأى في الإتفاقية، آلية برعاية وقبول دوليين لتنفيذ مشروع الإسلاميين القديم الهادف إلى التخلص من الجنوب "خميرة العكننة" والإنفراد بالشمال، الذي لن يعُد لمُسلميه عذر بالتحجج بالتنوع والتعددية لرفض الإسلام السياسي بمفهومه الشوفيني الإقصائي، وفي ذات الوقت يكون الإسلامويون قد كسبوا ود الغرب بإلتقاء مصلحة مثلث التقسيم "الغرب والحركة والمؤتمر" في فصل الجنوب وتمزيق الوطن الحدادي مدادي، ومما يؤكد هذا الزعم، الود الكائن حالياً بين الولايات المُتحدة "مُمثلة في مبعوثها، الجنرال/ قرايشن" وبين سدنة حكومة الإنقاذ الذين لا يدركون أن ذات الولايات المتحدة "الودودة جداً الآن" سوف تقلب لهم ظهر المجن بمجرد إجراء إستفتاء تقرير مصير جنوب السودان وتأكيد إستقلاله/إنفصاله، وعندها يكون للغرب والإدارة الأمريكية سناريوهان لا ثالث لهما؛ إما هز العصا أمام حُكومة الإنقاذ وإبراز العين الحمراء لها، وفي هذه الحالة قد ينتهي الأمر بالبشير – بعد أن يكون قد إستنفد دوره بإنفصال الجنوب- إلى سجين في لاهاي يندب غفلته الكُبرى وحظه العاثر.

أما السيناريو الثاني فهو مُكافأة البشير (ونظام الجبهة الإسلاموي) بالمحافظة عليه وإستمراره في الحُكم في حالة من الضعف والوهن والرفض الداخلي (بعد إنسحاب الاحزاب الأساسية) وعدم القبول الخارجي (بعد تقارير مجموعة الأزمات وإنسحاب بعثة الإتحاد الأوروبي من المُراقبة)، وبالتالي فإن البشير حتى بعد مسرحية فوزه يكون قد تحول فعلاً إلى بطة عرجاء (Lame Duck)، تُستخدم في إستكمال مُخطط التفتيت وذلك بتأجيج مُشكلة دارفور وتحويل الدعم الدولي من دارفور إلى الجنوب (كما صرح قرايشن بعضمة لسانه) وإضعاف نظام الإنقاذ من خلال إجباره على تدبير شئون النازحين واللاجئين، في ذات الوقت الذي يتم فيه دعم حركات التمرد بسخاء حتى يتوجه الناقمون الجوعى إليها. كما أن علينا أن لا نغفل التأثير السالب لذهاب مُعظم حقول النفط إلى الجنوب، فالغرب يعلم أنه لا يوجد زعيم سوداني مُجبر على تحمل وزر فصل الجنوب ومن بعده دارفور سوى الرئيس البشير ونظام الجبهة الإسلاموية، ولذا لا بدُ من الحفاظ عليهما في حال من المُحاصرة والتركيع والتلويح بعصا الجنائية الدولية (إذا فرفروا).

 

    سواءاً قبلنا هذا الرأي، أم رفضناه، يظل السؤال قائماً، ثُم ماذا بعد فوز البشير بالرغم من نُقصان شرعيته أكثر من ذي قبل؟ وثُم ماذا بعد إنفصال الجنوب وأبيي؟ وهل تموت دعوة ورؤيا السودان الجديد بموت قرنق و"إنسحاب عرمان" وإنفصال الجنوب وأبيي؟؟.

كلا وألف كلا، فبذرة السودان الجديد موجودة في وجدان شعوب الهامش والقوى التقدمية منذ جمعية اللواء الأبيض وجبهة نهضة دارفور وحركة سوني ومؤتمر البجا وإتحاد عام جبال النوبة وتنظيمات اليسار بكافة أطيافها وقوى الوسط المُستنير التي رفعت شعار لا قداسة مع السياسة، وناصبت الطائفية الدينية العداء قبل أن يرتد الأزهري على عُقبيه، كما أقرت ذات الأحزاب الطائفية- الأُمة والإتحادي "دعك عن التحالف الفيدرالي والحزب الشيوعي والحزب القومي وحركات دارفور والشرق وكردفان،، إلخ"، بمُقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية التي تقر بوضوح بعلمانية السودان-وهو حدثُ لو تعلمون جليل- إذ لا سبيل لوحدة بلاد المليون ميل وإستقرارها إلا بتطبيق مبادئ السودان الجديد المتمثلة في (العلمانية والمواطنة المتساوية والعدالة الإقتصادية/ الإجتماعية/ السياسية/ الثقافية) ، وفي ذات الوقت لم تكُن هذه الأحزاب الكُبرى "القائمة على أساس ديني- طائفي وعقائدي" قادرة على قطع حبلها السُري "الديني" الذي يُغذيها، والتنافس على أساس المواطنة وحدها والمساواة في الحقوق والواجبات دون إعتبار لعرق أو قبيلة أو دين أو لون، وهذا سبب البلبال والتأرجح "والجقلبة" التي نشهدها الآن.

 

تلعب القوى الكُبرى (وعلى رأسها الولايات المتحدة) دوراً مفصلياً في رسم وتوجيه المشهد السياسي بالسودان حالياً، مُستفيدة في ذلك كما اسلفنا من إلتقاء مصلحتها مع مصلحة تياري الإنفصال في المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على السواء، وتأرجح المعارضة التقليدية لوقوعها بين شقي رحى حقائق العصر (التي تجلت في دعوات ومواثيق حقوق الإنسان ومُقررات مؤتمر أسمرا) التي تشدها إلى قوى السودان الجديد؛ وبين إرثها الديني/ الطائفي الذي يربطها بقواعدها، ويشدها نحو الحركة الإسلامية (تحالف أهل القبلة)، بينما أصيبت قوى السودان الجديد في مقتل بتغييب حاديها، وتفضيل الحركة الشعبية للإنفصال على الوحدة بمعناها ومحتواها القديم.

 

هذه هي المواقف الراهنة للقوى الخارجية والداخلية، ولكن لا يزال التساؤل قائماً، هل تتبدل هذه المواقف بعد أبريل، وكيف؟ وفي أي إتجاه ؟؟، وأين تبخرت الجماهير التي استقبلت قرنق، وأين الذين تحمسوا لعرمان في طوافه الإنتخابي وتجاوبوا مع شعاره "الأمل والتغيير"، بل ما هو المستقبل السياسي لعرمان، ولا أقصد بذلك عرمان الشخص وإنما أعني رؤى وبرامج السودان الجديد، التي أصبحت بنداً ثابتاً في أدبيات وبرامج كُل أحزابنا (بما فيها المؤتمر الوطني)، بل إن هذه الرؤيا (كالمواطنة مثلاً) متضمنة في الدستور الإنتقالي الحالي، ولن تغيب عن أي دستور قادم.

 

هذه التساؤلات هي موضوع مقالنا القادم، بإذن الله.

 

آراء