حرب البرهان وحميدتي ونكسة النخب السودانية

 


 

طاهر عمر
20 April, 2023

 

النكسة هي كلمة من إنتاج عقل النخب العربية للتحايل على نفسها كي لا تعترف بالهزيمة و من بعدها البحث عبر الفكر النقدي الذي يؤسس للمشاريع النقدية في توضيح أسبابها و بالتالي إماكنية تجاوزها. لكن من بين النخب العربية ما هو قادر على كسر جدار الصمت و بالتالي مجابهة النفس بعيوبها التي أقعدتها و هذا ما جسده هشام شرابي في مشروعه النقدي و قد تفتح وعيه على حقيقة الكل لا يريد مواجهتها.
هشام شرابي تأكد له بأنه لا يمكنه تقديم مقاربات لحالة الكساد الفكري بين النخب في العالم العربي ما لم يفارق الفكر الفلسفي التجريدي و يتجه الى الواقع في دراسة حالة كساد المجتمعات العربية على أرض واقعها و بالتالي معرفة أسباب توارثها الى حالة العجز و عدم الوصول الى العقلانية.
و لهذا نجده قد قدم نقد لحالته هو نفسه كمفكر و يعتبر في نقده لتجربته متقدم جدا على كثير من النخب العربية بل يكاد يكون متقدم على صديقه ادورد سعيد الذي تأخر في تقديم نقد لتجربته كما فعل هشام شرابي و رغم جهوده الفكرية المتقدمة إلا أن حال العالم العربي يتحايل على فكر المفكريين من أمثال هشام شرابي لذلك نجد الأحتفاء بفكر هشام شرابي يكاد يكون قليلا جدا مقارنة بمفكريين يسيرون مع الموجة و مع الموضة و العنتريات التي لن تقتل ذبابة.
إنتبه هشام شرابي بسبب صدمة نكسة عام 1967 و كانت صفعة قوية في وجه من يريد أن ينتبه و من بعد الإنتباه مواصلة مشروع التفكير النقدي و هذا ما سار على دربه هشام شرابي بنشاط ترسمه دالة في زيادة إضطراد فكره و نضوجه من حقبة الى أخرى.
هشام شرابي وجد نفسه في صبيحة النكسة أمام حالتين إما أن يسلم نفسه لليأس الذي يأكل أحشاءه و يمزغ عواطفه و يشتت فكره أو أن يرمي بنفسه في بحث جاد يتفادى به إحساسه المر بالهزيمة و يساعده في إعادة بناء تجربته بفكر جديد ينتشله من حالة الإحساس المر بالهزيمة و العجز عن مجابهتها و التغلب عليها رغم تجذرها على مر العقود و يتوارثها جيل عن جيل في عالم عربي إسلامي ذو ثقافة عربية إسلامية تقليدية لا تعرف سبيل الى الإنتصار للفرد و العقل و الحرية و بالتالي عجز عن تأسيس قيم الجمهورية.
أظن أن الحالة التي وجد فيها هشام شرابه نفسه صبيحة النكسة هي نفس الحالة التي قد وجدت النخب السودانية نفسها فيها أي صبيحة حرب البرهان و حميدتي و هي تجسد لحظة مكاشفة و فضح للنخب السودانية بأنها لم تجيد رص صفوفها حيث تكون هناك علاقة متينة تربط بين السياسي السوداني و المفكريين و المثقفين و المؤرخين غير التقليديين و الاقتصاديين.
و بالتالي حرب البرهان و حميدتي قد وضعت النخب السودانية في مواجهة مرة و صعبة على النخب السودانية و كشفت لهم بأن هناك علاقة مفقودة كحلقة مفقودة بين السياسي السوداني و المفكريين السودانيين و هذا ما نبهنا له في عدة مقالات سابقة قلنا بأن في الشعوب الحية نجد خلف السياسي يقف المفكر و الفيلسوف و عالم الاجتماع و الاقتصادي كما تحلق حول شارل ديغول فلاسفة و مفكريين و مؤرخيين و اقتصاديين نذكر من ضمنهم ريموند أرون و مالرو و غيرهم كثر ممن أثروا ساحة الفكر في فرنسا.
هذا هو الغائب في ساحتنا السودانية و نضرب عليها مثلا نجده حول الصادق المهدي كرجل دين أكثر من أن يكون سياسي و نائبه برمة ناصر كعسكري لا تربطه أي علاقة بالفكر و لا الفلسفة و لا الاقتصاد كل مؤهلاته التي جعلته أن يكون رئيس الحزب بعد رحيل الصادق المهدي تقف خلفها فكرة سلطة الأب و ميراث التسلط لذلك لم تثمر جهوده لتأخير الحرب بين البرهان و حميدتي و هذا وحده يجعل برمة ناصر أن يحس أنه تجسيد لصورة أب في مجتمع تقليدي و فشل برمة ناصر في تأخير المناوشة بين البرهان و حميدتي هذا وحده يكفي بأن يجعل النخب السودانية تدرك أنها نخب تقليدية.
هذه الحرب العبثية بين البرهان و حميدتي من المفترض أن تفتح عيون النخب السودانية الى أن تجربتها و ماضيها الموروث من النخب السودانية منذ أيام مؤتمر الخريجيين ليس فيه ما يسعف حال المجتمع السوداني المتشوق للتحول الديمقراطي.
لهذا قلنا أن حال النخب السودانية في صبيحة حرب البرهان و حميدتي كحال هشام شرابي إلا أن هشام شرابي قد وجد حلوله في الغوص عميق في دراسة المجتمع كي يفارق ذاكرة محروسة بالوصايا و ممنوعة من التفكير و عليه نقول للنخب السودانية أن ما ينقذهم من حالهم البائس هو أن مفارقة الذاكرة المحروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير و الشب عن طوقها يبداء بكسر حلقتها و الشب عنها بابتداء مسيرة فكر جديدة كما فعل هشام شرابي.
و يذكر هشام شرابي كيف كسر حلقته و شب عن طوقها و قال أنه قد أعاد قراءة كتابات كارل ماركس و هو تحت صدمة النكسة كحال النخب السودانية في نكستها بسبب حرب البرهان و حميدتي و قد وصف هشام شرابي حالته النفسية و كيف أنه أحس بإحساس قد هز أعماقه لم يحسه إلا عندما قراء فردريك نيتشة و هو شاب و جاءه شعوره كأنه يقراء ماركس لأول مرة.
لكن إنتبه أيها القارئ الحصيف قراءة هشام شرابي لماركس ليست قراءة لماركسية قد أصبحت الأفق الذي لا يمكن تجاوزه كما يتوهم الشيوعي السوداني قراءة هشام شرابي لماركس كانت لماركس تحت الأغلال و ليس لماركس طليقا كما يتوهم الشيوعي السوداني لهذا السبب نجد في فكر هشام شرابي الذي يوصي القارئ ذو القراءة المشاركة و ليست القراءة الناعسة بالا يقع تحت نير أيدولوجية النسخ المتحجرة للشيوعية كحال الشيوعية السودانية و هنا يصل مستوى هشام شرابي في مشروعه النقدي لمستوى المفكريين الغربيين كورثة عقل الأنوار و حتى أحزابهم الشيوعية في الغرب قد أيقنت من نمط الانتاج الرأسمالي و هذا هو المستوى الغائب عند النخب السودانية.
ما أريد قوله من خلال تجربة هشام شرابي و كيف أعاد قراءة الفكر الغربي و كيف أيقن بأن تاريخ الغرب قد إختصر تاريخ البشرية و هشام شرابي متخصص في تاريخ أوروبا منذ سبعينيات القرن التاسع عشر و هو يصادف نهاية الليبرالية التقليدية و بداية أمشاج و تخلق الليبرالية الحديثة و قد وضحت أشعتها بعد ما يقارب الخمسة عقود.
نريد أن نذكر القارئ أن لحظة يقظة هشام شرابي بسبب نكسة عام 1967 تصادف عند النخب السودانية نكسة فكرية جعلت أغلب النخب السودانية لم تفارق أطلال المحاولات البائسة للنخب في ذلك الزمن البعيد و نضرب عليها مثلا بأن النخب السودانية لم تدرك حتى اللحظة أن فكر ذلك الزمن و قد برع في تقديمه الاستاذ عبد الخالق محجوب قد فشل مع فشل ثورة الشباب في فرنساعام 1968 و لكن نجد الفرق بين هشام شرابي و عبد الخالق في أن هشام شرابي إنتبه لمفارقة الأيدولوجيات المتحجرة كالشيوعية السودانية و أحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب الطائفية و الحركة الاسلامية السودانية.
الفرق الواضح بين تطور فكر هشام شرابي هو أن عبد الخالق محجوب حاول وجود دور للدين في السياسة السودانية عكس هشام شرابي كان يرى في الفكر الديني أكبر حاضنة لفكرة سلطة الأب و ميراث التسلط و نجد محمد ابراهيم نقد قد واصل خط أستاذه عبد الخالق في حوار حول الدولة المدنية و وصل الى توفيق كاذب لعلمانية محابية للأديان.
و هنا يبين لك عجز النخب السودانية لو قارناهم بهشام شرابي و هو يقول بأن جبن أتباع اليسار في تماهيهم مع الخطاب الديني و للأسف لم نجد أي نقد جاد لمحاولات عبد الخالق و بحثه لدور للدين في السياسة السودانية التي أتمها محمد ابراهيم نقد في بحثه لدور للدين في السياسة السودانية كتوفيق كاذب يوضع مشاريع الترقيع التي أورثتنا هيمنة فكر الهويات الخائفة و قد إنفتحت على الهويات القاتلة و قد جسدتها الحركة الاسلامية السودانية طيلة حكمها القامع على مدى ثلاثة عقود.
أريد أن ننبه النخب السودانية الى نكسة حرب البرهان و حميدتي و الإحساس المر للنخب بالخيبة يجب أن تصحي فيهم نزعة التفكير النقدي و أول خطواته مفارقة فكرهم القديم و إعادة قراءة كثير من المراجع كما فعل هشام شرابي مع تجربته في قراءته التي فتحت أمامه آفاق الفكر بعيدا عن التوفيق و التلفيق الكاذب للنخب السودانية و هي تعيد خط نخب نهاية الستينيات أي أيام محاولات التوفيق الكاذب لعبد الخالق محجوب بين الفكر الديني و الفكر الذي يبحث عن الانتصار للفرد و العقل و الحرية.
و للأسف الشديد نجد إصرار النخب السودانية على محاولات عبد الخالق في تماهيه مع الخطاب الديني و هو ينبعث في فكرة المساومة التاريخية للشفيع خضر بين يسار سوداني رث و يمين سوداني غارق في وحل الفكر الديني و هو يتسكع و يحاور و يداور و يعيد و يكرر فكر عبد الخالق و لا يختلف عنه الحاج وراق في دعوته لمهادنة الطائفية و الشيوعية السودانية و فوق كل ذلك نجد فكرة النور حمد في يوم خديعة من الكوز خالد التجاني النور و قد طرح فكرة المؤالفة بين العلمانية و الدين و كان في ضيافة خديعة الكوز مع النور حمد كل من كمال الجزولي و رشاء عوض و غيرهم كثر في لقاء نيروبي بالمناسبة لقاء نيروبي كان يوم يوضح لك كساد النخب السودانية.
لهذا حرب البرهان و حميدتي لا يمكن مجابهتها بفكر المفكريين الحاليين ورثة فكر نخب سودانية وقف فكرها في حقبة عبد الخالق محجوب في نهاية الستينيات من القرن المنصرم بل تحتاج لفكر جديد كما بداء هشام شرابي مشوار فكره من بعد النكسة و عليه نقول للنخب تنتظركم مسيرة طويلة و شاقة كمسيرة هشام شرابي و قد تحمل التعب في سبيل الشب عن طوق الجهل الذي يورث القراءة الناعسة.
في الختام أستلفنا فكر هشام شرابي لمجابهة حالة السودان لأن حكم الحركة الاسلامية السودانية في الثلاثة عقود الأخيرة قد حولت مشهد السياسة و الفكر في السودان و قد جعلته لا يختلف عن حال تردي الفكر و السياسة في العالم العربي و لهذا يصلح فكر هشام شرابي لتفكيك تجربة الحركة الاسلامية السودانية و أتباعها و قد أنزلوا مستوى طموح الشعب السوداني الحالم بالتحول الديمقراطي الى حال الدول العربية و هي عاجزة أن تؤسس لقيم الجمهورية.
و يمكن أن تقول بسبب حكم الحركة الاسلامية السودانية و تدمير طموح الشعب السوداني لأول مرة يصبح الشعب السوداني أقرب لحال العالم العربي و الاسلامي المعادي لفكر الحداثة و من هنا ننبه النخب الى أن تجاوز دمار الحركة الاسلامية السودانية للمجتمع السوداني لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق طرح فكر عقل الأنوار و المفارقة المحزنة أن أغلب النخب السودانية في تماه مع الخطاب الديني.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء