كيف لا
أكثر ما يتفق عليه المشاهدون الآن هو خواء التلفزيون السوداني وفقره الذي يزداد يوماً بعد يوم إلى أن وصل إلى هذه الصورة القاتمة والمملة. فغير تندر العرب وفضائياتهم على ما يقدمه التلفزيون الذي سُمي تجاوزاً بالفضائية السودانية وقبلها بالتلفزيون القومي ، فما رسخ في أذهان الناس من برامج قديمة بالأبيض والأسود وبعد دخول تلفزيون الألوان في الثمانينات فقد كان أكثر ثراء وما زال الناس قانعين ينهلون مما تم تقديمه في ذلك الزمان .
أصدق تعبير عن مشاعر المشاهدين حيال هذا الجهاز وبرامجه المطاطة ومذيعيه الأكثر لزوجة هو ما قاله الأستاذ عثمان ميرغني رئيس تحرير صحيفة (التيار) في مقابلة خفيفة الظل بعنوان " لو كنت...." ، أجرتها معه هذه الصحيفة "الأحداث" الشهر الماضي.ولما جاء دور السؤال : لو كنت مديراً للتلفزيون؟ قال : " أولاً منذ اليوم .... الساعة الآن واحدة ونصف وخمس ، الآن أعلن إغلاق التلفزيون. أولاً توفيراً للمال العام . ثانياً توفيراً لأحلام وطموحات الشباب الموجودين في التلفزيون لأنهم لو ظلوا في هذا المكان فقد حكموا على أنفسهم بالإعدام ، ولا يستطيعون أن يبدعوا داخل التلفزيون . ثالثاً لتوفير المكان الذي يقبع فيه التلفزيون لصالح أي منشأة أخرى يمكن يكون مستوصف."
وهذا إحساس يخالج كثيراً من الشباب الذين انخدعوا بسراب العمل في هذا الجهاز الذي كانوا يحسنون الظن به باعتباره المحطة الأولى التي يمكن أن تنقلهم إلى آفاق الفضائيات الأخرى. ولكن ما إن تطأ أقدامهم أرض الأحلام الخربة هذه حتى يفر منهم من يفر ، ومن يتماسك ويصبر يُقبر طموحه قبل أن يولد.
أما بالنسبة لجمهور المشاهدين فإنهم قد حكموا بفشل التلفزيون عموماً . فمن الناحية البرامجية لأنه تخلى عن هذا الدور ليؤدي دور الإعلام الرسمي وما يحيط به من قصور واضح في المهنية والمصداقية. وكحال أي إعلام رسمي فإن فشل التلفزيون يعود لأسباب عديدة أهمها أن بنية التلفزيون وأساسه يتكون ممن تم تعيينهم عن طريق الواسطة والمحسوبية والمنتمين إلى الأنظمة الحاكمة في أغلب العهود . ولكن هذا الوباء بدا أكثر تفشياً في ظل نظام الإنقاذ الحالي حتى أصبح التلفزيون بوقاً للنظام وأصبح أداؤه عدواً للإعلام والصحافة الحرة بدلاً من أن يكون جزءً منها.
ولا ننسى أنه في فترة من الفترات كان التلفزيون السوداني وموظفيه وعماله أشبه بجهاز المخابرات وبعيداً كل البعد عن الصحافة والإعلام .وهذه الإزدواجية بين العمل الإعلامي والمخابراتي أنتجت ما نراه الآن ، إعلام يكذّب الواقع ، ويكابر في تلوين الحقائق ويحاول في استماتة إقناع الناس بما يقدمه دون جدوى.وحتى وصلنا إلى هذه المرحلة التي أصبح فيها الخطاب الإعلامي هو إعادة إنتاج للخطاب السياسي للنظام بتقديمه بقوالب نمطية تحاول تحويل الآراء المخالفة إلى صفها.
وفي كثير من أجهزة الإعلام الرسمية العربية يمكن ملاحظة أن هناك سمات أساسية يرتكز عليها الخطاب الإعلامي ولكن الفرق بين إعلامهم وإعلامنا هو أن سمات الخطاب العربي تحاول إخفاء عيوبها بالانتاج البرامجي الغزير ومحاولات عمليات تجميل للجهاز الرسمي في الدولة. أما في الخطاب الإعلامي في التلفزيون السوداني فإنه لا يحاول حتى التجمل فترى بعض السمات أكثر بروزاً لدرجة القبح.
وهذا الخطاب لا يبعد عن السلطوية بل تكاد تكون سمة غالبة في كل الأجهزة الحكومية للدول العربية لدرجة تكبل هذا الخطاب وتجعله أسير فكرة وتوجه رهين بالسلطة .كما يجسّد الخطاب الأحادية التي تغيّب الآخر وتقصيه وهذا ما نراه في خطاب التلفزيون الذي يغض الطرف عن الثقافات المتعددة التي يذخر بها السودان والتي لو احتفى بها لكانت مصدراً لثرائه .أما ما يحيّر حقاً في الخطاب الإعلامي في التلفزيون السوداني هو الروح الاحتفائية وإضفاء هالة من القدسية للخطاب الرسمي للدرجة التي يتخيل معها أن من يبدي اعتراضاً على ما يتضمنه هذا الخطاب هو المجرم وهم الشهود..
عن صحيفة "الأحداث"
moaney [moaney15@yahoo.com]