حول آن اوان التغيير، لكاتبها المفكر الراحل الخاتم عدلان،
صديق عبد الهادي
19 July, 2016
19 July, 2016
Siddiq01@sudaneseeconomist.com
(3)
إن الاسباب التي ذكرها الخاتم كمسوغٍ لفشل الحزب في ان يصبح قوة إجتماعية كبرى يمكن تلخيصها في القمع المستمر الذي طال الحزب، وجود قطاع تقليدي كبير بعيداً عن نفوذه، واخيراً شمولية الموقف الفلسفي والبرنامج السياسي اللذين إتبعهما الحزب.
فلو أردنا الوقوف عند الاسباب التي عددها الخاتم فإننا نتفق معه حول ان القمع المتواصل، بالفعل، كان سبباً في الحد من تطور الحزب وإنتشاره، وهذا هو النصف الاول من الحقيقة، فيما كان يترتب علي القمع، اما نصفها الآخر منها فهو أن الحزب كان يخرج منهكاً دائماً بعد كل ديكتاتورية، إلا أنه وفي الوقت نفسه يكون أكثر إصراراً وهو مملؤ ٌ بروح التحدي والتفاؤل، بل واكثر إقبالاً علي الحياة، وقد يُذكر أن حوالي 70% تقريباً من عضوية الحزب كانت ان طرقت ابوابه بعد أنتفاضة مارس/أبريل 1985م. وهذه ظاهرة في حد ذاتها ليست جديدة في تاريخه، تكاد ان تكون حدثت بعد ثورة اكتوبر 1964م. فتلك كلها شواهد تجعل باب الامل، علي الدوام، مفتوحاً أمام الحزب.
اشار الخاتم إلي عامل القطاع التقليدي علي أنه، "يضم الأغلبية الساحقة للسكان، ويمثل قوة جذبٍ هائلة إلي الوراء"، وكذلك يمثل واقعاً فيه "يكون من العسير بناء تنظيمٍ وطني حديث يتخطى الانتماءات القبلية والطائفية والعرقية ، والنـزعات الإقليمية"(اوان التغيير ص 32).
هذه الإشارة صحيحة إلا أنه لا يمكن قبولها علي إطلاقها، وفي ذلك لا نحاكم الخاتم فيما ذهب اليه في شأن القطاع التقليدي، بالوقائع المحققة اليوم والمتمثلة في ان القطاع التقليدي اصبح اليوم في حالة حراك غنية وهائلة لا سابق لها، جعلته، اي القطاع التقليدي، يفك إساره، ويكف عن حالة وجوده خارج دائرة الصراع في السودان، و إنما نحاكم الخاتم في إشارته تلك، بوقائع تاريخية وصلت حد إختراق القطاع التقليدي. وتلك الوقائع تتمثل في قيام تلك التنظيمات من الاتحادات، والروابط الإقليمية، مثل إتحاد ابناء جبال النوبة، نهضة دارفور، إتحاد ابناء البجا و غيرها. وهي تنظيمات كانت تضم طلائع ونشطاء القطاع التقليدي منذ ما قبل الإستقلال. لا احد ينكر ان الحزب الشيوعي لعب دوراً في دعم وتشجيع تلك الاتحادات التاريخية. وقد كانت تلك التنظيمات بحق هي الحضن الذي شبّ وقوي فيه عود عددٍ غير قليل ممّنْ إرتبطوا، و يرتبطون الآن بالحراك الذي ينتظم مناطق القطاع التقليدي اليوم، او ما يسمى بالهامش.
كل ذلك لا ينفي، بالطبع، تفوق نفوذ الحزب في القطاع الحديث عليه في القطاع التقليدي، ولكننا نجد، ايضاً، أن إنحسار توجه الحزب إلي القطاع التقليدي كان مرتبطاً بغياب الديمقراطية ومصادرتها علي مستوى الوطن، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر، مرتبطاً بحقيقة "شمولية الانتماء الفلسفي"، و"شمولية الموقف والبرنامج السياسي"، وهو أمرٌ ارى أن التوفيق قد حالف الخاتم في تناوله له، خاصةً عندما قام بتشريح دقيق لموضوع "الجبهة الوطنية الديمقراطية"، ومسألة "المركزية الديمقراطية"، وكذلك معضلة "الحزب والمثقفين". وفي معالجته لهذه القضايا الثلاث جاء نقد الخاتم الاساس للنظرية الماركسية، وذلك، بالقطع، بالإستناد علي تقييمه لتجربة الحزب الشيوعي السوداني.
تقدم الخاتم بنقدٍ لمفهوم "الجبهة الوطنية الديمقراطية" من حيث القوى الاجتماعية المكونة لها، وتنظيماتها ودور الحزب الشيوعي الاساس فيها، إذ انه يمثل القلب منها بفضل المكانة والدور الذى كان من المفترض أن تلعبه الطبقة العاملة السودانية في ذلك التحالف الجبهوي. والحزب الشيوعي ما تبوء تلك المكانة إلا بإعتبار أنه حزب الطبقة العاملة، بحكم ما هو ايديولوجي!.
إنصبّ نقد الخاتم علي إصرار الحزب وإستماتته في عدم قيام قيادة مركزية للقوى المكونة للجبهة الوطنية الديمقراطية، لأن الحزب كان يقوم بدور القيادة بالوكالة لتنظيمات الجبهة الوطنية الديمقراطية، ولقد وصل في تحليله إلي القول، "وكنتيجة مباشرة لمقولة (لا قيادة مركزية للجبهة الوطنية الديمقراطية)" تشرزمت بصورة مؤلمة قوي الجبهة الديمقراطية. فنشأت الروابط الإشتراكية وسط المهنيين بمختلف تخصصاتهم كمنظمات قطاعية محدودة الوجود، محددة الصلاحيات، تعالج في نشاطها النقابي اساساً قضايا محددة تقتصر في الغالب الاعم علي جماهير قطاعها. وقد كانت هذه محنة قاسية للمثقف الديمقراطي الذي يملك بحكم وعيه وعلمه وخبرته ونضاله، رؤية وطنية شاملة، ويبحث عن حيز وطني لفكره وفعاليته، والذي تعوَّد من خلال حياته الطلابية أن يلعب دوراً مؤثراً ومدوياً في القضايا الوطنية، سواءً من خلال الجبهة الديمقراطية، او من خلال المؤسسات الطلابية المختلفة والإتحادات. وبدلاً من ان يجد نفسه في تنظيم فاعل علي النطاق الوطني عند تخرجه واثناء حياته العملية، فإنه يجد نفسه محشوراً في "غيتو سياسي" لا يخرج منه إلا في المناسبات الوطنية الكبيرة، إن لم نقل إلا في الثورات والإنتفاضات"(اوان التغيير ص 68-69).
لم يتعرض النقد المتماسك الذي قدمه الخاتم لمسألة "الجبهة الوطنية الديمقراطية"، لأي نقد او تصدي مضاد يُذكر، إذا ما إستثنينا الجزئية الخاصة بـ "ديمقراطية الفراكشنات"، و التي تقدم فيها د. صدقي كبلو بنقدٍ لِما ذهب اليه الخاتم في هذا الشأن، ضمّنه في كتابه "موسم الهجرة الي اليمين".
من الناحية النظرية كان من المفترض أن يُقيم نقد الخاتم لمسألة "الجبهة الوطنية الديمقراطية" الدنيا ولا يُقْعِدها، لأن مسالة "الجبهة الوطنية الديمقراطية" تمثل ركيزة اساسية من الركائز النظرية للحزب الشيوعي السوداني، وركيزة اساسية من ركائز برنامجه للتغيير الاجتماعي. فهي تمثل "الإبن الشرعي" لتطور أفكاره، وتمثل كذلك إضافته ووثبته الجبارة علي مستوى التنظير. والتي كان الحزب يتباهى بها في وجه الاحزاب الوطنية الاخرى. لكن وبرغمه لم يثر ذلك النقد الموجّه اليها حفيظة المجابهة الفكرية للخاتم من قبل الشيوعيين، لان اكثريتهم كانوا مشغولين، حينها، بتطبيق اللائحة، ورصد خروقاتها اكثر منه انشغالهم بمحتوي الإختلاف وجوهره الفكري!.