حلم تبدد بين قرية “أم مغد” والقصر الجمهوري

 


 

 



أحد زملاء الدراسة قديما، ولد ونشأ بحلة "أم مغد" و الحلة تعني القرية الصغيرة جدا، ولعل الكلمة اشتقت من الفعل "حَلَّ بالمكان يَحُلُّ حُلولاً ومَحَلاًّ" ، كما في الاية31 من سورة الرعد "أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ". ولعل تسمية الحلة جاءت للدلالة على الإقامة المؤقتة، باعتبار أن الرعاة في حالة تنقل دائما مع مواشيهم بحثا عن الماء و الكلأ فهم يحلون على المحل ثم سرعان ما يرتحلون، ولعل أهل الاختصاص في اللغة وعلم الانثروبولوجيا يمكن أن يربطون أيضا بين مفردات الحلة والمحل والمحلة انتهاء بمفردة أكثر دلالة على الإقامة الدائمة في الحضر أي الحي.
عندما أنهى دراسته الثانوية، اتجه ككل سكان الأقاليم والأرياف والقرى صوب العاصمة عساه يحقق منشوده ويبني له مستقبل زاهر من خلال الدراسة الجامعية والعمل بالعاصمة باعتبارها مركز التدرج الوظيفي تحت الأضواء وكذلك بوابة السفر والاغتراب لدول الخليج أو الهجرة لأوربا والعالم الغربي.

إتباع خارطة الطريق تلك كانت ولا تزال خط سير لكل أبناء السودان ألا فيما ندر. لذلك أصبحت العاصمة وضواحيها تضم بين جنباتها ما يزيد عن ثلث سكان السودان أجمعين وخاصة من هم دون سن الأربعين.

يبقى انه منذ أن اختار الحكم التركي في عهد الحاكم أحمد خورشيد في 1830م مدينة الخرطوم كعاصمة إدارية ، احتفظت الخرطوم بأهميتها وظلت تتوسع وتنداح في حلقات من الوسط نحو الإطراف. فنشأت بها المرافق الصحية والمستشفيات والدوائر الحكومية من وزارات ومصالح ثم الجامعات بل حتى الثكنات العسكرية المختلفة بقيت داخل وسط الخرطوم أي ليس بعيدا عن القصر الرئاسي أو القصر الجمهوري لحمايته.

أذن أصبح حلم كل مواطن سوداني الاقتراب سكنيا ومهنيا من مركز الحكم وان سنحت الفرصة محاولة الانتماء للمركز و الانضمام بسبب التأهيل أو "االتسلل" عند غياب التأهيل إلى مراكز الحكم وصنع القرار بدوائره المختلفة، رغبة وطمعا في الوصول لأفضل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وهذه غالبا ما تكون بحسب مدى القرب من القمة الحاكمة أي القصر الجمهوري.

هكذا لم يكن لابن قرية "أم مغد" بدّ من أن يسلك خارطة الطريق المعتادة للوصول للنجاح المادي والمعنوي، فوصل إلى مدينة الخرطوم وهو مليء بالدهشة، وأستقبله أقرباءه الذين نزحوا قبله إلى العاصمة، وسرعان ما شرحوا له خطط التأقلم و النجاح في العاصمة ومن ضمنها كيفية الارتقاء في سلم الصعود الاجتماعي، ولكن "صاحبنا" من فرط "تعطشه" للنجاح السريع لم يقبل بفكرة التدرج في السلم وحدد انه يريد القفز بالزانة ولذلك فليس له خيار سوى "المصعد الاجتماعي" للاقتراب بأسرع ما يمكن من هرم السلطة ومركز القرار وهو أمر لا يتم إلى بسبيلين لا ثالث لهما، أما البحث في الجامعة عن فتاة من أحدى الأسر الثرية والارتباط بها أو الانتساب لإحدى أحزاب السلطة المتنفذة!

أرغمته إمكانياته المادية المتواضعة على الخيار الثاني ولكن في "ميكافيلية" وطمع لا ينسيه تنفيذ الخيار الأول من داخل الخيار الثاني أي اصطياد عصفورين بحجر واحد.

انتمى صاحبنا لأحد الأحزاب المتنفذة وتعرف على كبار رجالات الحزب، وتملق ما أستطاع حتى تمت دعوته في بعض المناسبات الاجتماعية لهم، وهناك تقرب زلفى لفتيات المجتمع المخملي وأختار "فريسة" طالبة جامعية غير مجتهدة والدها من القلة المتحكمة في القصر الجمهوري. لكن بقت مشكلة أنه ليس له حسب أو نسب معروف وهو فوق ذلك قروي بسيط، فأضطر إلى إيجاد وسيلة للتناسب الاجتماعي مع أسرة الفتاة ومعارفهم وذلك من خلال صفة أنه كابتن طيار ويعمل خارج السودان، فسافر إلى أحدى دول الخليج بعد أن أتفق مع والد الفتاة بأنه في خلال سنتين أو ثلاث سيرجع من الاغتراب فيخطب تلك الطالبة الكسولة ويتم تصعيده داخل الحزب مع منصب مرموق في السلطة الحاكمة و لربما إيصاله إلى القصر!!!

سافر صاحبنا إلى الدولة الخليجية وقبل أن يقضي بها سنتين ساءت الأوضاع الاقتصادية لكثير من العمالة الأجنبية بسبب خفض مرتباتهم وقصر الوظائف والترقي على المواطنين -أبناء البلد- فقط، وهكذا تمّ رفد صاحبنا من العمل بل إعطائه تأشيرة خروج نهائي وهي تعادل الطرد من البلد، فحزم حقائبه على أمل الرجوع للخرطوم والزواج بخطيبته و"تسلق" مراتب السلطة عساه يصل إلى القصر الجمهوري.

وصل إلى الخرطوم بشهية الانقضاض على شركة الطيران السودانية بكاملها، ولكنه وجد أنه لم يتبق من شركة الخطوط الجوية السودانية سوى طائرة واحدة بعد أن قام رجالات الحزب الحاكم بتفكيكها و بيعها لشركة أجنبية. احتضنته الشلة الحاكمة في شركة قابضة وهمية نهبت ثلاث قروض صينية و تركية و ماليزية لبناء مطار الخرطوم الجديد ولم تنفذ سوى لافتة خشبية باسم المطار!!! وهكذا دخل عالم الفساد ولكن قبل أن يغرق إلى أذنيه، اندلعت الثورة الشعبية وخلعت النظام الحاكم، ومن ضمن الفاسدين رمت بوالد خطيبته في السجن. فأصبح ناقم على حظه العاثر، ناقم على الثورة التي عصفت بوصوليته التي بناها خلال عشرات السنين، بل ناقم على كل السودان. ولم يتبق له ألا الانضمام لعصابة المتآمرين لإجهاض الثورة .

هذه القصة الرمزية أعلاه يجد كل واحد من الفاسدين الذين دمروا السودان خلال الثلاثين عاما الماضية إن بها جزئية تنطبق عليه وتحكي مشوار فساده.

أنشد الشاعر حميد

" اتنقطت سحابة سحابة
وبدا يتلقط طير الجنِّي
نفس الريح الحرق الغابة
قطَّم فرحك ليلة الحِنِّي
.....
"غناك الليهُن
ماشي عليهُن
تتلافاهو الريح
وتفنُّوا
وراء الأحلام
الجفّت ورهفت
رهفت وخفّت
خفّت وطارت
طارت ورفّت
روحك فوق
الغنية إتلفت
بي بشكير الصبرِ إندفت
وإنشتت كواني كواني
قلنا الله بيخون الخائن".


wadrawda@hotmail.fr

 

آراء