حكوماتنا الالكترونية الرشيدة! …… بقلم: د. عثمان أبوزيد
16 June, 2010
دعانا منذ سنوات صديقنا الدكتور أحمد عبد القادر صالح إلى حضور ندوة تقام في الخرطوم عن «الحكومة الإلكترونية» ، وأذكر أنني عند الوصول إلى مكان الندوة داعبته قائلاً : عسى أن نستغني بحكومتك الإلكترونية عند اكتمالها عن أي حكومات أخرى!
الحمد لله أننا منذ بدء تطبيق الحكومات الإلكترونيات في بلادنا العربية أصبحنا نستغني عن الحكومات شيئاً فشيئاً ، وها نحن ننعم بالكثير من الراحة وننجز معاملاتنا دون أن نسمع الكلمة السحرية (تعال بكرة) ، وأجمل شيء أنك لا تقف في صف ولا تقابل (الحكومة) ذلك الأفندي المتجهم الذي يساوره الشك في كل كلمة تنطق بها أو أية ورقة تقدمها.
شيء جميل هذا الانتقال من الروتين والبيروقراطية إلى أسلوب العصر الحديث الذي يلبي الحاجات المتزايدة مع خفض الهدر في الوقت والجهد والمال مع كفاءة العمل وتحسين الإنتاجية. يتمكن المواطن من إنجاز المعاملات من المنزل ، وتتوفر له المعلومات المطلوبة ، وبالإمكان أن يوصل رأيه ومقترحاته ومتطلباته بطريقة عملية.
ندفع فاتورة الكهرباء والتلفون بمجرد مكالمة هاتفية من البيت أو بضغطة على أيقونة في موقع الكتروني ، ولا نحتاج لحمل النقود لأننا ندفع ببطاقة ، ونقوم بحجز الطائرة ، ونتابع معدلات النجاح أو الخيبة لأولادنا في المدارس. وأكثر ما يدهش أن الخدمات متاحة أربعاً وعشرين ساعة. أما وجود مكتبات مفتوحة فهذا أمر مذهل ، تدخل إليها وقتما تريد ، تقرأ الكتب وتتصفح المجلات. أخاطب طلابي دائماً وأنا أحثهم على الاستفادة من هذه النعمة أن الفرق بين الطالب الذي يعرف الكمبيوتر ويستخدمه في دراسته وبين الذي لا يعرف ، كالفرق بين دولة تمتلك الطاقة النووية وأخرى تفتقدها!
يحصل الآن حقيقة ما عناه مجازاً شاعرٌ قديم : ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد.
من غريب ما حصل لي أن جاراً لي تعرّض لحادث مروري فلزم هو وأفراد عائلته جميعاً سرير المستشفى ، وكان ابنه الذي يدرس في أقاصي الدنيا يلحّ عليّ لمعرفة ما جرى لأسرته التي انقطع الاتصال معها ، وأنا أطمئنه أن الأهل بخير. ولما عجز الشاب عن معرفة مصيرهم لجأ إلى اللابتوب وإلى محرك البحث «قوقل» ليوافيني سريعاً بأخبار أسرته مع التفاصيل.
ولكن يا للأسف تيسيرات الحكومة الالكترونية موجودة حتى الآن عند القطاع الخاص فقط ، الذي وجد أن استمراره رهين بتحسين قدراته التنافسية ، وأن يتكامل و يترابط أجزاء التنظيم الإداري لديه ، وإلا فإنه يواجه مصيره المحتوم. وفي بعض البلاد صارت الحكومة الالكترونية مسألة مصيرية فعلاً ، فالاتحاد الأوروبي ألزم الدول الأعضاء فيه بقائمة من الخدمات الحكومية التي يجب توفيرها الكترونياً خلال جدول زمني محدد باعتبارها خدمات عامة أساسية للمواطنين و قطاعات الأعمال المختلفة العامة والخاصة. ومن يريد الشراكة مع أي منطقة (ذكية) في هذا العالم لا بد أن يتوافر على متطلبات الحكومة الالكترونية.
مع ذلك نجد سائر القطاع الحكومي في غالب بلادنا سادراً في روتينه القديم ، ومن يسعى إلى تطبيق الحكومة الالكترونية ينقل إليها أمراض الحكومة (غير الالكترونية) ، فكأننا لم نفعل شيئاً غير أن نحاكي البيروقراطية التقليدية فأنتجنا بيروقراطية الكترونية رقمية مطوّرة.
ذهبت إلى دائرة حكومية «الكترونية» ووقفت في الصف أحمل رزمة من الأوراق المصوّرة ، كانت الفوضى ضاربة الأطناب أمام النافذة ، والجدل مستعراً بين الموظف الهمام وبين مراجعيه ؛ يشتكي أحدهم من أنهم نقصوا عمر زوجته عشرين سنة ... طيب حلو! والآخر يقول إنهم كتبوا اسمه (عبد الله) بالتاء المربوطة ، وهذا كفر والعياذ بالله ، وهذا أخونا من الهند وضعوا الاسم (ميرال ) في مكان العنوان (نيكال) ويسأل الموظف ما الفرق؟ المشكلة أن النظام لا يستجيب إلا إذا عدلت البيانات لتصير متسقة في جميع الوثائق. هذا منطق النظام الذكي ، ولكن صاحبنا الأفندي له منطق آخر!
والمشكلة الأخرى أننا حاولنا باستخدام الكمبيوتر أن ننزل جميع الأعباء عن ظهورنا ونحملها على ظهر الكمبيوتر. ولما كانت ثقافتنا في العمل ثقافة ورقية ، زدنا عدد الأوراق ، فبدلاً من تصميم الإجراءات بحذف الأجزاء التي لا تناسب الأسلوب الجديد ، أضفنا إجراءات جديدة وتعقيدات جديدة، ذلك أن عامل الثقة مفقودة بين المواطن وموظف الحكومة ، وما لم تترسخ الثقة في ذهنية الجميع يظل كل طرف ينظر إلى الآخر بعين الريبة والحذر ، ولا بد في كل الأحوال أن تعوض أية ثغرة محتملة في النظام بورقة جديدة ، وقد يضطر المواطن أن يمثل بنفسه أمام الموظف ليراه بشحمه ولحمه ، وإذا لم تسعف أوراقه أخرجوا له المصحف الشريف ليؤدي القسم.
ولكن كيف تكون الثقة إذا كان بعض الناس يسعى بالحيل وتزييف الأوراق ، وفي هذا لا نظلم الموظف ، بل هي مسؤوليتنا جميعاً عندما لا تحظى أوراقنا بالثقة وإن حملت ألف ختم وتوقيع.
سوف لا يمضي وقت طويل حتى تصبح معاملاتنا الحكومية الكترونية بالكامل ،
وكي يكون التفاعل باتجاهين كما يقولون لا استغناء أبداً عن التوعية بمستلزمات التطوير المستمر لمنظومة الاتصالات الإدارية ضماناً للتحول الكامل من العمل الورقي إلى العمل الإداري الحديث خلال فترة زمنية محددة.
إن ما تحقق من نجاح في القطاع الخاص وفي بعض الدوائر الحكومية المحدودة يمنحنا الأمل أن التغيير ممكن. ولكن ما نراه من فوضى في دوائر حكومية كثيرة يصيبنا باليأس من التغيير الذي لا نراه إلا بعد انقراض جيل كامل من «الأفندية» سدنة العهد البيروقراطي العتيد.
والحق مع من يقول لي بعد هذا: إنك رجل حالم ، أين لك بالحكومة الإلكترونية دون بنية تحتية متكاملة من شبكات اتصالات وقنوات معلومات تتميز بالحداثة و الكفاءة.
زارنا في دنقلا الأستاذ عبد الباسط عبد الماجد وزير التربية والتعليم الأسبق يدعونا إلى الاهتمام بمادة الكمبيوتر التي دخلت في منهج الثانويات على ذلك العهد ، فانبرى له المعلمون قائلين : كيف تطلبون منّا أن ندرس الكمبيوتر ونحن لم نر الكمبيوتر أصلاً وليس بإمكاننا أن نوفره في مدارسنا ، وإذا وفرناه لا توجد الكهرباء التي يشتغل بها...
منطق الوزير كان مفحماً جداً عندما قال : أنتم تدرّسون الفيل في مدارسكم ، ولم تطلبوا يوماً أن نحضر الفيل إلى الفصل.
الظاهر أنه في حالة الحكومة الالكترونية لن يستقيم الأمر إلا إذا أدخلنا الفيل في فصولنا وفي كافة مرافقنا الحكومية.
osman abuzaid [osman.abuzaid@gmail.com]