حرب السودان …المرض المناعي في امبراطورية الشر !

 


 

رشا عوض
6 September, 2024

 

شهدت في التاسع من يوليو عام ٢٠١١ بام عيني في مدينة جوبا لحظة انزال علم السودان رسميا وتدشين جمهورية جنوب السودان المستقلة!
كانت لحظة رهيبة مهيبة محتشدة بالدروس والعبر ودموع القلب!
لا ادري كيف مرت تلك اللحظة مرور الكرام على غالبية السودانيين!
نعم شاركت الجنوبيين احتفالهم بخلاصهم، وتمنيت ان يكون بالفعل خلاصا حقيقيا يطوي صفحة معاناتهم ممثلة في الحروب الطاحنة والقتل المجاني والتمييز على اساس الهوية العرقية او القبلية ووطأة الاستبداد والفساد والفقر والافقار ووووو
بكل اسف لم يتحقق للجنوبيين ما تمنيته لهم!
اشتعلت الحرب بين الرفاق في الحركة الشعبية صراعا على السلطة اخذ طابعا قبليا فكانت المجازر والاهوال ثم حبس الشعب بين خيارين احلاهما المر: الدكتاتورية الغليظة او الحرب الاهلية !
ولم يتحقق للشماليين الانفصاليين الكيزان ما تمنوه وهو سهولة الانفراد بحكم الشمال بقبضة مركزية من حديد!
اندلعت الحروب بشراسة في الجنوب الجديد : جنوب كردفان وجنوب النيل الازرق فضلا عن دارفور التي اشتعلت منذ ٢٠٠٣
اما الحرب المشتعلة حاليا فهي حرب التدمير الذاتي للسلطة المركزية "الامنوعسكركيزانية"!
قوات الدعم السريع التي كان هدف نظام الكيزان من انشائها هو حماية السلطة المركزية في الخرطوم من تمردات الجنوب الجديد تمردت على هذا الدور وشبت عن الطوق تماما! ووجهت للسلطة المركزية اقوى ضربة في تاريخها! ضربة في القلب مباشرة! في القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش ومنظومة الصناعات الدفاعية!
قبل ان يهجم اصحاب العاهات الفكرية على حديثي هذا باعتباره تماهيا مع سردية الدعم السريع حول دولة ١٩٥٦ ، لا بد ان اكرر ما كتبته منذ بداية الحرب وهو ان اي نتيجة ايجابية لو تحققت في ظل هذه الحرب ، ستكون من تداعياتها وليس من مقاصد اي طرف من طرفيها ، لان الطرفين هدفهما السلطة العسكرية القابضة ( اسوأ منتج لدولة ١٩٥٦) ، فانا منذ بداية الحرب لم اشتري سردية حرب الكرامة لمعسكر الكيزان وجيشهم ولا سردية حرب دولة ١٩٥٦ والحكم المدني الديمقراطي لقوات الدعم السريع
هذه الحرب من وجهة نظري يمكن فهمها كمرض مناعي اصاب دولة ١٩٨٩ م وليس دولة ١٩٥٦! ، كما يتعرض جسم الانسان لاختلالات في جهاز المناعة تجعله يهاجم الاجهزة الحيوية في الجسم ويتلفها جزئيا او كليا الى ان يموت المريض لو لم يجد العلاج الناجع في الوقت المناسب، هذا بالضبط ما حدث لنظام الحكم المركزي القابض في نسخته الكيزانية التي قوامها ولحمتها وسداها المؤسسة الامنية العسكرية! فقد اصابه مرض مناعي! اذ ان الدعم السريع بدلا من حماية الامبراطورية الكيزانية ممثلة في دولة ١٩٨٩ انقض عليها بشراسة وهاجم مراكزها العصبية! وجزء من الاجهزة الامنية والعسكرية الكيزانية انضم للدعم السريع وعاونه في مهاجمة الاجزاء الاخرى من امبراطورية الشر هذه!
انها اكبر عملية تحلل ذاتي لنظام عسكري في تاريخ السودان!
اكبر جريمة تضليل وغش واحتيال هي الزعم بان هناك معركة وطنية يدافع احد طرفيها عن الدولة وكيانها المؤسسي، لان الدولة الوطنية التي ورثناها عن الاستعمار صبيحة الاول من يناير ١٩٥٦ بخيرها وشرها لا وجود لها الان! حتى حدودها السياسية تغيرت بانفصال الجنوب! اذ تم الانقضاض عليها بواسطة دولة الكيزان ، اي دولة ٣٠ يونيو ١٩٨٩ م التي اصابها المرض المناعي العضال المذكور اعلاه! وهي ليست دولة وطنية على الاطلاق بل هي تقويض كامل شامل لمعنى الوطن والوطنية! وغير قابلة للدفاع عن نفسها لانها في حالة تحلل وتدمير ذاتي! ففي ذات الوقت الذي يطالب فيه الكيزان ومثقفوهم النافعون بالاصطفاف خلف الجيش لانه يمثل كيان الدولة بل هو الدولة شخصيا ، نجد ابواق الدعاية الحربية الكيزانية تردد ان الجيش به خونة وطوابير يبيعون المعارك وينسحبون لصالح الدعم السريع ، واثناء الاستنفار لمساندة الجيش نجد هذه الابواق تشتم قائد الجيش بالفاظ بذيئة وتتهمه بالخيانة ، والعاهات الاسفيرية الامنجية التي تسخر من قائد الجيش وتمسح به البلاط تتم استضافتها فيما يسمى بالتلفزيون القومي ويتم تكريمها من ذات الجيش!
اي جنون هذا! واي معركة كرامة هذه! واي جيش هذا الذي يكرم من يشتمون ويخونون قائده! ويأتي من يطالبنا بالاصطفاف خلف ذات الجيش غير المصطف خلف قائده!
ورغم دراماتيكية كل ما يحدث ما زال ال البوربون يقرؤون من ذات الكتاب وذات الصفحة!
يلتمسون الحل في تقسيم جديد للبلاد يفصل دارفور ومعها كردفان ان لزم الامر للانفراد بسلطة مركزية عسكرية قابضة فيما يسمى بدولة البحر والنهر!
ودا " شعرا ما عندهم ليهو رقبة" حسب معطيات الميدان العسكري!
سينتهي بهم الامر الى جمهورية الاحجار الكريمة!
وحتى هذه في حيص بيص! لان الدعم السريع هاجم حجر العسل مرارا !!
الدرس المستفاد من تجربتنا الوطنية القاسية هو ان الحل الانفصالي ليس حلا لمشكلة المركز ( والان لا يوجد مركز ، فالخرطوم سقطت، ولكن لا بأس من تخيل وجود مركز وهمي في بورتسودان )، وكذلك الانفصال ليس حلا للاقاليم التي تنفصل، لان قادة الانفصال من لوردات الحرب ببساطة يمكن ان يعيدوا انتاج سلطة المركز في اقاليمهم فلا يحققون لها عدلا ولا حرية ولا تنمية.
المنقذ الحقيقي للشعب السوداني في كل اقاليم السودان هو الحكم الراشد الذي يقود لمعالجة الازمات والعيوب الهيكلية في الدولة السودانية، فيحقق التوازن التنموي والعدالة الاجتماعية وحسن ادارة التنوع الاثني والثقافي انطلاقا من فكرة المساواة في حقوق المواطنة.
واهم ما يجب على الجميع ادراكه بعد هذه الحرب هو استحالة اعادة عقارب الساعة الى الوراء، لا الى دولة ١٩٥٦ ولا الى دولة ١٩٨٩ ، بل يجب تجاوزهما الى الامام ، بمعنى تجاوزهما نحو الدولة المدنية الديمقراطية التنموية.

 

 

آراء