جنقو وجنقجورا وبركة ساكن

 


 

 

 

كان خبراً سعيداً لي حين حملت الأنباء فوز رواية (الجنقو مسامير الأرض)، في ترجمتها الفرنسية، للروائي السوداني الكبير عبد العزيز بركة بجائزة معهد العالم العربي بفرنسا. وفي غمرة المخاض العسير للوطن، وهو يشق طريقه نحو السلام والتحول الديمقراطي بعنت ومشقة، ولكن بصبر وإيمان وثقة، وبفضل مقاتلين وأبطال وشهداء، كلٌ في مجاله ومحل ارتكازه، فإن إسهام الكتاب والمبدعين، ومنهم بركة، كان وما زال أكثر وأعمق أثراً، يتجلى كل يوم في المحافل في هدوء، وهم يقاتلون بالبيان الأحمر كقول المجذوب: (إن لم أكن فيك المغير بسيفه/ فأنا المقاتل بالبيان الأحمر). يدافعون عن العمال، ملح الأرض والزراع المستضعفين من الجنقو مسامير الأرض من الغبش، الكادحين والمسحوقين وأمثالهم في أغنى وأفقر الأوطان! الجنقو، الجنقجورا فمن هم؟ ومن أين جاءت الكلمة وكيف تحورت، وهي تنتقل من أقصا غرب السودان إلى أقصا شرقه؟

أدناه بعضٌ يسيرٌ من تاريخ اللفظ ورحلته والتحولات والمحمولات الاجتماعية والثقافية التي أحاطت به، آمل أن يكون به بعض الفائدة وأن يثير حواراً مثمراً للمهتمين، وفي ذهني من أمثال الأعزاء عجب ألفيا، وخالد فرح وصديقنا كمال الجزولي، وبالضرورة أساتذتنا، عبد الله علي إبراهيم و عمر شاع الدين، هؤلاء على سبيل المثال فحسب، لا حصرا.
عندما تفتحت أعيننا، بداية الخمسينات، كان موقف لواري السفر في الجزء الجنوبي الشرقي من رهد الفاشر، تحت ظل الهرازات الضخمة في الوادي. وفي الخريف، تغلق الطرق رسمياً وتمنع السفريات وحركة اللواري، وعند انتهاء موسم الأمطار تفتح الطرق فيعود للموقف حركته الدءوبة، ولكن عندها سيكون رهد الفاشر ممتلئاً لأشْهُر قادمات. لذا ينتقل الموقف إلى " آبار حجر قَدّو" عند النقعة المشهورة باسم ميدان آدم الخليفة في الجزء الشمالي الشرقي نحو مجرى وادي"سويلنقا" الذي يشق طريقه نحو الرهد الكبير. هنالك يكون الموقف البديل الشتاء كله إلى أن تنحسر مياه الرهد من عند الهرازات، فيعود الموقف إلى مكانه الأكثر وسعاً وأيسر حركة.
كان وكلاء الترحيلات من التجار أمثال الأعمام محمد علي أبوسم (أبو زهرة) والطاهر محمد إبراهيم وعثمان التهامي، نَمُرُّ أمام متاجرهم فنقرأ اللافتات التي تقول فلان الفلاني، متعهد وكومسنجي أو (قومسيونجي) ووكيل ترحيلات، وتاجر عمومي، وربما استوقفتنا الكلمتان ، فيتعذر علينا فهم معناها، مثل ما يتعذر علينا معنى (خردوات) و(منيفاتورة)، ربما إلى الآن!!
في مارس من كل عام تأتي اللواري من القرى وبعض المدن كالجنينة وكتم وبعض الأطراف إلى الموقف، مكدّسة بأناس أغلبهم شباب من قبائل شتى وألسن مختلفة، يتم ترحيلهم من مركز التجمع بالفاشر، إلى مشروع الجزيرة للقيط القطن. يتولى هؤلاء الوكلاء أمر تجهيزهم وتنسيق سفرهم واحتياجاتهم حتى محطتهم الأخيرة، وكذا عند العودة لديارهم.
أصطلح أهل الفاشر على تسمية هؤلاء تحديداً بلفظ (الجنقجورا)، ومفردها (جنقوجوراوي)، هكذا دون حذف أو تعديلّ، فلأهل دارفور، والفاشر بخاصة، طريقتهم في تصريف اللغة والنسب والجمع، والتصغير، والتأنيث والتذكير. فالمنسوب إلى الجنقجورا، جنقوجوراوي، وأحياناً (جنقوجوراي)، والمنسوب إلى كيرا (كيراوي)، والمنسوب إلى التنجر (تنجراواي) والمنسوب إلي كانم، وكانمبو (كانمباوي)، وإلى الفور (فوراوي) وإلى إرينقا (إرينقاوي) أو (إرينقاي) أحيانا، والمنسوب إلى الدينكا (دينكاوي) وإلى الجانقي (جنقاوي) وأحيانا (جنقاي)، والأسنقور (أسنقوراوي)، وأحياناً (أسنقوري)!
ولأن أغلب هؤلاء آتون من القرى البعيدة والضواحي ومن القبائل الحدودية المتداخلة، فإن الفاشر يشكل مركزاً حضريا مهما بالنسبة إليهم، لذا فإن سلوكهم البدوي كثيراً ما يصبح محل تندر وسخرية من أهل البندر، شأن حال العواصم في كل مكان، مع أهل الريف وسكان القرى. لست على يقين تام بأن لفظ الجنقجورا يعني اسم قبيلة بعينها، وإن مال ظني نحوها، ولكني أيضاً أعلم أن هذا اللفظ سَرَى على كل الذين يُجَاءُ بهم في المواسم لحملة لقيط القطن وهم قبائل شتى، أغلبهم ينتسبون إلى قبائل صغيرة من فسيفساءالقبائل التي تحتشد بها دارفور وما جاورها، وباختلاف ألسنتهم وألوانهم. ربما كانت (الجنقجورا) هي القبيلة الغالبة في الرحلات الأولى، أو ربما هي صفة تطلق على مجموعة ما بلغة من لغات قبائل دارفور المتعددة الألسن، ومن ثم غلب الاسم أو الصفة، لتميز تلك الرحلات وإن تعددت وتباينت القبائل التي ضمتها بعدئذ.
من المهم أن نعرف أن الهجرات من غرب السودان،(دار غرب) إلى الشرق(دار صباح)، هي قديمة ومستمرة منذ عهد السلطنات، وفي التاريخ القريب ربما نذكر الهجرات لنصرة المهدي وخليفته (طوعاً أو قسراً)، ولكننا نذكر بعدها بشكل خاص، تلك الهجرات المنظمة التي تم تفويجها لبناء خزان سنار( والمشهور عند أهل دارفور بسَدّ مكوار)، وما تلاها بعد اكتمال مشروع الجزيرة وزراعة وجني القطن. ثمة قصص وحكايا تُرْوَى عن الذين ذهبوا وعادوا، والذين لم يعودوا، ومن آثروا البقاء أو أجبرتهم الظروف على ذلك، مما حفظتها ذاكرة أهل دارفور.
ما يعنينا أن تلك الهجرات كانت معتادة على نحو ما في مناطق دارفور المختلفة، وصار لها متعهدون يباشرون تنظيمها في المواسم. هكذا يُؤْتَى بهم في مجموعات إلى الفاشر ليتم تفويجهم في المواسم، عبر المتعهدين من وكلاء الترحيلات. ولأنهم آتون من القرى والمناطق الفقيرة والبعيدة، فقد صاروا محل تندر من أهل الفاشر، شأن كل البنادر والمناطق الحضرية مع أهل القرى والدساكر. ينتقدون تصرفاتهم غير المألوفة لأهل الحضر، وبخاصة وهم قادمون من أصقاع مختلفة، وفي مجموعات صغيرة، ويبدو عليهم مظاهر البؤس والانطوائية وبعض النفور، وعلى كل حال فهم لا يمكثون في المدينة سوى يومين وبخاصة عند ذهابهم، إذ يتعجل المتعهدون إرسالهم إلى مواقع عملهم كيلا يتحملون مؤونتهم طويلاً. يتم ترحيلهم، بشاحنات الفورد(أبو رجيلة) والبدفورد (السفنجة أحفظ مالك)، والفارقو والأوستن، تلك اللواري التي خبرت رمال وقيزان دارفور وكردفان، وهي تشق طريقها إلى الأبيض وأرض الجزيرة، وذلك قبل أن تأخذ مكانتها التي تبوأتها عن جدارة واستحقاق، سيارات النيسان والزد واي، من بَعْد!
هؤلاء العمال، وغالبيتهم من الشباب اصطلح أهل الفاشر على تسميتهم بالجنقجورا، وهم عند وصولهم الفاشر في طريقهم إلى الجزيرة، معظمهم أميون، إلا قليلاً منهم ممن حفظوا القرآن أو بعضاً منه، بؤساء انطوائيون رقيقو الحال في الأغلب، وبهم سذاجة أهل الريف في البندر ومحل التهكم، وقد تجد من بينهم أيضاً من خاض التجربة من قبل في رحلة أو أكثر، وهؤلاء لديهم بعض الدراية والخبرة ويتولون إرشاد الآخرين، واستعراض معارفهم ، ولكنهم جميعاً يشتركون في رقة الحال وقلة ذات اليد، أثناء سفرهم شرقاً.
التندر والسخرية تأتي عند عودة هؤلاء ال(جنقجورا) من الجزيرة. هنالك اكتسبوا معارف جديدة وخبرات لم يعهدوها، خالطوا أقواما وبيئات لا تشبه بيئاتهم، والأهم من كل ذلك أن صار لديهم المال المكتسب من عرقهم وأجرهم من حصاد القطن. هنا يبدأ التغيير والتحول في السلوك والعلاقات. بعضهم، ذوو الأهداف المحددة الواضحة، يكتفي بما جمع ويعود من عامه الأول إلى أهله وربما بقي أحدهم لأكثر من ذلك. ومن طاب له المقام فآثر البقاء هناك، ومن أضاع ماله لأسباب مختلفة. وتبقى سيرة هؤلاء الباقين وحياتهم الجديدة وتغيراتها وماطرأ عليها من تحولات ومصير، مما عالجه الروائي الكبير عبد العزيز بركة ساكن في روايته (الجنقو مسامير الأرض)، باقتدار وحنكة. (!)
وأما كيف أخْتُصرَتْ كلمة (الجنقجورا) فصارت (جنقو)، حين نزحت شرقاً، ترمز لفئة من هؤلاء سبقوا بالهجرة واستقر بهم المقام هنالك وكونوا مجتمعاً خاصاً بهم بكل تعقيداته وتراثه ومآسيه، (ولا أتطرق الآن إلى قصة الكنابي وسكانها، فذالك موضوع حديث آخر)!
نعود إلى أهلنا (الجنقوجورا) وقد عادوا بعد انقضاء الموسم. هنا تبدأ المفارقات والتنكيت والتبكيت، فقد عادوا محملين بحاجياتهم، وأكثرها لا تتناسب مع بيئاتهم القديمة، ولا في مظهرهم الجديد. ملابسهم والأحذية التي ينتعلونها(جزمة قزاز)! القمصان ذات الألوان المتنافرة، والجوارب والنظارات الملونة التي لا تفارق وجوههم ليلاً أو نهاراً، وأحيانا القبعات (البرنيطة)، والأهم من كل ذلك المصابيح اليدوية(البطاريات) التي يضيؤونها كيفما اتفق، والراديو الترانزستور! ثم تبجحهم فقد زاروا ورأوا مدناً أكبر وأضواء ومبان، وأناساً أكثر تحضراً. وهكذا يتبخترون في سوق الفاشر وشوارعها أياماً قبل أن يسافروا إلى قراهم، وبالطبع فإن لغتهم تغيرت ودخلتها عبارات جديدة، وإن بدت غريبة الاستعمال متنافرة المعاني، ويظهر كل ذلك في عباراتهم الجديدة التي يجيد تقليدها المضحك بعض الشباب، ولكنها لغة تشعرهم ببعض الرضا وتعوّض عليهم بعض النقص، ويستطيعون من خلالها ومن خلال مظهرهم الجديد أن يزدروا بها أهل الفاشر! هذه المظاهر والسلوك غير المألوف، يتخذها أهل الفاشر مدعاة للتندر والسخرية من تصرفهم، ومظهر المهرج الكاريكاتوري الغريب، لذا صار لفظ (الجنقجورا) أو (الجنقجوراوي) مرادفاً للتخلف المتنطع، ثم جعلوا كل ما لايتسق مع مظهر الحضارة التي يرونها، يأتي بها هؤلاء فهو سلوك (الجنقجورا) المتخلف، المشوب ب(الفلهمة). لم يكتف الناس بذلك، بل تمت إضافة صفات أخرى من ذات الشاكلة كأن تقول لأحدهم (إرينقتنق)، تدمغه بالتخلف، أو ( إرْقما) أو (اسنقور)، وهؤلاء من القبائل التي كانت تهاجر للقيط القطن مما ابتلعهم لفظ (الجنقجورا) حتى أنهم يغنون ساخرين: ( كُلُّنَا إرنْقتنْق / نركبوا سبع طَنْ / نمشي لي جنينة)!
بعد قضاء أيام في الفاشر وسوقها يعودون من حيث أتوا ليشعلوا في مناطقهم وقراهم حنين السفر ل(الباجور) بين أقرانهم من الشباب، بما حازوا من مال ومتاع و(خُمَام)، والخُمَام عندهم هو العفش والأمتعة. هكذا يحملون ما تزودوا به من مال ومتاع وخبرة ومعرفة وحياة جديدة، بعضهم نجح في تجربته وحقق ما يصبو إليه، بعضه أو كله. ومنهم من كانت طموحاته تستغرق أكثر من موسم. بعضهم ذهب وقرر ألا يرجع، ومنهم من رجع وفي نيته معاودة الرحلة مرات ومرات وفيهم من رضي من الغنيمة بالإياب! تلك من أحوال الجنقوجورا والجنقو، وفي الحديث سعة.
أفرحني فوز رواية "الجنقو مسامير الأرض" في نسختها الفرنسية بجائزة معهد العالم العربي بفرنسا، فالرواية في لغتها الأصلية جيدة السبك عميقة التأثير، تمتاز بالجرأة والصدق والاقتحام، شقت طريقها إلى القراء بعد صراع مرير مع سدنة العهد البائد ولكنها قاومتهم جميعاً وانتصرت لنفسها وللعديد من المبدعين الذين استلهموا من صمودها الجرأة والجسارة، فأعقبتها روايات عظيمة بعدها وجدت طريقها للنشر بوسائل شتى، وأضافت رواية (الجنقو مسامير الأرض)، وقبلها (مسيح دارفور) إلى سجل الرواية المُقاومة والمتجذرة في تربة المجتمع، بلا ضجيج أو ضوضاء صفحات ناصعة وعميق الأثر.
لم أحصل بَعْدُ على الترجمة الإنجليزية التي أبدعها المترجم الحاذق الأستاذ عادل بابكر، والتي قدم لها صديقي الأستاذ كمال الجزولي، أما الترجمة الفرنسية، والتي أنجزها البلجيكي أستاذ الأدب العربي وعميد كلية الآداب والترجمة والاتصال بجامعة بروكسل الحرة الدكتور إكسافيه لوفان، وحصل بها على الجائزة الكبرى للترجمة إلى اللغة الفرنسية، فقد سعدت بها كثيراً. سيقال الكثير عن الرواية وترجمتها، لكني أود أن أقدم شهادة على هذه الترجمة بالذات، وهنا أقتبس بعض ما كَتَبْتُهُ لعبد العزيز بركة أهنّؤه بهذا الإنجاز: (التهاني يا عبد العزيز أولاً، للأستاذ الدكتور لوفان، فهذا نجاحه هو وجائزته الحقيقية. فلقد شهْدُت وخبرْتُ اجتهاده وصبره حين سافرنا معا ًإلى الدمازين والكرمك والقضارف في رحلتنا البديعة تلك، وحرصه ومتابعته، وهو يتأمل في اللهجات المتنوعة، ويحاول أن يعبر بها، وأذكر المحاضرة البديعة التي نظمناها له في اتحاد الكتاب السودانيين،(لوتذكر) وكان من فخرنا ان منحناه عضويتنا الفخرية عام ٢٠١٠.
تلك جائزته هو، فلولا عظمة الترجمة وروعتها لما حدث هذا، رغم جودة الرواية وتفردها، وكان لابد للترجمة ان تكون ممتازة، ذلك ان المترجم، لكي يحيط باجواء الرواية سافر الى مسرحها. عاش اجواءها وكأنه يكتبها من موقعها تسجيلا وتوثيقا، فوضع نموذجا لكيف تكون الترجمة وكيف تتَحَضَّرْ وتستعد وتتسلح بكل المعارف الممكنة حين تتصدى لترجمة عمل ما.
ان تحب العمل وتعشقه وتتعلق به وتضحي ببذل كل ما يمكن لاجلائه وتقديمه، هكذا يكون الاخلاص للترجمة، عشق وتضحية ومثابرة.)
تحياتي
عالم عباس
10 نوفمير 2020

alim.nor@gmail.com

 

آراء