جيمس بيكر وغرباتشوف: وَعْدٌ مَزْعومٌ أمْ مَلْغوم.. وأين يَنْتَهي تَوَسٌّع الناتو؟
د.عصام محجوب الماحي
18 January, 2022
18 January, 2022
لا ريب أنّه تتوفّر تغطية خبرية كامِلة ومُفصّلة لأسبوع الدبلوماسيّة المُكثّفة الذي شهدته على التوالي جنيف وبروكسل وفينا، أيام الاثنين والأربعاء والخميس 10 و12 و13 يناير الجاري، بالمباحثات الثنائيّة الأمريكيّة الروسيّة، واجتماع المجلس المُشْترك لحِلف شمال الأطلسي وروسيا، والتئام منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، حول تطورات النزاع في أوكرانيا أو بصريح العِبارة، هل الحرب تطرق الأبواب في أوروبا أمْ تنجح الدبلوماسيّة التي انطلقت فعالياتها في وقف التصعيد أولاً ثُمّ الاتجاه نحو تسوية تقبلها الأطراف كافة، تحدث فيها بالطبع تنازلات؟
هذا وبعد جولات المباحثات الأمريكيّة – الروسيّة، والأطلسيّة – الروسيّة، التي جرت خلال الأسبوع الجاري، لم يَكُنْ من المُتوقّع أنْ تَسْفر الجولة الأخيرة بين منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وروسيا عن أي نتيجة تُذْكر، عِلماً بان روسيا ترفُض رفضاً قاطِعاً سحب قواتها من منطقة الحدود الأوكرانيّة، في وقت ترفُض فيه الدول الغربيّة بالمقابل الحد من توسيع الحِلف الأطلسي شرقاً وسحب قواته من أوروبا الشرقيّة. وحذّر الأمين العام للحلف الأطلسي من اختيار روسيا طريق المواجهة، رغم أن الحِلف لا يزال مُنْفتِحاً للحوار. وحذًرت روسيا من ناحيتها من عواقِب خطيرة في حال تصاعُد الأوضاع وتقويض أسُس الأمن، إلّا أنّ السفير الأمريكي لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أوحى باحتمِال إيجاد مجال للتفاهم، رغم الفوارق الكبيرة بين مواقف الجانبين المُتشدِّدة. وقالت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا إنّ الظروف الميدانيّة تدهورت لمراقبيها في المناطق التي يشرِف عليها الانفصاليون في شرق أوكرانيا، وأعرب الأمين العام للحلف الأطلسي عن قلقه من خطر اندلاع نزاع مسلح جديد. ووصف وزير خارجيّة بولندا التي ترأس بلاده منظمة الأمن والتعاون في أوروبا الوضع بأنّ "القارة الأوربيّة أقرب إلى الحرب مِمّا كانت عليه مُنْذ 3 عقود"، وقال جوزيب بوريل رئيس الدبلوماسيّة الأوروبيّة إنّ الاتحاد الأوروبي لا يستطيع القبول بإعادة الكتلة الجيوسياسيّة السوفيتيّة في أوروبا وفصل أوروبا عن الولايات المُتَّحِدَة. وفي واشنطن قدم الديمقراطيّون في مجلس الشيوخ مشروع قانون لفرض عقوبات صارِمة على مسئولين حكوميين وعسكريين روس في حالة غزو أوكرانيا، وعلى رأسِهم الرئيس فلاديمير بوتين نفسه. ويقترح القانون تقديم مساعدات لأوكرانيا لتعزيز امنها واتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم تشغيل السيل الشمالي الثاني، وإبعاد الشركات الروسيّة عن شبكة (سويفت) الخاصة بتبادل المعلومات بين المؤسسات الماليّة.
* قِصص خبريّة مُتضارِبة:
ما يُلْفِت النظر أنّ الصُحف الأوربيّة تبارت في نشر قصص خبرية حول أسّ الخلاف بين القوتين العظميين الولايات المُتّحِدَة الأمريكيّة وروسيا الاتحاديّة حول أوكرانيا، أو بالأصح حول مناطق نفوذ موسكو في شرق أوروبا وبالأخص في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، والأراضي الواسعة التي يتمدّد فيها حلف شمال الأطلسي الذي تقوده واشنطن.
نشرت صحيفتا (ليبرتاتيا وجورنالول ناتسيونال)، واسِعتا الانتِشار في رومانيا، قصّة خبريّة واحدة في روايتين مُتصادمتين مضى على أسرارهما أكثر من ثلاثين عاماً، لا تختلفان إلّا في تفسير خلاصتهما واستعمالهما راهناً.
دعونا نأخُذ، بتصرُّف، خلاصة ما كتبه شيربان ميهاييلا في (جورنالول ناتسونال)، ونبحث في الأضابير والوثائق التي جرى مؤخراً تحريرها وهي تحمِل في داخلها أسرار مُحادثات وأحاديث خلف الأبواب المُغلقة.
بعد سقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار حلف وارسو، بدأ تحلُّل الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك، فإنّ تفكك العملاق الشرقي لم يتوقّف مع إعلان 14 جمهوريّة سوفيتيّة سابقة الاستقلال عن موسكو، فقد كان تقطيع الأوصال قد بدأ للتو.
انفصلت ترانسنيستريا بحُكْمِ الواقع عن مولدوفا، وانفصلت أوسيتيا الجنوبيّة وأبخازيا عن جورجيا. تم تحرير الشيشان من روسيا، لكنها أعيدت إلى سيطرة موسكو بعد حربين دمويتين. علاوة على ذلك، تمزّقت أوكرانيا وفقدت منطقة دونباس ثم انتزعت روسيا من أوكرانيا شبه جزيرة القرم. فما هو الشيء المشترك بين مولدوفا وأوكرانيا وجورجيا، بصرف النظر عن عمليات بتر الأطراف القسريّة التي فرضتها روسيا بوحشيّة بعد الحرب الباردة؟
تريد الدول الثلاثة الانضمام إلى الناتو، وضمنياً، الحصول على الضمانات الأمنيّة المنصوص عليها في المادة 5 من معاهدة حلف شمال الأطلسي، والتي من شأنها إجبار الحلف الذي تقوده الولايات المُتَّحِدَة على بدء حرب ضد روسيا للدفاع عن سيادتها وسلامتها الإقليميّة في حالة هجوم يقوم به الكرملين.
من السهل معرفة سبب رغبة هذه الدول في أنْ يضطّر الأمريكيون إلى القتال من أجلها، ولكن ما لا يُفْهَم هو سبب تقديم الولايات المُتّحِدَة ضمانات أمنيّة، وقبولهم في الناتو.
* الولايات المُتّحِدَة أمام مخاطر كبيرة:
"لماذا نتعهد بمخاطرة خوض حرب مع روسيا، الدولة التي تملك أسلحة نووية، نيابة عن دول لم يفكِّر فيها أحد أنّها من المصالح الحيويّة للولايات المُتّحِدَة؟"، يتساءل بات بوكانان مدير الاتصالات السابق بالبيت الأبيض والمستشار الخاص لرؤساء الولايات المُتّحِدَة السابقين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد ورونالد ريغان وأحد المعلقين السياسيين الأكثر احتراماّ في أمريكا.
يطْلُب بوكانان الانتباه إلى البلدان الأربعة عشر، دولة التشيك والمجر وبولندا وسلوفينيا وسلوفاكيا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا ورومانيا وبلغاريا وألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا الشماليّة، ويقول "ضَعْ في اعتبارك أنّ تلك الدول تم قبولها في الناتو وبالتالي حصلت على ضمانات أمنيّة أمريكيّة بعد عام 1991"، ويضيف "إن أعضاء الناتو الأربعة عشر الجُدُد، امتِداد لالتزامات الولايات المُتّحِدَة القتاليّة، وهو أمر أكثر خُطورة في بعض النواحي مُقارنة بالتأسيس الأصلي لحِلف شمال الأطلسي، عندما أجْبِرْنا على الدفاع عن عشر دول أوروبيّة غربيّة". ويواصل بوكانان "نحن ندافع اليوم عن 29 دولة، تمتد حدودها إلى أوروبا الشرقيّة، وهناك احتمال كبير جداً لتوسيع نطاق حلف شمال الأطلسي".
ووفقا للمعلق السياسي المعروف، تريد جورجيا وأوكرانيا الانضمام للناتو لتصبح الولايات المُتّحِدَة مُجْبرة لمحاربة روسيا دفاعاً عنهما. وتناقِش دولتان أخريان، السويد وفنلندا، التخلّي عن حيادهما التقليدي لصالح الانضمام إلى الناتو والحصول على ضمانات أمنيّة أمريكيّة. كما أنّ البوسنة والهرسك هي أيضا دولة مُرَشّحة لعضويّة الحِلف، ولا ننسى أنّ في عاصمتها سراييفو، انطلقت رصاصة عام 1914 وقتلت أرشيدوق النمسا، وهو الحادث الذي تسبب في اندلاع الحرب العالميّة الأولى.
* بوتين لن يتراجع:
وعلى صعيد أخر، يقول بوكانان "في نهاية الحرب الباردة، قال زعيم الكرملين السابق ميخائيل غورباتشوف لوزير الخارجيّة الأمريكي آنذاك جيمس بيكر، أن روسيا ستوافق على توحيد ألمانيا الشرقيّة وألمانيا الغربيّة، إذا كانت الولايات المُتَّحِدَة ستضمن عدم تمدُّد الناتو في شرق أوروبا. وأضاف بوكانان "يقال أنّ بيكر وعد غورباتشوف بقول: ولا لشِبْرٍ!"، فيتساءل المُعلِق السياسي المرموق بوكانان "مهما كانت الحقيقة، لا يمكننا أن نفهم حقاًّ مشاعِر فلاديمير بوتين، بنزعته القوميّة الروسيّة، وبلاده مُحاصرة ومُعرّضة للخطر وقد قام الناتو، الذي تم إنشاؤه أساساً للإحاطة بروسيا، بضم 14 عضواً جديداً، معظمهم كانوا حلفاء سابقين لموسكو أو جمهوريات في اتحاد الجمهوريات الاشتراكيّة السوفيتيّة؟".
في الواقع، جاء في افتتاحية نُشرتها يوم الاثنين الماضي صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكيّة المرموقة "لا يمكن اسْتِبْعاد قلق السيد بوتين تماماً. فإذا انضمت أوكرانيا إلى الناتو، سيكون للحلف حدوداً برِّية طولها 1200 ميل مع روسيا، وهو وضع لن تقبله أي قوة عظمى، غَضّ النظر عن مدى رفع حلف شمال الأطلسي صوته عالياً مُدّعياً بأنّ دوره دِفاعيٌّ بحْت".
ويُذْكَر أنّ المادة 5 من مُعاهدة حِلف شمال الأطلسي تَنُصّ على: "تتفِق الأطراف على أنّ هجوماً مُسلّحاً على واحد أو أكثر منهم (...) سيعتبر هجوماً عليهم جميعاً، وبناءً عليه، يتّفِقون على أنّه في حالة حدوث مثل هذا الهجوم المُسلّح، فإنّ كل منهم (...) يجب أنْ يدعم الطرف أو الأطراف في الهجوم على الفور، وتَتّخِذ أي إجراءات تراها ضروريّة، بما في ذلك اسْتِخْدام القوة المُسلّحة، لاسْتِعادة الأمن والحِفاظ عليه في منطقة شمال الأطلسي".
يبدو أن "منطقة شمال الأطلسي" التي تمْتد الآن إلى شرق بحر البلطيق والبلقان، ستتوسَّع وتَشْمِل، إذا تم قبول أوكرانيا وجورجيا في الناتو، القوقاز وخمس من دول البحر الأسود السِت. روسيا فقط هي التي ستبقى خارج الناتو.
* أسئلة بوكانان:
والى ذلك، صرّح مؤخراً أنتوني بلينكين رئيس الدبلوماسيّة الأمريكيّة بأنّ "الناتو لم يَعِدْ أبداً بعدم قبول أعضاء جُدُد. لم يستطعْ ذلك ولن يريد ذلك!"، ويعلِّق بوكانان على موقف بلينكين بقوله "هذا هراء، فليس هناك شرط لقبول الولايات المُتّحِدَة ضمّ أي دولة أو كل الدول التي تتقدّم بطلب الانضِمام إلى حِلف شمال الأطلسي"، ويضيف "يُمْكِننا اسْتِخْدام حقّ النقْض ضُدّ أي مُرشّح، وقد يكون تجنُب الحرب مع روسيا أحد الأسباب".
ويواصل بوكانان "بالنظر إلى التوسُع المُسْتَمِرّ لحلف الناتو بعد الحرب الباردة في وسط وشرق أوروبا، تحتاج أمريكا إلى طرح بعض الأسئلة على نفسها. فإذا زاد خطر الحرب مع روسيا مع قبول كل عضو جديد في الناتو له حدود معها، فلماذا نفعل ذلك؟ ألا يوجد خط أحمر لروسيا بوتين لن نتجاوزه؟ هل نعْتقِد أن بوتين سيقبل تطويق وسيطرة لا نهاية لها على بلاده من قبل دول متّحِدة في تحالف تم إنشاؤه على وجه التحديد لمحاصرة روسيا؟".
ويقول بات بوكانان مُحذِّراً "كثيراً ما اختلف الرؤساء هاري ترومان، دوايت أيزنهاور، جون ف. كينيدي، ليندون جونسون، ريتشارد نيكسون، جيرالد فورد، جيمي كارتر ورونالد ريغان، لكِنّهم اتّفقوا على شيء واحد: الأمن الذي توفِّره الولايات المُتّحِدَة وحِلف شمال الأطلسي يتوقّف عند نهر إلبا - الذي يفصل المانيا الغربيّة عن شقيقتها الشرقيّة -. عبر النهر، حاربنا الاتحاد السوفيتي بأسلحة دبلوماسيّة وسياسيّة واقتصاديّة، وليس بأسلحة حربيّة!".
ويختِم تعليقه أيضاً بسؤال: " كيف كان سيكون ردّ فعلنا إذا كُنّا بعد خسارتنا الحرب الباردة وجدنا أمامنا سفناً حربيّة روسيّة في بحيرة أونتاريو وعرضت موسكو ضمانات أمنيّة لكندا؟"
* هل يعتمد بوتين على وعد لم تقدمه واشنطن لموسكو؟
وحول نفس الوعد، مزْعوماً كان أمْ حقيقيّاً، كتب ادريان كوكينو في صحيفة (ليبرتاتيا): تدَّعي روسيا أن الولايات المُتّحِدَة وعدت في نهاية الحرب الباردة بأن الناتو لن يتوسّع في أوروبا الشرقيّة، وهو ما حدث في النهاية. وتظْهِر الوثائق أنّه بينما كانت بعض المناقشات حول "الولاية القضائيّة العسكريّة لحلف الناتو" قائمة في عام 1990، لمْ تقدِّم واشنطن في آخر الأمر مثل هذه التأكيدات إلى موسكو، وفقاً لما كتبت صحيفة (نيويورك تايمز) في نفس اليوم، الاثنين 10 يناير الجاري، الذي أجرى فيه المسؤولون الروس والأمريكيون في جنيف مباحثات حول الأمن في أوكرانيا وأوروبا.
جلس دبلوماسيون من روسيا والولايات المُتّحِدَة على طاولتين متقابلتين في جنيف لتجنب صراع جديد في أوروبا. غير أنّه وفيما يتعلق بموضوع المفاوضات غاب عن المشهد أهم شخص توقّف عن العمل مُنذ عقود، وهو وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر الثالث الذي صار حاضِراً بما قال قبل أكثر من 30 عاما، فقد باتت المواجهة الحالية في أوكرانيا تثير المخاوِف، جزئيّاً على الأقل، جراء الوعد المزْعوم أنّه قدَّمه لموسكو مع نهاية الحرب البارِدة.
وعلى وجهِ التحديد، ردّد ويردِّد الرئيس فلاديمير بوتين ومسؤولون روس آخرون مِراراً وتِكْراراً إنّ بيكر، رئيس الدبلوماسيّة الأمريكيّة في إدارة جورج بوش الأب، وعد بأنّ الناتو لن يتوسّع في أوروبا الشرقيّة. ويضيف الكرملين "إنّ عدم التزام الغرب بوعْدهِ، هو سبب الأزمة التي توتِّر أوروبا حالياً"، وبالتالي أنّه أحد المُبرِّرات التي تدفع روسيا لنشر 100 ألف جندي على حدودها مع أوكرانيا، مهدِّدة بنزاعٍ، طالِبة تنازلات من الناتو".
الحقيقة هي أنّ الرئيس بوتين يريد من الغرب أنْ يَسْتَبْعَد - بضمانات قانونيّة - أي سيناريو لانْضِمام أوكرانيا إلى الناتو وأنْ يتراجع الحِلف شرقاً. غير أنّ الوثائق تشير إلى أنْ موسكو لديها ذاكِرة انتقائيّة من تلك المحادثات التي جرت قبل 30 عاماً، وفقاً لصحيفة (نيويورك تايمز). فما هي القِصّة وتفاصيلها؟
الثابت أنّه كان هناك بالفِعل نقاش بين الوزير جيمس بيكر وزعيم اتحاد الجمهوريات الاشتراكيَة السوفيتيّة ميخائيل غورباتشوف في الأشْهُر التي أعقبت سقوط جدار برلين حول الحدّ من اختصاص الناتو بعد توحيد ألمانيا، ولمْ يتِمّ تضمين مثل هذا البند بشكل قانوني في المُعاهدة النهائيّة الموقّعة من قبل الولايات المُتّحِدَة والأوروبيّون والروس.
وحول ما يسميه بوتين وفريق عمله "وعد أمريكي"، قال بيكر نفسه في مقابلة عام 2014 بعد أشْهُر قليلة من ضمِّ روسيا شبه جزيرة القرم وتدخُّلها في شرق أوكرانيا لدعم القوات الانفصاليّة هناك "إنها حجّة سخيفة". وأوضح بيكر "صحيح أنّه في المراحل الأولى من المناقشة قُلنا (ماذا لو)، ثم دعم غورباتشوف حلّ يوسع الحدود لتشمل جمهوريّة ألمانيا الديمقراطيّة في الناتو". وتساءل بيكر "بعد أنْ وقّع الروس على تلك المعاهدة، كيف يُمْكِنهم الاعتِماد على ما قُلْته قبل شهر أو نحو ذلك؟"، وبنفسه أجاب وزير الخارجيّة السابق "بالطبع لا معنى لذلك".
* لُغة قابِلة للتفْسير ومُعاهدة واضِحة:
يتعلق الخلاف بالفترة التي تلت نهاية الحرب الباردة، عندما تفاوض الشرق والغرب على إطار جديد للعلاقات. أدى سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 إلى بدء مفاوضات حول توحيد ألمانيا. كانت إدارة بوش مُصَمِّمَة على ضمِّ ألمانيا الموحدة إلى الناتو، ولكن في الوقت نفسه، كان المسؤولون الغربيون يحاولون أنْ يوفِّروا للمسؤولين في موسكو ضمانات أمنيّة. وفي 31 يناير 1990، قال وزير خارجيّة ألمانيا الغربيّة هانز ديتريش جينشر في خطاب ألقاه "لن يكون هناك توسّع في أراضي الناتو إلى الشرق، وبشكل أكثر دِقّة، بالقرب من حدود الاتحاد السوفيتي". وتحدث المسؤول عن احتمال تواجُد قوات للناتو تتمرْكز في ألمانيا الشرقيّة، وليس عن انضمام دول أخرى إلى حِلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، استخدم بيكر صياغة جينشر خلال زيارة قام بها يوم 9 فبراير من نفس العام إلى موسكو حيث قال لغورباتشوف عدة مرات خلال المحادثات "لن يكون هناك تمديد لولاية الناتو ولقوات الحِلف لسنتيمتر واحد شرقاً"، وفقا لمُذكِّرة الحديث الذي جرى في المحادثات والتي أزيلت عنها الصِبْغة السِريّة.
وفي واشنطن، انزعج مسؤولو مجلس الأمن القومي حيث يُمْكِن أنْ تعني كلمة "ولاية قضائية عسكرية للناتو" أيضاً أنّ عقيدة الدفاع الجماعي لحلف الناتو ستنْطبِق على جزء فقط من أراضي ألمانيا، مِمّا يحِدّ من سيادة ألمانيا. وأوضحت كوندوليزا رايس، التي كانت مُسْتشارة لشئون العلاقات مع الاتحاد السوفيتي ثم وزيرة للخارجيّة في عهد جورج دبليو بوش، في مقابلة أخرى أنّ "مجلس الأمن القومي اتصل بجيمس بيكر سريعاً وأخبره بأنّ هذه اللغة تحتمِل تفسيرات عديدة".
تلقى بيكر الرسالة وبدأ يتخلّى عن مُصْطلح "الولاية القضائية" في جميع المناقشات اللاحقة، كما رفض المستشار هيلموت كول صيغة وزير خارجيته جينشر. واعترف بيكر لاحقاً أنّه استخدم لغة سخيّة جداً، لكنه أشار إلى أنْ هذا الأمر قد تغيّر وأنّ الروس كانوا يعرفون ذلك طوال الوقت. وقال بيكر مُشيراَ لغورباتشوف "في الأشهر التي تلت ذلك، لم تُثَرْ قَطْ مسألة توسيع سُلطة الناتو إلى الشرق". ثُمّ وقّع بيكر بعد ذلك وثائق الناتو التي بموجبها وسّع الناتو سُلطته.
* ماذا قال غورباتشوف:
عندما عاد بيكر إلى موسكو في مايو، قدّم سلسلة من الضمانات، بما في ذلك فترة انتقاليّة لانسحاب القوات السوفيتيّة من ألمانيا الشرقيّة، مؤكداً "خلال هذه الفترة لن تَدْخُل قوات الناتو المنْطِقة". ولمْ يَكُنْ هذا وعداً بأنّ الناتو لن يتوسّع شرقاً، وأصرّ بيكر للروس على أنّه لا يُمْكِنه تقديم أكثر من ذلك.
في النهاية وافق غورباتشوف، ومَنَعت المُعاهدة النهائيّة، التي كرّست إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990، القوات الأجنبيّة من دخول أراضي ألمانيا الشرقيّة السابقة، مع إمكانيّة تعبئة قوات الناتو الألمانيّة بعد انسحاب القوات السوفيتيّة حتى نهاية عام 1994. ولم تشِر المُعاهدة إلى توسيع حلف شمال الأطلسي إلى الشرق، ولمْ يَكُنْ هنالك سبب لذلك، وقالت رايس "من المُهِم أنْ نتذكّر أنّه في ذلك الوقت لمْ يَكُنْ واضِحاً ما إذا كان الاتحاد السوفياتي سينهار، وكانت المُعاهدة حول توحيد ألمانيا، ولم يَكُنْ توسيع الناتو مطروحاً في 1990 - 1991".
الشاهِد أنّ غورباتشوف اعترف أيضاً بهذا السيناريو، وقال لاحِقاً في حوار بعد تَدَخُل روسيا في أوكرانيا، أنّ فكرة توسيع الناتو شرقاً لم يتِمّ الحديث عنها مُطْلقاً في تلك السنوات. وأضاف الزعيم السوفيتي السابق أنّ الحديث جرى عن القوات الأجنبيّة في شرق ألمانيا "وتصريح بيكر جاء في هذا السياق".
في الوقت نفسه، وبغَضّ النظر عن القضايا الخِلافيّة، شدَّد غورباتشوف على أنّ توسيع الناتو يمثِّل تحدّياً. وقال "لقد كان بالتأكيد انتِهاكاً لروح التصريحات والتأكيدات التي قُدِّمت لنا عام 1990"، وأضاف أنّ بيكر نفسه هو من اقترح نهجاً مُخْتلِفاً لاستراتيجيّة الناتو في أوروبا الشرقيّة. وفي عام 1993، عندما كان الناتو يفكِّر في قِبول بولندا والمجر ودولة التشيك، اقترح غورباتشوف في مقال نشرته صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) الأمريكيّة أنْ يأخُذ الناتو في الاعتِبار قبول روسيا في الحِلف. كانت الفكرة أنّ روسيا ستضطر إلى إجراء إصلاحات ديمقراطيّة من أجل الانضمام، بينما تتلقى في الوقت نفسه تأكيدات بأنّها لن يُنظر إليها باعتبارها عدوّاً. ومن الواضح أنّ التاريخ أظهر أنّ مثل هذا السيناريو مستحيل.
في غضون ذلك، ووفقاً لصحيفة (نيويورك تايمز)، نكثت روسيا وعدها لأوكرانيا. فقد وقّعت معها اتفاقيّة عام 1994 بجانب الولايات المُتَّحِدَة والمملكة المُتَّحِدَة تُسمّى مُذكِّرة بودابست، تَنِصّ على أنّ أوكرانيا تتنازل عن 1900 رأس حربي نووي مُقابِل التزام موسكو "باحترام الاستقلال والسيادة والحدود الحاليّة"، والامْتِناع عن "استخدامِ القوةِ" ضُد ذلك البلد. انتهكت روسيا سيادة أوكرانيا بضمِّ شبه جزيرة القرم ودعم القوات الانفصاليّة في الحرب في شرق أوكرانيا.
* معاً نحو تبادُل التنازُلات:
….. وبعد، اسمحوا لي بقولِ اقْصر عبارة، أي "لا تعليق"، واترك القارئ مُتمحِّنا مثلي في انتظار المشهد التالي للنزاع والاختلاف لا على أوكرانيا فقط، وإنّما حول تمدُّد حلف شمال الأطلسي في أوروبا، فهل ينتهي الأمر بحربٍ خاطِفة محدودة أمْ تنْجح الدبلوماسيّة، بتنازُلات من هنا وهناك في احتواء اخطر نزاع بعد نهاية الحرب الباردة، حتّى لا يحدُث ما لا يُحْمَد عقباه، ولا نرى قعقعة السلاح والرصاص وإنّما تبادل الطلاق الصواريخ علماً بأنّ للطرفين رؤوس نوويّة، وأحد الأطراف يستطيع تدمير الآخر عشرة مرّات بينما الثاني يُمْكِن أنْ يدمِّر الأول على الأقل مرّة واحدة، تكفي وتعادل التدمير (n) مرّة!
بوخارست - 14 يناير 2022
isammahgoub@gmail.com
////////////////////////////
/////////////////////////////
///////////////////////////////
هذا وبعد جولات المباحثات الأمريكيّة – الروسيّة، والأطلسيّة – الروسيّة، التي جرت خلال الأسبوع الجاري، لم يَكُنْ من المُتوقّع أنْ تَسْفر الجولة الأخيرة بين منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وروسيا عن أي نتيجة تُذْكر، عِلماً بان روسيا ترفُض رفضاً قاطِعاً سحب قواتها من منطقة الحدود الأوكرانيّة، في وقت ترفُض فيه الدول الغربيّة بالمقابل الحد من توسيع الحِلف الأطلسي شرقاً وسحب قواته من أوروبا الشرقيّة. وحذّر الأمين العام للحلف الأطلسي من اختيار روسيا طريق المواجهة، رغم أن الحِلف لا يزال مُنْفتِحاً للحوار. وحذًرت روسيا من ناحيتها من عواقِب خطيرة في حال تصاعُد الأوضاع وتقويض أسُس الأمن، إلّا أنّ السفير الأمريكي لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أوحى باحتمِال إيجاد مجال للتفاهم، رغم الفوارق الكبيرة بين مواقف الجانبين المُتشدِّدة. وقالت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا إنّ الظروف الميدانيّة تدهورت لمراقبيها في المناطق التي يشرِف عليها الانفصاليون في شرق أوكرانيا، وأعرب الأمين العام للحلف الأطلسي عن قلقه من خطر اندلاع نزاع مسلح جديد. ووصف وزير خارجيّة بولندا التي ترأس بلاده منظمة الأمن والتعاون في أوروبا الوضع بأنّ "القارة الأوربيّة أقرب إلى الحرب مِمّا كانت عليه مُنْذ 3 عقود"، وقال جوزيب بوريل رئيس الدبلوماسيّة الأوروبيّة إنّ الاتحاد الأوروبي لا يستطيع القبول بإعادة الكتلة الجيوسياسيّة السوفيتيّة في أوروبا وفصل أوروبا عن الولايات المُتَّحِدَة. وفي واشنطن قدم الديمقراطيّون في مجلس الشيوخ مشروع قانون لفرض عقوبات صارِمة على مسئولين حكوميين وعسكريين روس في حالة غزو أوكرانيا، وعلى رأسِهم الرئيس فلاديمير بوتين نفسه. ويقترح القانون تقديم مساعدات لأوكرانيا لتعزيز امنها واتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم تشغيل السيل الشمالي الثاني، وإبعاد الشركات الروسيّة عن شبكة (سويفت) الخاصة بتبادل المعلومات بين المؤسسات الماليّة.
* قِصص خبريّة مُتضارِبة:
ما يُلْفِت النظر أنّ الصُحف الأوربيّة تبارت في نشر قصص خبرية حول أسّ الخلاف بين القوتين العظميين الولايات المُتّحِدَة الأمريكيّة وروسيا الاتحاديّة حول أوكرانيا، أو بالأصح حول مناطق نفوذ موسكو في شرق أوروبا وبالأخص في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، والأراضي الواسعة التي يتمدّد فيها حلف شمال الأطلسي الذي تقوده واشنطن.
نشرت صحيفتا (ليبرتاتيا وجورنالول ناتسيونال)، واسِعتا الانتِشار في رومانيا، قصّة خبريّة واحدة في روايتين مُتصادمتين مضى على أسرارهما أكثر من ثلاثين عاماً، لا تختلفان إلّا في تفسير خلاصتهما واستعمالهما راهناً.
دعونا نأخُذ، بتصرُّف، خلاصة ما كتبه شيربان ميهاييلا في (جورنالول ناتسونال)، ونبحث في الأضابير والوثائق التي جرى مؤخراً تحريرها وهي تحمِل في داخلها أسرار مُحادثات وأحاديث خلف الأبواب المُغلقة.
بعد سقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار حلف وارسو، بدأ تحلُّل الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك، فإنّ تفكك العملاق الشرقي لم يتوقّف مع إعلان 14 جمهوريّة سوفيتيّة سابقة الاستقلال عن موسكو، فقد كان تقطيع الأوصال قد بدأ للتو.
انفصلت ترانسنيستريا بحُكْمِ الواقع عن مولدوفا، وانفصلت أوسيتيا الجنوبيّة وأبخازيا عن جورجيا. تم تحرير الشيشان من روسيا، لكنها أعيدت إلى سيطرة موسكو بعد حربين دمويتين. علاوة على ذلك، تمزّقت أوكرانيا وفقدت منطقة دونباس ثم انتزعت روسيا من أوكرانيا شبه جزيرة القرم. فما هو الشيء المشترك بين مولدوفا وأوكرانيا وجورجيا، بصرف النظر عن عمليات بتر الأطراف القسريّة التي فرضتها روسيا بوحشيّة بعد الحرب الباردة؟
تريد الدول الثلاثة الانضمام إلى الناتو، وضمنياً، الحصول على الضمانات الأمنيّة المنصوص عليها في المادة 5 من معاهدة حلف شمال الأطلسي، والتي من شأنها إجبار الحلف الذي تقوده الولايات المُتَّحِدَة على بدء حرب ضد روسيا للدفاع عن سيادتها وسلامتها الإقليميّة في حالة هجوم يقوم به الكرملين.
من السهل معرفة سبب رغبة هذه الدول في أنْ يضطّر الأمريكيون إلى القتال من أجلها، ولكن ما لا يُفْهَم هو سبب تقديم الولايات المُتّحِدَة ضمانات أمنيّة، وقبولهم في الناتو.
* الولايات المُتّحِدَة أمام مخاطر كبيرة:
"لماذا نتعهد بمخاطرة خوض حرب مع روسيا، الدولة التي تملك أسلحة نووية، نيابة عن دول لم يفكِّر فيها أحد أنّها من المصالح الحيويّة للولايات المُتّحِدَة؟"، يتساءل بات بوكانان مدير الاتصالات السابق بالبيت الأبيض والمستشار الخاص لرؤساء الولايات المُتّحِدَة السابقين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد ورونالد ريغان وأحد المعلقين السياسيين الأكثر احتراماّ في أمريكا.
يطْلُب بوكانان الانتباه إلى البلدان الأربعة عشر، دولة التشيك والمجر وبولندا وسلوفينيا وسلوفاكيا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا ورومانيا وبلغاريا وألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا الشماليّة، ويقول "ضَعْ في اعتبارك أنّ تلك الدول تم قبولها في الناتو وبالتالي حصلت على ضمانات أمنيّة أمريكيّة بعد عام 1991"، ويضيف "إن أعضاء الناتو الأربعة عشر الجُدُد، امتِداد لالتزامات الولايات المُتّحِدَة القتاليّة، وهو أمر أكثر خُطورة في بعض النواحي مُقارنة بالتأسيس الأصلي لحِلف شمال الأطلسي، عندما أجْبِرْنا على الدفاع عن عشر دول أوروبيّة غربيّة". ويواصل بوكانان "نحن ندافع اليوم عن 29 دولة، تمتد حدودها إلى أوروبا الشرقيّة، وهناك احتمال كبير جداً لتوسيع نطاق حلف شمال الأطلسي".
ووفقا للمعلق السياسي المعروف، تريد جورجيا وأوكرانيا الانضمام للناتو لتصبح الولايات المُتّحِدَة مُجْبرة لمحاربة روسيا دفاعاً عنهما. وتناقِش دولتان أخريان، السويد وفنلندا، التخلّي عن حيادهما التقليدي لصالح الانضمام إلى الناتو والحصول على ضمانات أمنيّة أمريكيّة. كما أنّ البوسنة والهرسك هي أيضا دولة مُرَشّحة لعضويّة الحِلف، ولا ننسى أنّ في عاصمتها سراييفو، انطلقت رصاصة عام 1914 وقتلت أرشيدوق النمسا، وهو الحادث الذي تسبب في اندلاع الحرب العالميّة الأولى.
* بوتين لن يتراجع:
وعلى صعيد أخر، يقول بوكانان "في نهاية الحرب الباردة، قال زعيم الكرملين السابق ميخائيل غورباتشوف لوزير الخارجيّة الأمريكي آنذاك جيمس بيكر، أن روسيا ستوافق على توحيد ألمانيا الشرقيّة وألمانيا الغربيّة، إذا كانت الولايات المُتَّحِدَة ستضمن عدم تمدُّد الناتو في شرق أوروبا. وأضاف بوكانان "يقال أنّ بيكر وعد غورباتشوف بقول: ولا لشِبْرٍ!"، فيتساءل المُعلِق السياسي المرموق بوكانان "مهما كانت الحقيقة، لا يمكننا أن نفهم حقاًّ مشاعِر فلاديمير بوتين، بنزعته القوميّة الروسيّة، وبلاده مُحاصرة ومُعرّضة للخطر وقد قام الناتو، الذي تم إنشاؤه أساساً للإحاطة بروسيا، بضم 14 عضواً جديداً، معظمهم كانوا حلفاء سابقين لموسكو أو جمهوريات في اتحاد الجمهوريات الاشتراكيّة السوفيتيّة؟".
في الواقع، جاء في افتتاحية نُشرتها يوم الاثنين الماضي صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكيّة المرموقة "لا يمكن اسْتِبْعاد قلق السيد بوتين تماماً. فإذا انضمت أوكرانيا إلى الناتو، سيكون للحلف حدوداً برِّية طولها 1200 ميل مع روسيا، وهو وضع لن تقبله أي قوة عظمى، غَضّ النظر عن مدى رفع حلف شمال الأطلسي صوته عالياً مُدّعياً بأنّ دوره دِفاعيٌّ بحْت".
ويُذْكَر أنّ المادة 5 من مُعاهدة حِلف شمال الأطلسي تَنُصّ على: "تتفِق الأطراف على أنّ هجوماً مُسلّحاً على واحد أو أكثر منهم (...) سيعتبر هجوماً عليهم جميعاً، وبناءً عليه، يتّفِقون على أنّه في حالة حدوث مثل هذا الهجوم المُسلّح، فإنّ كل منهم (...) يجب أنْ يدعم الطرف أو الأطراف في الهجوم على الفور، وتَتّخِذ أي إجراءات تراها ضروريّة، بما في ذلك اسْتِخْدام القوة المُسلّحة، لاسْتِعادة الأمن والحِفاظ عليه في منطقة شمال الأطلسي".
يبدو أن "منطقة شمال الأطلسي" التي تمْتد الآن إلى شرق بحر البلطيق والبلقان، ستتوسَّع وتَشْمِل، إذا تم قبول أوكرانيا وجورجيا في الناتو، القوقاز وخمس من دول البحر الأسود السِت. روسيا فقط هي التي ستبقى خارج الناتو.
* أسئلة بوكانان:
والى ذلك، صرّح مؤخراً أنتوني بلينكين رئيس الدبلوماسيّة الأمريكيّة بأنّ "الناتو لم يَعِدْ أبداً بعدم قبول أعضاء جُدُد. لم يستطعْ ذلك ولن يريد ذلك!"، ويعلِّق بوكانان على موقف بلينكين بقوله "هذا هراء، فليس هناك شرط لقبول الولايات المُتّحِدَة ضمّ أي دولة أو كل الدول التي تتقدّم بطلب الانضِمام إلى حِلف شمال الأطلسي"، ويضيف "يُمْكِننا اسْتِخْدام حقّ النقْض ضُدّ أي مُرشّح، وقد يكون تجنُب الحرب مع روسيا أحد الأسباب".
ويواصل بوكانان "بالنظر إلى التوسُع المُسْتَمِرّ لحلف الناتو بعد الحرب الباردة في وسط وشرق أوروبا، تحتاج أمريكا إلى طرح بعض الأسئلة على نفسها. فإذا زاد خطر الحرب مع روسيا مع قبول كل عضو جديد في الناتو له حدود معها، فلماذا نفعل ذلك؟ ألا يوجد خط أحمر لروسيا بوتين لن نتجاوزه؟ هل نعْتقِد أن بوتين سيقبل تطويق وسيطرة لا نهاية لها على بلاده من قبل دول متّحِدة في تحالف تم إنشاؤه على وجه التحديد لمحاصرة روسيا؟".
ويقول بات بوكانان مُحذِّراً "كثيراً ما اختلف الرؤساء هاري ترومان، دوايت أيزنهاور، جون ف. كينيدي، ليندون جونسون، ريتشارد نيكسون، جيرالد فورد، جيمي كارتر ورونالد ريغان، لكِنّهم اتّفقوا على شيء واحد: الأمن الذي توفِّره الولايات المُتّحِدَة وحِلف شمال الأطلسي يتوقّف عند نهر إلبا - الذي يفصل المانيا الغربيّة عن شقيقتها الشرقيّة -. عبر النهر، حاربنا الاتحاد السوفيتي بأسلحة دبلوماسيّة وسياسيّة واقتصاديّة، وليس بأسلحة حربيّة!".
ويختِم تعليقه أيضاً بسؤال: " كيف كان سيكون ردّ فعلنا إذا كُنّا بعد خسارتنا الحرب الباردة وجدنا أمامنا سفناً حربيّة روسيّة في بحيرة أونتاريو وعرضت موسكو ضمانات أمنيّة لكندا؟"
* هل يعتمد بوتين على وعد لم تقدمه واشنطن لموسكو؟
وحول نفس الوعد، مزْعوماً كان أمْ حقيقيّاً، كتب ادريان كوكينو في صحيفة (ليبرتاتيا): تدَّعي روسيا أن الولايات المُتّحِدَة وعدت في نهاية الحرب الباردة بأن الناتو لن يتوسّع في أوروبا الشرقيّة، وهو ما حدث في النهاية. وتظْهِر الوثائق أنّه بينما كانت بعض المناقشات حول "الولاية القضائيّة العسكريّة لحلف الناتو" قائمة في عام 1990، لمْ تقدِّم واشنطن في آخر الأمر مثل هذه التأكيدات إلى موسكو، وفقاً لما كتبت صحيفة (نيويورك تايمز) في نفس اليوم، الاثنين 10 يناير الجاري، الذي أجرى فيه المسؤولون الروس والأمريكيون في جنيف مباحثات حول الأمن في أوكرانيا وأوروبا.
جلس دبلوماسيون من روسيا والولايات المُتّحِدَة على طاولتين متقابلتين في جنيف لتجنب صراع جديد في أوروبا. غير أنّه وفيما يتعلق بموضوع المفاوضات غاب عن المشهد أهم شخص توقّف عن العمل مُنذ عقود، وهو وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر الثالث الذي صار حاضِراً بما قال قبل أكثر من 30 عاما، فقد باتت المواجهة الحالية في أوكرانيا تثير المخاوِف، جزئيّاً على الأقل، جراء الوعد المزْعوم أنّه قدَّمه لموسكو مع نهاية الحرب البارِدة.
وعلى وجهِ التحديد، ردّد ويردِّد الرئيس فلاديمير بوتين ومسؤولون روس آخرون مِراراً وتِكْراراً إنّ بيكر، رئيس الدبلوماسيّة الأمريكيّة في إدارة جورج بوش الأب، وعد بأنّ الناتو لن يتوسّع في أوروبا الشرقيّة. ويضيف الكرملين "إنّ عدم التزام الغرب بوعْدهِ، هو سبب الأزمة التي توتِّر أوروبا حالياً"، وبالتالي أنّه أحد المُبرِّرات التي تدفع روسيا لنشر 100 ألف جندي على حدودها مع أوكرانيا، مهدِّدة بنزاعٍ، طالِبة تنازلات من الناتو".
الحقيقة هي أنّ الرئيس بوتين يريد من الغرب أنْ يَسْتَبْعَد - بضمانات قانونيّة - أي سيناريو لانْضِمام أوكرانيا إلى الناتو وأنْ يتراجع الحِلف شرقاً. غير أنّ الوثائق تشير إلى أنْ موسكو لديها ذاكِرة انتقائيّة من تلك المحادثات التي جرت قبل 30 عاماً، وفقاً لصحيفة (نيويورك تايمز). فما هي القِصّة وتفاصيلها؟
الثابت أنّه كان هناك بالفِعل نقاش بين الوزير جيمس بيكر وزعيم اتحاد الجمهوريات الاشتراكيَة السوفيتيّة ميخائيل غورباتشوف في الأشْهُر التي أعقبت سقوط جدار برلين حول الحدّ من اختصاص الناتو بعد توحيد ألمانيا، ولمْ يتِمّ تضمين مثل هذا البند بشكل قانوني في المُعاهدة النهائيّة الموقّعة من قبل الولايات المُتّحِدَة والأوروبيّون والروس.
وحول ما يسميه بوتين وفريق عمله "وعد أمريكي"، قال بيكر نفسه في مقابلة عام 2014 بعد أشْهُر قليلة من ضمِّ روسيا شبه جزيرة القرم وتدخُّلها في شرق أوكرانيا لدعم القوات الانفصاليّة هناك "إنها حجّة سخيفة". وأوضح بيكر "صحيح أنّه في المراحل الأولى من المناقشة قُلنا (ماذا لو)، ثم دعم غورباتشوف حلّ يوسع الحدود لتشمل جمهوريّة ألمانيا الديمقراطيّة في الناتو". وتساءل بيكر "بعد أنْ وقّع الروس على تلك المعاهدة، كيف يُمْكِنهم الاعتِماد على ما قُلْته قبل شهر أو نحو ذلك؟"، وبنفسه أجاب وزير الخارجيّة السابق "بالطبع لا معنى لذلك".
* لُغة قابِلة للتفْسير ومُعاهدة واضِحة:
يتعلق الخلاف بالفترة التي تلت نهاية الحرب الباردة، عندما تفاوض الشرق والغرب على إطار جديد للعلاقات. أدى سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 إلى بدء مفاوضات حول توحيد ألمانيا. كانت إدارة بوش مُصَمِّمَة على ضمِّ ألمانيا الموحدة إلى الناتو، ولكن في الوقت نفسه، كان المسؤولون الغربيون يحاولون أنْ يوفِّروا للمسؤولين في موسكو ضمانات أمنيّة. وفي 31 يناير 1990، قال وزير خارجيّة ألمانيا الغربيّة هانز ديتريش جينشر في خطاب ألقاه "لن يكون هناك توسّع في أراضي الناتو إلى الشرق، وبشكل أكثر دِقّة، بالقرب من حدود الاتحاد السوفيتي". وتحدث المسؤول عن احتمال تواجُد قوات للناتو تتمرْكز في ألمانيا الشرقيّة، وليس عن انضمام دول أخرى إلى حِلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، استخدم بيكر صياغة جينشر خلال زيارة قام بها يوم 9 فبراير من نفس العام إلى موسكو حيث قال لغورباتشوف عدة مرات خلال المحادثات "لن يكون هناك تمديد لولاية الناتو ولقوات الحِلف لسنتيمتر واحد شرقاً"، وفقا لمُذكِّرة الحديث الذي جرى في المحادثات والتي أزيلت عنها الصِبْغة السِريّة.
وفي واشنطن، انزعج مسؤولو مجلس الأمن القومي حيث يُمْكِن أنْ تعني كلمة "ولاية قضائية عسكرية للناتو" أيضاً أنّ عقيدة الدفاع الجماعي لحلف الناتو ستنْطبِق على جزء فقط من أراضي ألمانيا، مِمّا يحِدّ من سيادة ألمانيا. وأوضحت كوندوليزا رايس، التي كانت مُسْتشارة لشئون العلاقات مع الاتحاد السوفيتي ثم وزيرة للخارجيّة في عهد جورج دبليو بوش، في مقابلة أخرى أنّ "مجلس الأمن القومي اتصل بجيمس بيكر سريعاً وأخبره بأنّ هذه اللغة تحتمِل تفسيرات عديدة".
تلقى بيكر الرسالة وبدأ يتخلّى عن مُصْطلح "الولاية القضائية" في جميع المناقشات اللاحقة، كما رفض المستشار هيلموت كول صيغة وزير خارجيته جينشر. واعترف بيكر لاحقاً أنّه استخدم لغة سخيّة جداً، لكنه أشار إلى أنْ هذا الأمر قد تغيّر وأنّ الروس كانوا يعرفون ذلك طوال الوقت. وقال بيكر مُشيراَ لغورباتشوف "في الأشهر التي تلت ذلك، لم تُثَرْ قَطْ مسألة توسيع سُلطة الناتو إلى الشرق". ثُمّ وقّع بيكر بعد ذلك وثائق الناتو التي بموجبها وسّع الناتو سُلطته.
* ماذا قال غورباتشوف:
عندما عاد بيكر إلى موسكو في مايو، قدّم سلسلة من الضمانات، بما في ذلك فترة انتقاليّة لانسحاب القوات السوفيتيّة من ألمانيا الشرقيّة، مؤكداً "خلال هذه الفترة لن تَدْخُل قوات الناتو المنْطِقة". ولمْ يَكُنْ هذا وعداً بأنّ الناتو لن يتوسّع شرقاً، وأصرّ بيكر للروس على أنّه لا يُمْكِنه تقديم أكثر من ذلك.
في النهاية وافق غورباتشوف، ومَنَعت المُعاهدة النهائيّة، التي كرّست إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990، القوات الأجنبيّة من دخول أراضي ألمانيا الشرقيّة السابقة، مع إمكانيّة تعبئة قوات الناتو الألمانيّة بعد انسحاب القوات السوفيتيّة حتى نهاية عام 1994. ولم تشِر المُعاهدة إلى توسيع حلف شمال الأطلسي إلى الشرق، ولمْ يَكُنْ هنالك سبب لذلك، وقالت رايس "من المُهِم أنْ نتذكّر أنّه في ذلك الوقت لمْ يَكُنْ واضِحاً ما إذا كان الاتحاد السوفياتي سينهار، وكانت المُعاهدة حول توحيد ألمانيا، ولم يَكُنْ توسيع الناتو مطروحاً في 1990 - 1991".
الشاهِد أنّ غورباتشوف اعترف أيضاً بهذا السيناريو، وقال لاحِقاً في حوار بعد تَدَخُل روسيا في أوكرانيا، أنّ فكرة توسيع الناتو شرقاً لم يتِمّ الحديث عنها مُطْلقاً في تلك السنوات. وأضاف الزعيم السوفيتي السابق أنّ الحديث جرى عن القوات الأجنبيّة في شرق ألمانيا "وتصريح بيكر جاء في هذا السياق".
في الوقت نفسه، وبغَضّ النظر عن القضايا الخِلافيّة، شدَّد غورباتشوف على أنّ توسيع الناتو يمثِّل تحدّياً. وقال "لقد كان بالتأكيد انتِهاكاً لروح التصريحات والتأكيدات التي قُدِّمت لنا عام 1990"، وأضاف أنّ بيكر نفسه هو من اقترح نهجاً مُخْتلِفاً لاستراتيجيّة الناتو في أوروبا الشرقيّة. وفي عام 1993، عندما كان الناتو يفكِّر في قِبول بولندا والمجر ودولة التشيك، اقترح غورباتشوف في مقال نشرته صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) الأمريكيّة أنْ يأخُذ الناتو في الاعتِبار قبول روسيا في الحِلف. كانت الفكرة أنّ روسيا ستضطر إلى إجراء إصلاحات ديمقراطيّة من أجل الانضمام، بينما تتلقى في الوقت نفسه تأكيدات بأنّها لن يُنظر إليها باعتبارها عدوّاً. ومن الواضح أنّ التاريخ أظهر أنّ مثل هذا السيناريو مستحيل.
في غضون ذلك، ووفقاً لصحيفة (نيويورك تايمز)، نكثت روسيا وعدها لأوكرانيا. فقد وقّعت معها اتفاقيّة عام 1994 بجانب الولايات المُتَّحِدَة والمملكة المُتَّحِدَة تُسمّى مُذكِّرة بودابست، تَنِصّ على أنّ أوكرانيا تتنازل عن 1900 رأس حربي نووي مُقابِل التزام موسكو "باحترام الاستقلال والسيادة والحدود الحاليّة"، والامْتِناع عن "استخدامِ القوةِ" ضُد ذلك البلد. انتهكت روسيا سيادة أوكرانيا بضمِّ شبه جزيرة القرم ودعم القوات الانفصاليّة في الحرب في شرق أوكرانيا.
* معاً نحو تبادُل التنازُلات:
….. وبعد، اسمحوا لي بقولِ اقْصر عبارة، أي "لا تعليق"، واترك القارئ مُتمحِّنا مثلي في انتظار المشهد التالي للنزاع والاختلاف لا على أوكرانيا فقط، وإنّما حول تمدُّد حلف شمال الأطلسي في أوروبا، فهل ينتهي الأمر بحربٍ خاطِفة محدودة أمْ تنْجح الدبلوماسيّة، بتنازُلات من هنا وهناك في احتواء اخطر نزاع بعد نهاية الحرب الباردة، حتّى لا يحدُث ما لا يُحْمَد عقباه، ولا نرى قعقعة السلاح والرصاص وإنّما تبادل الطلاق الصواريخ علماً بأنّ للطرفين رؤوس نوويّة، وأحد الأطراف يستطيع تدمير الآخر عشرة مرّات بينما الثاني يُمْكِن أنْ يدمِّر الأول على الأقل مرّة واحدة، تكفي وتعادل التدمير (n) مرّة!
بوخارست - 14 يناير 2022
isammahgoub@gmail.com
////////////////////////////
/////////////////////////////
///////////////////////////////