Spies, Secrets and a Story waiting to be (Re)told: Memories of the 1924 Revolution and the Racialization of Sudanese History
Elena Vezzadini ألينا فيزاديني ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لمقتطفات من مقال بقلم الدكتورة ألينا فيزاديني عنوانه: " جواسيس وأسرار وقصة تنتظر أن تعاد روايتها: ذكريات ثورة 1924م وعنصرة التاريخ السوداني"، نُشر عام 2013م في العدد الثالث عشر من مجلة " دراسات شمال شرق أفريقيا Northeast African Studies ". وتعمل كاتبة المقال أستاذةً بمعهد العالم الأفريقي بجامعة السوربون. وقد حصلت عام 2008م على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة بيرجن النرويجية بأطروحة عن حركة 1924م، وأستلت منها عددا من الأوراق من بينها ورقة تمت ترجمتها للعربية بعنوان "برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م" http://www.sudanile.com/66233 المترجم
************* يحاول هذه المقال تَتَبّع جغرافية ذكرى ثورة 1924م بالسودان في عهده الاستعماري. ويبدأ المقال بذكر المفارقة الصارخة التي تتضح بمعرفة أن تلك الثورة لم تترك أثرا يذكر في الحافظة الجمعية بالسودان مثلما فعلت أحداث أخرى في تاريخ السودان الحديث، على الرغم من أن ثورة 1924م كانت واحدة من أكثر أحداث السودان توثيقا. لقد بدأت شهادات شهود العيان في الظهور في ثلاثينيات القرن العشرين، وظلت تُنشر حتى يومنا هذا. وهنالك روايات جَمَّةٌ ومتباينة عن كثير من الوقائع المركزية التي تعددت بتعدد رُواتها. ويهدف هذا المقال للبحث في بعض جوانب تلك الذكريات والذين كتبوها. وتبحث بوجه خاص في أمر خاصيتين مركزيتين بالنسبة لجغرافية ذكرى ثورة 1924م بالسودان: الأولى هي فكرة أنه، على الرغم من كثرة الروايات عن تلك الثورة، فأحداثها ليست معروفة بصورة كاملة، بل هي محاطة بكثير من السرية والغموض، ومليئة بالحقائق المسكوت عن ذكرها. والثانية هي الاعتقاد بأن أناسا بعينهم من ثوار 1924م تكلموا "بأكثر مما يجب قوله"، وتحولوا إلى جواسيس، وأن ذلك كان هو واحدا من أهم أسباب فشل الثورة. وأخيرا يربط المقال بين تشكيل تلك الذكرى وبين الصدمات الاجتماعية التي كانت إحدى نتائج ثورة 1924م، وما أعقبها من انقسامات اجتماعية مسكوت عنها. *********** ************* ************* اِسْتَنْكَرَ النشطاء من عائلات ثورة 1924م الذين التقيت بهم في أثناء فترتي البحثية بالسودان من أن ثورة 1924م ظُلمت وفُقدت، أولا عندما قمعها الضباط البريطانيون قمعا دمويا مفرطا، ثم ظُلمت وفُقدت مرة أخرى بنسيان الشعب السوداني لها. ويوجد الآن بشارع الجامعة بالخرطوم مِسَلّة /نصب تذكاري (مهمل) لعبد الفضيل الماظ، أحد أبطال عصيان نوفمبر، غير أنه تصعب ملاحظته من كثرة أوراق الإعلانات التي أُلصقت عليه. وليس هنالك بالمدينة متحف لتلك الثورة، ولكن هنالك مركز صغير بالخرطوم بحري يوثق لثورة 1924م، وهو شبه مهجور الآن. وكانت صحيفة أجراس الحرية (قبل إغلاقها في 2011م) تنشر بعض المقالات المتفرقة عن تلك الثورة. وكان عنوان إحدى تلك المقالات (في يوم 3/11/2009م) هو "منزل القائد علي عبد اللطيف يتحول إلى مطعم بلدي". ولعل في ذلك أوضح دليل على إهمال تراث ورموز الوطنية. ********** ******** *********** تثير ثورة 1924م الكثير من الجدل المحتدم عند (بعض) السودانيين في الدوائر الاكاديمية وغيرها. إذ تراها قلة من علماء التأريخ إنها كانت الخطوة الأولى نحو استقلال السودان كدولة وطنية. وهناك من يراها فصلا صغيرا وقليل الأهمية في تاريخ السودان، تم نسج خيوطه وتنسيقه إما من القاهرة أو من لندن. وإضافة للخلاف المستمر حول أصل وطبيعة ثورة 1924م داخليا وخارجيا فقد كان هنالك سبب آخر للخلاف حولها، وهو "سر مكشوف" يتمثل في أنها كانت "عصيانا قام به مسترقون". وبالفعل كان في تلك الثورة بعض "الضباط السود" مثل قائد الثورة، علي عبد اللطيف، وهو من أصول مسترقة أتت من مناطق السودان المهمشة. ولعب ذلك العامل دورا مهما في تشكيل الحركة الوطنية أيديولوجيا وسياسيا (انظر كتاب يوشوكو كيوريتا الذي تناولت فيه دور العناصر الزنجية / "المنبتة قبليا" في تاريخ السودان الحديث، 2003م). وكان غالب هؤلاء قد استرقوا وعينوا جنودا بجيش محمد علي باشا، ثم بقوات المهدية، وأخيرا في قوات الحكم الانجليزي – المصري. وكانت الخدمة العسكرية تمثل لتلك العناصر أسرع وأقوى وسيلة للترقي الاجتماعي. فقد كان الالتحاق بالكلية الحربية يعطي طلابها فرصة أن يغدوا ضباطا يحظون بمرتبات عالية ومواقع إدارية محترمة في المجتمع (مثل وظيفة مساعد مأمور). وتم التخلي عن ذلك النظام بعد عام 1924م. وتمت محاكمة بعض أولئك الضباط، وفر بعضهم لمصر، بينما جُرد البعض من رتبهم وتحولوا للعمل في وظائف مدنية (خاصة في مصلحة الزراعة). ******* ********* ********** لم تكن ثورة 1924م قاصرة على "الضباط السود" فحسب (رغم أنهم كانوا في صف قيادتها الأمامي)، وهذا مما جلب لها "وصمة" الرق من زعماء البلاد التقليديين. وقيل إن ذلك كان أحد أسباب فشلها. فزعماء "جمعية اللواء الأبيض" لم يكن يحظون بأي دعم سوى من عدد قليل من ضباط الجيش والمثقفين السودانيين (قليلي الخبرة السياسية). وقد يقول قائل بأن ذلك كان أحد الأسباب التي لم تسمح لتلك الثورة بأن تحتل مكانا بارزا في سجل الأعمال البطولية السودانية. غير أن الأسباب أكثر من ذلك وأشد تعقيدا. ************* *********** ******* سألت عددا من السودانيين الذين لا يتذكرون ثورتهم الوطنية المسلحة (الوحيدة) ضد الاستعمار عن سبب عدم أو قلة احتفائهم بها. وكانوا الذين لا علاقة لهم بتلك الثورة يردون بأن الناس ما عاد لديها وقت لشيء مثل التاريخ، ولديهم ما يشغلهم من هموم حياتية كبيرة وخطيرة. غير أن نفس هذه المجموعة كانت تتذكر جيدا كل بقية فصول التاريخ السوداني حتى ولو كانوا لقادته من الكارهين. وهذا مما يؤكد أن نسيان الكثيرين لتلك الثورة لا يمكن أن يعزى لتأييدهم أو معارضتهم لشعارات تلك الثورة. فقد تبنى شعار "وحدة وادي النيل" لاحقا واحدا من أكبر الأحزاب (الحزب الوطني الاتحادي) بتأييد من السيد علي الميرغني زعيم طائفة الختمية. ومنذ الأربعينيات كان يقف على الجانب الآخر مؤيدو حزب الأمة وطائفه أنصار المهدي. غير أن كل أو غالب السودانيين الآن لا يجدون صعوبة في التعرف على أفراد زعماء الطائفتين، كما يعرفون كذلك عائلة بابكر بدري ودورها في تعليم البنات بالسودان. غير أن هنالك من المحرضين على حركة 1924م من لم يتم نسيانه تماما. فالحافظة الجمعية لبعض السودانيين تذكر ساسة ومثقفين كُثر ذكر محجوب عمر باشري في كتابه "رواد الفكر السوداني" الصادر ببيروت في 1991م) منهم ثلاثة أفراد فقط (علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين وعرفات محمد عبد الله)، وذكر من الساسة عبد الله خليل والدرديري أحمد إسماعيل. ************* ********* ******* جاءت أولى الكتابات عن ثورة 1924م بأقلام بعض المثقفين (المدنيين) السودانيين. وكان المجتمع السوداني (ولا يزال) يعلق أهمية كبيرة للتعليم في التراتيبية الاجتماعية. وأصدر المؤرخ محمد عبد الرحيم في عام 1948م كتابا عن ثورة 1924م عنوانه "الصراع المسلح على الوحدة في السودان". وتناول ذلك الكتاب بداية الحركة الوطنية في السودان ومساوئ الاستعمار. وكان كتابه تجميعا لشهود عيان شاركوا في الثورة أو سمعوا ممن شارك فيها. ولم يكن محمد عبد الرحيم من المشاركين في تلك الثورة شخصيا، ولكنه أشاد في كتابه بأعمالها العظيمة وبأبطالها الوطنيين (مهما يكن أصلهم العرقي). وسرد المؤلف في ذلك الكتاب أيضا بعض القصص عن الجواسيس وخياناتهم في تلك الثورة. والتفت محمد عبد الرحيم لمسألة أعراق أبطال تلك الثورة، فكتب منتقدا من نشر مقالا (دون أن يذكر اسمه) في "حضارة السودان"، أول جرِيدة محلية بالسودان، عن أصل علي عبد اللطيف المسترق. وعد محمد عبد الرحيم ذلك بأنه "فضيحة"، وذكر أيضا أن ما كتبه ذلك الكاتب (الذي وصفه بأنه جاهل وجبان وخائن لا غرض له سوى إرضاء الانجليز) هو مجرد "كلام فارغ أغفل فيه الكاتب أن علي أفندي عبد اللطيف قد ولد في قبيلة الدينكا، وهي من أكبر وأقوى قبائل السودان". ومن أهم الكتب عن ثورة 1924م هو كتاب حسن نجيلة المعنون "ملامح من المجتمع السوداني" الصادر في 1964م، وهو كتاب يبحث في أصول ونشوء وتطور الوطنية في السودان. وبنى نجيلة ما أورده في كتابه على ما سمعه من معلومات من "شيخ" لم يسمه، وقال إنه كان أحد أعضاء "جمعية اللواء الأبيض" ومن المشاركين في الثورة. ووصف نجيله هؤلاء المشاركين بأنهم " أبطال" و"شهداء". غير أنه، خلافا لمحمد عبد الرحيم، لم يكن يؤمن بأن "أصل" علي عبد اللطيف من الأمور التي تستحق النقاش أصلا، وذكر أن ذلك "الشيخ" أكد له بأن اختيار علي عبد اللطيف قائدا للثورة كان مبنيا على تاريخه النضالي المشرف، وليس غير ذلك. وفي الستينيات كتب سليمان كشة (1892 – 1968م)، وهو تاجر وكاتب ومثقف، ثلاثة كتب عن مختلف جوانب ثورة 1924م عنوانيها هي: "اللواء الأبيض" وقد صدر عام 1969م، و"سوق الذكريات" وصدر في 1963م، و"وثبة السودان الأولى: ثورة 1924م" ولا يعرف تاريخ صدوره. وخصص كشة غالب صفحات كتابه المعنون "اللواء الأبيض" لمحاكمات أعضاء جمعية اللواء الأبيض. وأشاد كشه في كتبه بعلي عبد اللطيف بحسبانه بطلا (قوميا)، وذكر العلاقة الخاصة القوية التي كانت تربطه به، وأنه كان كثيرا ما يتردد على بيته. وتبنى جعفر نميري في 1971م مشروعا بحثيا لـ "إعادة كتابة تاريخ الثورة" قام فيه معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم بتجميع الروايات الشفوية عن ثورة 1924م، وصدرت نتائج ذلك البحث في كتاب من جزئين عام 1974م. وكان ذلك جزءًا من مشروع أكبر يهدف لـ "إعادة كتابة تاريخ السودان". وقام بذلك العمل باحثون أجروا مقابلات مع من كانوا من النشطاء السياسيين في تلك الفترة بالأبيض وبورتسودان ومدني والحصاحيصا والفاشر. وقابلوا أيضا بعض النساء مثل العازة (زوجة علي عبد اللطيف)، وأمينة بلال رزق (زوجة زين العابدين عبد التام، أحد المشاركين في الثورة)، وبعض أعضاء الحركة من غير المثقفين مثل موسى أحمد (عنتر) وهو صاحب مقهى بالخرطوم، وفوما جاما، وهو جندي من جبال النوبة شارك في عصيان نوفمبر 1924م. وأتت شهادات كل أولئك لتؤكد أن عرق علي عبد اللطيف ورفاقه لم يكن عاملا مهما في النضال الوطني، ولا دخل له البتة في فشل الثورة. وقام بعض المشاركين في الثورة (مثل سيد فرح، الذي استطاع الهروب إلى مصر بعد فشل الحركة) بنشر مذكراتهم عنها منجمةً في بعض الصحف مثل جريدتي "الصحافة" في نوفمبر 1978م، و"السودان الحديث" عام 1994م) *********** ************* ****** أتضح لي من شهادتي العازة وأمينة أن "الأسرار" هي مسألة مركزية في ثورة 1924م التاريخية، وفي ذكراها أيضا. وسمعت نصائحا من بعض السودانيين في الخرطوم مفادها أن "الأسرار تغلف ثورة 1924م". وربما كان هذا هو سبب استمرار الكتاب والمؤرخين في الكتابة عنها إلى الآن، وسؤال أحفاد ثوار 1924م المستمر عما حدث فعلا. لقد كانت "جمعية اللواء الأبيض" حركة علنية جزيئا، وسرية جزئيا. فقد كان عليها أن تبقى "سرية" لتنظم أعمالها السياسية، وفي ذات الوقت أن تظهر علنا مطامح الشعب السوداني. وكان التنظيم فيها معقدا، فقد كان بها أعضاء يعملون بصورة سرية وذلك لأسباب استراتيجية، وآخرون يقومون بأعمال علنية (قد تعرضهم للاعتقال) مثل التظاهر. وكان للجمعية أفْرُع، لكل واحد منها وظيفة معينة. وقد لا يكون عضو فرع معين عضوا في الجمعية. وغالبا ما لا يكون ضباط الجيش أعضاءً في جمعية اللواء الأبيض، إذ كان لهم تنظيمهم الخاص الذي يعمل بالتنسيق مع الجمعية. وكان الالتحاق بالجمعية قصرا على الرجال، وكان على من يرغب في الالتحاق بها أن يؤدي (اختياريا) قسما يؤكد فيه التزامه بأهداف الجمعية. (نص القسم هو: " أقسم بالله ثلاثاً، وبكتابه هذا القرآن، وبكل يمين مقدس ألا أخون هيئة هذه الجمعية، وأن أكون جاداً مخلصاً على مبادئها، وألا أتنحى عنها مهما كان الموقف حرجاً، ومهما كنت نائياً عنها، والله على ما أقول وكيل". المترجم). ويؤخذ ذلك القسم بكل جدية، ولا تُكشف "أسرار" الجمعية إلا لمن أدوه. وذكر علي صالح الحاج في التحقيقات التي أجراها معه مكتب المخابرات (يوم 28 يوليو 1924م) أنه تحاشى أداء ذلك القسم لعدة شهور، على الرغم من أنه كان من المؤيدين المهمين للجمعية، ومن أصدقاء علي عبد اللطيف. وذكر بأنه لم يكن متاحا له الاطلاع على أسرار الجمعية نسبة لعدم تأديته للقسم، وأن قادة الجمعية كانوا يتحدثون أمامه باللغة الإنجليزية حتى لا يفقه قولهم. ****** ************ ************* أفلح الضباط المؤيدون لثورة 1924م أكثر من المدنيين في الاحتفاظ بسرية عملهم في خدمة أهداف الجمعية من خلال كشفهم لقادتها بعض المعلومات الاستخبارية، ومساعدتهم لنشطاء الحركة أثناء المظاهرات. وأخفق قسم المخابرات في كشف تأييد أولئك الضباط للثورة حتى يوم تحركهم في نوفمبر 1924م. وكان من هؤلاء قادة العصيان العسكري مثل حسن فضل المولى وسيد فرح وعبد الفضيل الماظ. ووضح جليا من المقابلات التي أجراها باحثون من معهد الدراسات الافريقية والآسيوية في 1971م مع بعض شهود حركة 1924م (مثل زين العابدين عبد التام والعازة) أنهم صمتوا عن ذكر الكثير. ولعل في ذلك الصمت دليل على وجود "أسرار" في رواياتهم لم يشاؤوا البوح بها. وفي خلال عملي البحثي الميداني حدث أكثر من مرة أن رفض البعض الحديث معي عن ثورة 1924م قبل أن يسألوا أو يستأذنوا أولا من شخص معين (لم يسمونه). ولم يفعلوا. وربما كان الدافع لذلك أني باحثة إيطالية شابة تقوم بدراسة تاريخ ثورة منسية، أو أن الناشطين (في بداية السبعينيات) لم يكونوا يثقون بالباحثين الذين كانوا يقومون بسؤالهم في تلك الأيام. ********** *********** ************ أما الجانب الآخر لأسرار الثورة فهو جانب الخيانة. فكل سر (حتى أشد الأسرار حفظا) يجلب معه إمكانية كشفه. ووردت في أقوال الذين تم تسجيل مقابلات شفوية معهم، وفي المقالات الصحفية والكتب التي ألفها الضباط والمدنيون الكثير من القصص عن الخيانة في صفوف أفراد الحركة. فبحسب ما ذكره زين العابدين وأمينة فقد أدان أولئك "الخونة" الجمعية للبريطانيين. وبحسب ما جاء في كتاب حسن نجيلة (ملامح من المجتمع السوداني)، فقد كانت هنالك "خونة" قبل عام 1924م. فقد كتب في صفحة 171 من كتابه ما يفيد بأن (من بدأ الخداع واللعب على الحبلين كان أحد قادة جمعية الاتِّحاد السوداني، ثم جر معه شخص آخر من أصدقائه. وسرعان ما انتشرت أخبار تلك الخيانة في أوساط رفاقهما، وتم الكشف عن اتصالات "الجاسوسين" بصمويل عطية مدير المخابرات). وأفرد المؤرخ محمد عبد الرحيم في كتابه "الصراع المسلح على الوحدة في السودان" فقرات مطولة عن أشهر عيون البريطانيين وهو "علي أحمد صالح" أو "علي الحاج"، وعن غيره من المخبرين الذين لم يسمهم. وكان شائعا عند كثير من الناس أن أولئك الجواسيس كانوا يمثلون أداة قوية (للبريطانيين) وتسببوا – بإفشائهم لأسرار جمعية اللواء الأبيض – في اعتقال قادتها. غير أنه يجب أن نذكر هنا أيضا أن كل قادة تلك الجمعية كانوا يرسلون برقياتهم المضادة للاستعمار بأسمائهم الحقيقية، وبذا لم يكن للبريطانيين حاجة أصلا لجواسيس كي يكشفوا لهم عن أسماء قادة الجمعية. وكانت تهم الجاسوسية تُكال بناءً على شائعات وشكوك. غير أنها كانت (لا تخلو من) استنتاجات مبنية على استدلالات منطقية من معلومات جزئية كانوا يملكونها عمن يتهمونه بالخيانة والتجسس. فعلى سبيل المثال حكى ضابط في ود مدني أن ضابطا شهيرا (وسياسيا نافذا فيما أقبل من سنوات) نُقل إلى ود مدني في عام 1924م، وأدى قسم جمعية اللواء الأبيض، وعُهد إليه بالاحتفاظ بقائمة تضم كل أعضاء الجمعية. وبعد سنوات تمت ترقيته إلى رتبة الأميرلاي، بينما نُقل جميع الضباط الآخرين. وهنالك قصة أخرى أكثر وضوحا تتعلق بضابط (من عائلة معروفة) كان واحدا من أربعة ضباط اشتركوا في العصيان العسكري وحكم عليه بالإعدام. وبينما كانت فرقة الإعدام تستعد لتنفيذ الحكم، أتى رسول (برسالة)، وتم إيقاف تنفيذ الحكم، وبذا نجا من الموت. ويبدو أن أحد أكبر الزعماء الدينيين بالسودان، ومن أقرباء الضابط، كان قد توسط لإنقاذ حياته. ومنذ ذلك الوقت، وحتى اليوم، ظلت تحوم حول ذلك الرجل الشكوك حول "خيانته" لرفاقه في ذلك العصيان، على الرغم من أنه قضى 12 سنة مسجونا في ملكال، عانى خلالها ما عانى من العذاب (أشارت الكاتبة هنا لشهادة العازة زوجة علي عبد اللطيف، وشكرت أسرة ذلك الضابط، خاصة ابنته للمعلومات التي وفرتها لها. المترجم). ورغم أن كل عضو في جمعية اللواء الأبيض كان يمكن له (نظريا. المترجم) أن يتحول لـ "جاسوس" ضد رفاقه، إلا أن هنالك مجموعات بعينها كانت أكثر عرضة لذلك الاتهام. وراجت مثل تلك الاتهامات المتبادلة وما أعقبها من عنف جسدي بين الطلاب الحربيين المنتمين لجمعية اللواء الأبيض أثناء فترة سجنهم بعد فشل الحركة. ولم يشأ من روى تلك القصة أن يُسمي هؤلاء الطلاب الحربيين. وبالإضافة لمن ذكرنا، أٌتهم بالخيانة سليمان كشة (الذي سبق أن وصف علي عبد اللطيف بأنه بطل). وعلل البعض ذلك بأن الرجل كان لا يحترم أصل علي عبد اللطيف العرقي. بل زُعم إن كشة كان هو كتب ذلك المقال "غُفْلٌ منَ التَّوْقِيع" في جريدة "حضارة السودان"، كما جاء فى كتاب محمد علي بخيت المعنون "الإدارة البريطانية والحركة الوطنية في السودان". ومن الملاحظ أن غالب كتابات صفوة المثقفين في الصحف والمجلات والكتب عن أمر "الجاسوسية" لا تُسمي المتهمين الضالعين فيها صراحةُ، سوى علي الحاج، شاهد الاتهام الرئيس في محاكمات 1924م، والذي صار - بعد تلك المحاكمات - يتجول في شوارع الخرطوم حاملا مسدسا منحه له البريطانيون. وكانت غالب الاتهامات التي توجه لمن يُشك في أنهم كانوا "جواسيس للمستعمر" تقال "من خلف ستار"، وبكثير من الحذر. ************* *********** ********* اتفقت كل أقوال من سألتهم من أحفاد ثورة 1924م على أن كل ما كل كُتب عن "أبطال" تلك الثورة لم ينصف أولئك الثوار تماما، وأتت كل تلك الكتابات "غير مكتملة" أو "متناقضة"، وليس من بين الكتب التي نشرت حتى الآن ما يمكن أن يعد الكتاب "العُمْدَةُ" أو "الأكثر موثوقية" لتاريخ تلك الثورة ومن قاموا بها. لقد جسدت ثورة 1924م قصة الوحدة (الوطنية) بالبلاد. غير أن مظهر الشقاق الاجتماعي الذي حدث لاحقا موجود في كل ما سُرد عن الحركة من قصص تدور حول شكوك الخيانة والجاسوسية. وتدل تلك القصص على استعارات قوية دالة على التفكك المجتمع وتشظي التضامن فيه. وتثبت تلك القصص صعوبة الحديث علانية عن الثقة المفقودة عندما لا يكون هنالك "متهمين"، لأن من شاركوا في ثورة 1924م من مثقفي "العرب" لم يطلبوا الصفح عنهم لمشاركتهم السياسية فيها، ولكن كان من دفع (ولا يزال يدفع) الثمن الأغلى كانوا هم "الضباط السود"، حتى بعد انتهاء ثورة 1924م بزمن طويل. ولا تزال عائلات أولئك الضباط يتحدثون بحذر شديد عن تاريخ ثورة جدودهم، وفي ذات الوقت يحرصون على حفظ ذكرياتهم عنها.