حوار طريف مع ملحد سوداني كان كوزا فيما مضى!! … بقلم: د. محمد وقيع الله
د. محمد وقيع الله
29 March, 2009
29 March, 2009
waqialla1234@yahoo.com
دعيت ذات مرة إلى الاشتراك في مناظرة فكرية مع بعض أقطاب الشيوعيين وقادتهم فيما كان يسمى بجامعة القاهرة بالخرطوم، حول أوجه الخلاف بين الإسلام والشيوعية.
ورحبت بالدعوة، وذهبت في الموعد الذي تحدد لإجرائها، ولكنا فوجئنا بأن الشيوعيين تغيبوا، رغم أنهم أعطوا عهدا موثقا (ليس من الله!) بأن يحضروا. ولم يجد من نسقوا معهم منهم أحدا يحوم بأنحاء الجامعة ليستفسره عن سبب الغياب.
وأخيرا عرفنا أنهم قد افتعلوا لهم نشاطا جماعيا، وخرجوا في رحلة إلى الريف القريب، تفاديا لأمر هذه المناظرة التي ارتضوها أولا، ثم فزعوا من مغباتها أخيرا.
من الإسلام إلى الماركسية:
ولكن حضر الندوة منهم نفر شارد، شارك في المناظرة، وقدم نفسه على أنه شيوعي ملحد، يجب الفكر والجدال، وغير منضبط بأوامر التنظيم.
وكانت دهشتي بالغة حين التفت وتبينت أن هذا النفر شخص أعرفه. وكان قد زارني بالبيت مرارا ، واستعار مني كتابا فريدا عزيزا، أتيت به من أمريكا في أوائل الثمانينيات، كان قد ألفه صديقي المفكر البحريني حافظ الشيخ، أخذه هذا الشخص على وعد أن يرجعه بعد قليل، ثم أضاعه كما يُضَيِّعُ العوام الذين يستعيرون الكتب، ما تعيرهم إياه منها وكأنها سقط متاع، أو يتصرفون فيها وكأنها أصبحت ملكا لهم، فيعيرونها لمن يلقونهم في قارعة الطريق، بدون إذن صاحبها، ويعيرها هؤلاء لآخرين، وهكذا دواليك، حتى تتعذر معرفة اتجاهات الكتاب وتقلباته بين أيدي القراء الحقيقيين منهم والمتطفلين.
وهكذا ضاع كتابي النفيس، وعييت عن تتبع مساره، ولم أتمكن من استرجاعه. ولم أحصل على بديل عنه، حتى الآن، لأن الكتاب صودر بعد ذلك كما علمت، وقد صادره نفس الأناس الذين طلبوا من الكاتب أن يكتبه، لأنهم لم يلتفتوا إلى ما فيه من الأفكار والتحليلات والآراء الناقدة للحركة الإسلامية إلا بعد أن نشروه، وتلك قصة أخرى أحرى بها أيضا أن تروى.
يقين في الشك وشك في اليقين:
وكان هذا الشخص الذي أضاع كتابي الإسلامي وجاء يجادلني في الدين، شخصا مزعجا في طباعه وصفات تعامله مع الناس، يجادل، ويعاظل، ويتمخرق، ويتحذلق، ويظهر نفسه بمظهر المثقف الضليع، وماهو بضليع وإنما ظليع. ويبدو أنه كان مضطرب الإيمان بالدين الإسلامي، حتى عندما كان (كوزا)، أو هكذا كان يدعي.
ولم أكن على دراية بما جرى له من تطورات (أو تدهورات) فكرية طوحت به، وجرفته بعيدا عن الإسلام، ودفعت به إلى المجاري الماركسية. وفوجئت كثيرا بتبجحه بالكفر الذي بدا أنه غير مضطرب في الإيمان به، كما كان مضطربا في إيمانه بالإسلام. وظل طوال المناظرة يحتج بأقوال أئمة الكفر الأوربيين الذين قام عليهم بناء المذهب الفكري الماركسي الإلحادي.
وكل ما سنحت له فرصة حلوة، شن علي هجوما شخصيا كاسحا، اتهمني فيه بالجهالة، والضلالة، والضآلة، والتعصب الديني.
وحلا له في آخر المناظرة أن يسخر مني، على نحو فني، لأنه طالب فنون، فوضع حالتي في موازاة حالة فكرية إسلامية عالية، قال إنه يعرفها ويقدرها جيدا، وهي حالة الأخ أستاذنا أمين حسن عمر.
وقال لي انظر كم أنت جامد ضيق الأفق، حينما لا تجد إلا أن تذم الكفر، وتشن عليه النكير. ولكن انظر إلى هذا المفكر الأديب السامي أمين كيف يمتدح الكفر، ويهلل له، فهو صاحب مذهب ذوقي تصوفي تشوُّفي، وأما أنت فإنك لا تملك من هذا الغنى الفكري المذهبي شروي نقير.
ليس المشكل النصيحة:
وانطلق ينشد أبياتا لأمين حسن عمر، كانت قد نشرتها قبل وقت قريب من ذلك الزمان، صحيفة (ألوان). وعلق عليها قائلا: أنظر إلى هذا الشاعر الشفاف إنه كما يقول في هذه القصيدة يستضيئ بشموس الكفر، فالكفر بالله فيه حِكَمٌ كبيرة، أقر بها صاحبكم هذا، لأنه رجل مفكر بحق، استطاع أن يصل إلى معنى عميق جدا، لا تستطيع أنت أن تصل إليه، ولا إلى قريب منه.
وتذكرت قصة تلك الأبيات، التي أعجبت صاحبنا، واستَعَدْتُ ما جرى في شأنها من ملابسات، غريبات، كنت طرفا فيها..
رآني أمين ذات مرة خارجا من مبنى صحيفة (الراية) فسألني: إلى أين الوجهة يا أخا الإسلام؟
فقلت له: إني منطلق إلى دار صحيفة (ألوان) فإن لي فيها بعض الشأن.
قال: هذا أمر حسن، وهل يمكن أن تتكرم فتحمل معك هذه الأوراق، وتسلمها إليهم، فإن فيها بعض قصائدي، التي أرجو أن ينشروها في صفحة الأدب.
قلت: أو ما تدري أن هؤلاء القوم، لا يحسنون صف الحروف، ولا يعتنون كما يجب بتصحيح تجارب الطبع. وإن هذا الشعر لا يحتمل الأغاليط الطباعية، التي يتساهلون فيها، والتي تشوه صفحة النثر، فما بالك بديباجة الشعر.
قال: إن من يتولون صف الحروف هناك، يعرفون خطي جيدا، وبالتالي فلا خشية من وقوع الأخطاء، ولا حاجة إلى كثير من التصحيح.
حملت أوراقه معي، فذلك لا يكلف شيئا، ولم أشأ أن أغالطه في مزاعمه، ولا أن أبدد أمانيه الباطلة تلك.
وأديت قصائده إلى محرري (ألوان) غير مبال بما ستواجهه من تلقائهم من عدوان، بعد أن رفض صاحبها نصحي، ولجَّ في الرفض. فمن قديم قال الإمام الغزالي: ليس المشكل النصيحة، وإنما المشكل قبولها. وقال جعفر محمد علي بخيت: والأشكل من ذلك العمل بها وتنفيذ مقتضاها!!
شموس الكفر:
وبعد أيام قليلة رآني أمين منهمكا في بعض عملي بدار(الراية) فاقترب مني وهو يزمجر ويدوي بالسخط والشجب والاستنكار لما تعرض له شعره من تشويه في (ألوان)، ويقول كيف يجرؤون على فعل هذا؟ كيف يفعلون هذا بشعري؟ إن هذه ليست مجرد أخطاء طباعية وحسب، إن فيها جرما جسيما نسبوه إلي. إنهم قد جعلوني أمجد الكفر الصراح.
قلت له: هذا خطب جسيم، وماذا قالوا؟ هذا أمر نكر.
قال: انظر إليهم، فقد استبدلوا بكلمة (الفكر) كلمة (الكفر) في هذا البيت، فغدوت بهذا وكأني أمجد الكفر، وأقول:
إليك أجيئ
يا زيتونة العرفان
يا مستودع الحسن
ويا فجرا
شموش (الكفر) منه تضيئ!
وكانت هذه الأبيات المغلوطة طباعيا، هي عينها التي أعجبت صاحبنا ذاك المغلوط عقليا ووجدانيا، ولله تعالى في خلقه شؤون.
بيوت الشعر وبيوت العنكبوت:
وهكذا تعلق هذا الكويفر، وهكذا يتعلق كبار الكفار، بأوهى البيوت: بيوت الشعر، وبيوت العنكبوت.
قال الله تعالى:" مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ". سورة العنكبوت.