جذرية الفكر والمواقف لدي الأستاذ محمود محمد طه!

 


 

بثينة تروس
17 January, 2023

 

تحل بيننا هذه الأيام الذكري الثامنة والثلاثين لاستشهاد الأستاذ محمود محمد طه، والذي تاَمر علي اغتياله الاخوان المسلمون ورجال الدين والفقهاء، الذين اتهموه بالردة ـ متماهين مع سلطة نميري التي حاكمته بتهمة اثارة الكراهية ضد الدولة، وشمل التآمر دول المحاور التي سخرت إمكانياتها المالية والاعلامية من خلال مؤسساتها الدينية، الازهر في مصر، ورابطة العالم الإسلامي في السعودية، للتخلص منه. وفي تقديري الشخصي لو أن الأستاذ محمود لم يكن جذرياً متسقا مع فكره وقوله ومع إرادة التغيير، ومبدئياً في رفع الوعي الإنساني من وهاد الجهل والرجعية، لا صبح في عداد المتنطعين الاسلامويين ذائعي الصيت الذين تفسح لهم المجالات ووسائل الاعلام، لكن شجاعة الحق والتزام المبدأ لم تبق له من بين الخوارين نصيرا.
التزم الأستاذ محمود جانب الشعب ينصره، طوال حياته، فلم ينحاز الى حكومة او معارضة لا تخدم مصلحة الشعب، في الوقت الذي تكالب فيه أصحاب المصالح والأغراض على الشعب يضللونه باسم الدين ويستغلونه من اجل استمرار مصالحهم، ودوران عجلة الفشل في الدولة، ثم أنه كان يتقدم حتى تلاميذه فما دخلوا سجنا الا وكان أولهم وما عقدت لهم محاكمة الى وتقدمهم ولما جاء يوم الفداء العظيم تحمل هو المسئولية وفعل ذلك برضاء تام تكشفت عنه ابتسامته الناصعة امام حبل المشنقة.. ليس كما يفعل قادة الأحزاب الأخرى من الذين، يرسلون اتباعهم الى أرض المعارك ثم يأتون لاستلام السلطة على جثثهم.. كما سطوته الفكرية لم تقيده بقيود السياسة (اسيت للشعب السوداني فانه شعب بلا قادة او قل انه شعب عملاق يتقدمه اقزام)1977. وحين شوهت الشئون الدينية فكرته، قال (الشعب السوداني شعب اصيل لكن تنقصه المعلومات).. كان سباقاً ً في نقد وفضح ادعياء الدين بثبات مواقفه وقد ذكر (سوف يأتي يوم توضع على باب الازهر خشبة مكتوب عليها هنا كان يدرس الجهل).
وفي ثورته التنويرية كتب وحاضر واقام المنابر الحرة واسس لثورة فكرية بتقديم الإسلام في قالب علمي يخاطب العقول، بعد أن تمرّست الطائفية وأذيالها في سوق الشعب ضد مصلحته.. وتلك الثورة لم تكن حكراً على النخب، بل كانت جذورها ضاربة في شوارع ومدن وقري وارياف البلاد تخاطب عقول وقلوب بسطائها.. حذر من تامر الإسلاميين (خيانة الأخوان المسلمين، وكذبهم، وسوء خلقهم وقلة دينهم، ستتضّح لشعبنا بصورة جلية، عمّا قريب، ويومها سيتم العزل التام، عزل الأخوان المسلمين عن هذه الدعوة الدينية التي يتشدقون بها، وسيطّهر الإسلام مما يلصقونه به من تشويه، ومن شوائب) 1979..
والنسب الثوري بين أكتوبر وديسمبر المجيدتين، انهما صنيعتان للشعب بدون قيادات حزبية، طالبتا بالعدالة والتطهير السياسي، وقد راهن الأستاذ محمود على ظهور هذا الجيل الديسمبري التواق للحرية والانعتاق من ربقة الجهل المتوارث (الشعب السوداني خذلانه جاي من قياداته موش منو هو.. والشعب السوداني دلل على المسألة دي لأنه انتصر في ثورة أكتوبر بدون زعامات ولو كانت فيه زعامات، ثورة أكتوبر ما كانت تقوم).. ثم تحدث عن العدالة (انا متأكد من حاجة، انه راح يجي وكت للشعب دا ليحاسب الناس.. ما تتصوروا ان مسالة التطهير في ثورة أكتوبر كانت عبث.. ما تمت لكن كانت تمني الشعب.. بتجي المرحلة البيمكن التطهير فيها ويكون نافذ.. لان الشعب في الوكت داك بيكون اقوي من ما كان هسع)..
من اوضح ملامح جذريته الفكرية في امر هوية السودان وأفريقيته وتعدد شعوبه، لم ينادِ بالحكومة الدينية لأنها تقوم على العقيدة التي تفرق ولا تجمع، لكنه تحدث عن فكرة الدستور الإنساني الذي يقوم على أصول دين الفطرة، وهو دستور يتسامى على العقائد الدينية ويجد فيه جميع السودانيون تطلعاتهم في الحياة الكريمة، ولكي يتم ذلك لابد من ان يساهموا في وضعه بأنفسهم ليعبر عنهم وعن اشواقهم.. وبالتالي نادى بقيام حكومة ديموقراطية اشتراكية فيدرالية، وعارض سابقة تعديل مادة أساسية من مواد الدستور فصل بموجبها أعضاء الحزب الشيوعي المنتخبين من البرلمان.. ومحاولات الاخوان المسلمين والأحزاب الطائفية في وضع دستور يلتحف قداسة الدين أسماه الدستور الإسلامي المزيف.. والشاهد ان تجذر فكرة الوحدة الوطنية عند الأستاذ محمود قادته لسجون المستعمر الإنجليزي حينما عارض قرارات المجلس الاستشاري لشمال السودان الساعية لفصل الجنوب في يونيو 1946 ومجدداً في ظل قوانين سبتمبر 1983 التي وصفها بانها شوهت الإسلام وهددت وحدة البلاد.
أما قضية المرأة هي من أبرز معالجات الجذرية لدي الاستاذ محمود، بطرحه لتطوير التشريع الذي فيه تحقيق لكرامة المرأة، ويواكب ما حققته من مكاسب وحقوق، وذلك لاستناده على القران المكي - أصول الاسلام بعكس نصوص الشريعة الإسلامية التي فيها تمييز ذكوري سلطوي يتكئ علي نصوص القوامة التي تجعل الرجال اوصياء علي النساء مهما بلغن من التقدم والتطور.. وقد طرح الأستاذ أمر الحجاب بأنه ليس اصلاً في الإسلام وانما الأصل هو السفور (أي الخروج بالزي المحتشم)، وكذلك تحدث عن أن تعدد الزوجات ليس اصلاً في الإسلام، كما أن الطلاق والعصمة حق للمرأة كما هي حق للرجل.. كل هذه القيم الرفيعة التي نادى بها منذ ستينات القرن الماضي أصبحت الآن حجر الزاوية الذي اباه البناؤون وجاءوا يبحثون عنه بلا هدى ولا كتاب منير.. فجميع الدول الإسلامية تستند في الأحوال الشخصية على الشريعة الإسلامية، وتظهر مفارقتها بين ما عليه واقع المرأة المتقدم وتلك القوانين الرجعية..
وفي المشروع التجديدي والفهم العصري للإسلام عمل الأستاذ محمود على فك التعارض البادئ للعيان بين النصوص القرآنية، والتفاسير الفقهية، بتحرير عقول الافراد، فقدم الحل الذي يتناسب وحاجتهم للحياة الكريمة، وذلك بالانتقال من نصوص فرعية في القران المدني خدمت احتياجات مجتمع القرن السابع، الى أصلية في القرآن المكي تملك الحلول لمشكلات البشرية المعاصرة وهو ما أسماه بـ(الرسالة الثانية من الإسلام) حيث حرية الاعتقاد وحرية الرأي والمساواة الاقتصادية، والاجتماعية وان (الإسلام برسالته الاولي لا يصلح لإنسانية القرن العشرين) حيث جزم بعدم إمكانية تطبيق الشريعة الإسلامية كنظام حكم، وذلك لقصورها عن حل مشاكل البشرية، وانجاب الافراد الأحرار.
لقد لخصت كلمته امام المحكمة جذريته في الانتماء للشعب (..فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها، غير مؤهلين فنيا، وضعفوا أخلاقيا، عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين.. ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون، مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر، والتنكيل بالمعارضين السياسيين)..

tina.terwis@gmail.com

 

آراء