بسم الله الرحمن الرحيم
نوافذ واطلالات
علي الكنزي
alkanzali@gmail.com
(؟)
حيرة
جاءتني رسالة من قارئ أو قارئهـ ضعها حيثما تحب وترضىى ـ جعلتني في حيرة من أمري،أهي اطراء، أم هي نقد، أم حسد؟ متن الرسالة يقول: “ أن الأستاذ عاصم البلال مروج للكنزي، فالرجل لا يفتأ يذكره حتى يحسب القارئ أن للكنزي شأن وشأو؟”.
تلك أذن حجة ضيزى، فهل يرى الأخ من أخيه إلا ما يحب ويرضى؟ لا عتاب على أبي فارس فقد رأى مني إشراقة ذهبت كومضة برق، ظنها لفرط وفائه أنها شمس لا تغيب في سماء الكنزي، لهذا صدق أمام المتقين حين قال: “ الحمدلله الذي نشر محاسني على قلتها، وستر عيوبي على كثرتها”. هذا حال إمام المتقين، فما بالك بحالنا؟ فلو انشغل المرء منا بعيوبه ونواقصه لما تجرأ للخروج إلى الناس منا أحد، حتى في جنح من الليل مظلماً، دعك أن يخرج في وضح النهار طلباً للعيش والمعاش.
تذكرتُ تلك الرسالة وأنا اقرأ مقدمة مقال للأستاذ عاصم البلال أراد أن يجعلها متنفساً عن ما في نفسه من غضب للظلم والتعدي على حرمات المال العام والفساد الذي استشرى بيننا حتى أصبح سمة وواقعاً لا نرى فيه عوجاً ولا أمتا. فهو طريق صار مقبولاً لدى الناس يسلكه كل طامع للثراء السريع. ومن منا لا يطمعُ لثراء سريع؟
لهذا جعل الأستاذ عاصم من حديثي مِعْبَراً في أحدى مقالاته وهو يقول: “ بزهو يحدثني صديقي الكنزي أن سلطة المواطن السويسري أعلى من البرلمان والحكومة. فلو أقرت الحكومة أمراً لا يصبح مقضياً إذا ما أعترض عليه مواطن من عامة الشعب، فسلطة الشعب هي الأعلى. لهذا يحق للمعترض أن يحشد لرأيه التوقيعات المطلوبة دستورياً ويعرض الأمر على الاستفتاء ـ الديمقراطية المباشرة ـ ليقرر الشعب أي الفريقين أهدى سبيلاً”.
وقع حديثي مع الأستاذ عاصم في شهر حَفُلتْ به الأحداث في سويسرا (نوفمبر ٢٠١٣)، مما قادني لطرح سؤال بديهي: “ هل نحنُ نتقاسم مع هؤلاء الناس كوكب أرضي واحد؟ ونعيش معهم على ترابه؟!” للإجابة على هذا السؤال علينا أن نستعرض بعض من تلك الوقائع، عل أهل الإنقاذ يتطلعون عليها فيهتدوا ببعضها ويعرضوا عن بعض،بعد أن حسبوا أنهم يحسنون صعناً بتغيير وجه حكومتهم (تبيض البشرة ونيولوك New Look) ظناً منهم أن مطلعها سيسرُ الناظرين، هيهات، هيهات، فذلك رجع بعيد.
إن كان أهل الإنقاذ جادين في طرحهم فعليهم اقتصار الطريق ورد الحقوق إلى أهلها، وحفظ كرامة إنسان السودان، وإشاعة العدل بيننا لنصبح أمة أمام القانون سواء، لأفضل لأحد منا على أحد، فكلنا لأدم وأدم من تراب. ولعل الإنقاذ ترعوي وتهتدي وتستجيب لطموحات إنسان السودان المتواضعة المنحصرة في (الاطعام من الجوع)، وهو العيش الكريم وحق العمل، و (الأمن من الخوف) وهو حفظ النفس وصيانة العرض، وأن تحكم بيننا بالعدل، وليس بالهوى الذي هوى بنا أسفل سافلين.
كنتُ سأكون مزهواً كما قال عني أبو فارس، وأزداد شرفاً وتيهاً،لو أن بعض الذي سأتناوله في مقالي هذا وقع نصفه أو ثلثه أو أدنى من ذلك ولا أكثر في بلادي.
حالات أربعة، وقعن ثلاث منهن في شهر نوفمبر٢٠١٣. الأولى تؤكد أن الشعب السويسري هو حقاً سيد قراره، حيث تتجلى إرادته وحرصه في أثبات سلطته، ووعيه وسعيه لحماية الحدائق والميادين العامة. والثانية حماية الأنفس والأرواح. أما الثالثة فهيعن السكك الحديدية واثرها البيئي وفي التنمية المستدامة. والرابعة عن محنة (المحينة) ومحنة وطن اسمه السودان.
(1)
الشعب السويسري يصوت ضد قرار الحكومة والبرلمان، ومقاطعة جنيف تصوت لحماية الحدائق والميادين العامة
في شهر نوفمبر المنصرم وقعت عدة استفتاءآت شعبية على المستوى القومي والولائي بسويسرا. فعلى المستوى القومي جرى التصويت على ثلاث أمور أتت بمبادرات شعبية كما قلنا. فأهل اليسار أرادوا أن يكون هناك حدٌ أدنى للإجور قُدِرَ باربعة الف فرنك سويسري في الشهر، اي ما يعادل اربعة ألف وخمسائة دولار، وحدٌأعلى للإجور، ومنح المرأة المتفرقة لأسرتها إعانة شهرية ثابتة تعوضها عن فقدان عملها.كما جرى التصويت على الرسوم السنوية لاستخدام السيارات للطرق السريعة.
أرادت الحكومة زيادة الرسومبما يعادل مائه وعشرة دولار، بدلاً من خمسين دولار، فأعترض عليها بعض أفراد الشعب بمؤازرة نادي السيارات، وجمعوا التوقيعات اللازمة التي تؤازر اعتراضهم. تم التصويت على المقترحات الثلاث من قبل الشعب، فسقط اقتراح الحد الأدنى والأعلى للإجور،كما سقط منح المرأة المتفرقة لأسرتها اعانة شهرية، وسقط كذلك قرار الحكومة برفع رسوم استخدام الطرق السريعة.
أما على المستوى الولائي فقد صوتت مقاطعة جنيف على حماية الحدائق والميادين العامة من التعدي الحكومي والإقتطاع من مساحتها ولو لبضع امتار. ففاز الاقتراح بأغلبية ساحقة مع الزام الحكومة برفع مستوى الرعاية والعنايةبتلك الحدائق والميادين العامة. جاء هذا الإقتراح بعد أن وافقت حكومة جنيف مدعومة من الحكومة الفدرالية لمنظمة التجارة العالمية WTO باقتطاع بضع مئات الأمتار من الحديقة العامة الواقعة على ضفاف بحيرة الليمان لتوسعة مباني المنظمة الدولية WTO. المشهور والمشهود لجنيف أنها مدينة الحدائق والميادين العامةعلى مستوى العالم.
لعل في فعله أهل جنيف حث لوالي ولاية الخرطوم أن يوقف مجذرة التعدي على الميادين والحدائق العامة التي سبلت حقوق أجيال وأجيال قادمات، وليته يقوم بزيارة مدينة جنيف ليرى بأم عينه ويتنزه على بحيرة (الليمان) ذات الشكل الهلالي التي يبلغ محيطها أكثر من (١٦٠ كيلومتر) تتقاسمها سويسرا وفرنسا، يستطيع السائر على ضفافها أن يقطع كل تلك المسافة (١٦٠ كليو متر) راجلاً ومتنزهاً على ضفاف البحيرة دون أن يعترض مساره أي عائق يجبره على السير بعيداً عن ضفافها وشواطئها في كلا الدولتين (سويسرا وفرنسا).
أما ولاية الخرطوم فقد استطاعت أن تنشئ أجمل شوارع الدنيا (شارع النيل) بمسافة تمتد لستة وعشرين كيلو متر من المنشية حتى الحتانة، ولكن بكل اسف كل تلك المساحة الرائعة الواقعة على ضفاف النيل الأزرق ونهر النيل ما هي إلا مستعمرات استثمارية لا يمكن السير فيها لبضع أمتار دع عنك كليومتر واحد.
هلا تكرم والي الخرطوم بوضع قانون ونظام ولائحة تلزم تلك الأندية والمقاهي بنزع الحواجز الحديدية وفتح مسار داخلي على ضاف النيل ولو بعرض ثلاث امتار، لتمارس الناس فيه رياضة المشي والتنزه وعينوهم على النيل ومائه؟ وهلا أوقف مجازر الميادين العامة التي تحولت لعمارات وقطع استثمارية عل اطفالنا وشبابنا ينعمون بمساحات للترويح واللعب والرياضة، دعك عن مساحات يلجأ أليها الناس عند وقوع الكوارث؟
(2)
المدعي العام لحكومة جنيف يعتبر أن "المرافقين في السيارة شركاء في الجريمة"
وقع حادث حركة نهار السبت بمدينة جنيف على شارع (ليون) نتيجة سباق محموم بين سيارتين أدى لاغتيال أب لثلاث اطفال كان يعبر الشارع في تلك اللحظة. قرر المدعي العام لمدينة جنيف إضافة كل من كان بالسيارتين كمتهمين مع السائقينبتهمة القتل غير العمد، مما خلق ردة فعل عند الجمهور ورجال القانون معترفين أن هناك برئاً قتل، لكنهم لم يستطيعوا استيعاب توجيه تهمة القتل غير العمدلركاب السيارتين؟
أجاب المدعي العام بأن الركاب كانوا مهيئين نفسياً للمشاركة في السباق بتواجدهم داخل السيارتين، لهذا فهم شركاء في الجريمة. وقال: "كان على المرافقين أن يتحلوا بالوعي والزام السائق بالتقيد بقوانين المرور، وإلا فعلهيم أن يطلبوا منه التوقف والهبوط، بل كان عليهم إن يسحبوا مفتاح السيارة من سائقها". واشار المدعي العام إلى سابقة قضائية نظرتها المحكمة الفدرالية (المحكمة العليا) في سنة ٢٠٠٠، حكمت فيها على السائق ومرافقه بالسجن والغرامة، لمشاركة المرافق في الجريمة التي كان يعلم باحتمال وقوعها قبل صعوده إلى مقعده. والجريمة هي أن صاحب السيارة كلف غيره بقيادة سيارته وافتعال حادث يؤدي لتلف كامل للسيارة حتى يحصلعلى تعويض من شركة التأمين.
توجيه تهمة القتل غير العمد لمرافقي السائق تعتبر السابقة الأولى من نوعها في سويسرا، وربما في العالم أجمع. علل أحد المحامين والذي يتبنى قضية اسرة قُتِلَ أبنها نتيجة حادث سباق سيارات تعاطفه مع قرار المدعي العام، وعبر عن تفهمه لدوافع المدعي العام الذي يرمي من ورائهتسجيل أعتراض على سلوك بعض السائقين ومن معهم عندما ينطلقوا بمركباتهم في الطرق العامة لتتحول إلى صاروخ قاتل بدلاً من أن تكون أداة نقل وتنقل.
أما عندنا فتزهق الارواح كالسوام بلا حسرة أو عقاب. فليس بمستغرب أن نقرأ في الصحف أن العشرات فارقونا دون ذنب جنوه إلا أنهم كانوا يمارسون حياتهم اليومية، فيجدون أنفسهم تحت أطارات السيارات أو في جوفها، موتاً رخيصاً لا يعبأ به أحد. فلم نسمع يوماً أن شركة ناقلة قد سحبت رخصتها التجارية لعدم مراعاة سائقها لقوانين المرور، أو بأن أحد السائقين مكث في السجن بضع سنين لأنه قاد سيارته باهمال. فكل شئ عندنا قضاء وقدر، وكأن الله أذن لنا أن نقتل الناس في الطرقات؟
لو أجرت حكومة الإنقاذ احصائية لوجدت أن من حصدتهم حوداث المرور خلال الخمس وعشرين عاماً الماضية يفوق عدد الذين فقدناهم في حروبنا الأهلية. لهذا نحتاج لنيفاشا ثالثة تعمل على تخفيض نسبة الموت في الشوارع العامة والطرق السريعة.
(٣)
الحكومة السويسرية تعتمد برنامجاً إضافي للسكة حديد بتكلفة قدرها ٧ مليار دولار والقرار بيد الشعب
في صحف ذاك الشهر، قرأتُ أن الحكومة السويسرية رصدت ما يزيد عن سبعة مليار دولار لمد خطوط سكك حديدية لتصل لبعض القرى التي لا تصل قطارات السكك الحديدية إليها. وفي مدينة لوزان التي اشتهرت بأنها مقر اللجنة الاولمبية الدولية، ومقر المحكمة الرياضية للفيفا، والمعروفة لدى اشقائنا الأحدث سناً منا(الأهلة) بعد تبرئتها لرئيس ناديهم السابق (الأمين البرير) من اللكمة الشهيرة. يقول الخبر أن المدينة التي لم يمض أكثر من عقد على انتهائها من تجديد شامل (لمحطة السكة حديد)، رصدت أكثر من مليار دولار لتحسينها وتجديدها وتوسعتها لتتماشى وتطلعات القرن الواحد وعشرين، خاصة وأن مدينة لوزان تُعدُ ملتقاً وتقاطعاً للخطوط الحديدية في سويسراً.
يبدو أن التنافس على أشده بين المدن السويسرية في السعي لتحسين بيئة محطات القطارات التي تُعَدُ أهم معلماً في كل المدن الأوربية. فقد شارفت أعمال التجديد نهايتها في محطة القطار بجنيف بتكلفة مماثلة للوزان وصلت لأكثر من مليار دولار. لهذا صدق صديقنا العزيز الدكتور حسن عبدالسلام كمبال حين قال لي ذات مرة: " أن سويسرا تخطت مرحلة الرفاهية، وتعمل الآن لتحقيق مزيد من الرفاهية".
أما عندنا نحن فقد أصبحت السكة حديد السودانية أثر تاريخي تحكي به الأجيال السابقة عن أثرها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التي قامت به في أيام خلت،قبل أن تحلُ بها رمال التغيير فاندثرت حتى غابت معالمها الأساسية وتحولت محطة السكة حديد بالخرطوم لموقف حافلات؟! وأصبحت الخرطوم مثالاً يحتذى في السوء والتردي لبقية المدن السودانية التي كانت لها محطات سكك حديدية.
تلك سبة وأنحطاط وردة، فالقطار السوداني لم يكن يحمل في جوفه وظهره الركاب والبضائع فحسب، بل كان يحمل رسالة السلام والتواصل والتمازج والإنصهار بين القبائل والعشائر، ونقل الثقافات المحلية من اقليم لأخر. هذا حديث لا يتسع المقال لتفصيله، ولكنه واقع موجع أحترق أمام أعيننا فلم نطفئ نيرانه.
في مقهاً عام ألتقيت برجل سويسري يدعى (إريك) في السبعينات من عمره اصابه العمى على كبر. عندما علم بأني سوداني فرح فرحاً عظيماً، وابقاني بجواره على فنجان قهوة ليحكي لي عن أشهر رحلاته في طوافه حول العالم في سبعينات القرن الماضي. فروى لي رحلتهمن أسوان إلى وادي حلفا بمركب نيلي، ثم بالقطار من وادي حلفا إلى الخرطوم أمتدت الرحلة لأيام معدودات ليصل مقرن النيلين، ليرى (إريك) بداية النيل اسطورة أم موسى وموسى وفرعون، بعد رحلة ممتعة وشاقة تخللتها عواصف ترابية أجبرت القطار على التوقف لساعات طوال هبط الناس فيها من جوفه وظهره، وتحلقوا زرافات ووحداناً، في مجالس أنس وسمر تحت ضوء القمر وسماء مرصعة بالنجوم. ومن المقرن غادر بالقطار ثانية ذهاباً لبورتسودان، ثم غفل راجعاً به إلى كسلا، ومنها متوجهاً إلى اسمر وأديس. ثم اردف قائلاً: " أنه طاف العالم قاطبة ولكنه لم يجد رأحة نفسية ومالية إلا في السودان"، كادت أن تسيل دموع محدثي (إريك) وهو يواصل روايته. عندما ودعته لم اشاء أن افسد عليه فرحته وذكرياته وأقول له: "أن سكة حديد السودان أصبحت نسياً منسياً، لا أثر لها حتى في متحفنا القومي بمقرن الخرطوم".
(٤)
محنة (المحينة) محنة وطن بأكمله
بدأت مقالي (بحيرة) وها أنا أختمه(بمحنة). ومحنة بلدي أن كل كبير وصغير يُلجأ فيه للمؤسسة الرئاسية (لتوجه). وهذا لعمرك تخلف مذري وردة أكثر من تلك التيلحقتبمحطة السكة حديد وحولتها لموقف حافلات. فنحن منذ عقود مضت كنا دولة لها باع في المؤسسية والاحتكام للقانون والنظم واللوائح، وأن رأس الدولة فينا لا ينشغل إلا بالقضايا العامة الكبرى. أما في العهد الإنقاذي فقد تسربت إلينا ثقافة مستوردة وهي أن بيد الحاكم كل شيء (طويل العمر وولي نعمتنا) وإمحت الكرامة والمؤسسية من ذاكرتنا وتجردنا من أرثنا، وأصبح الأمر كله، كبيره وصغيره، أبيضه وأسوده، مُلك عضود يقع تحت إختصاص المؤسسة الرئاسية وما يتبعها.
يظهر ذلك الضعف والتخلف والتبعية (لطويل العمر) جلياً ومتبرجاً دون حياء في النداء الذي سطره قلم من يحمل درجة الدكتوراه من بلاد الغرب وهو رئيس مجلس إدارة صحيفة سودانية شهيرة، مستنجداً في عموده اليومي بالنائب الأول الأستاذ على عثمان عندما كان صاحب سلطان وسطوة وجاه، مستعطفاً إياه في محنة (المحينة) لاعب كرة القدم الشهير الذي مثل السودان في أكثر من محفل دولي، دع عنك عطائه لفريق الموردة الذي كان يهزم الهلال والمريخ (رايح جاي). ولا أدري ما فعل النائب الأول حينها بندائه ورجائه هل استجاب طويل العمر (ووجه)، أم أعرض واصفح؟
لم تمض أيام قلائل حتى أطل علينا نداء آخر من رئيس تحرير صحيفة أخرى ربما تكونأوسع إنتشاراً من سابقتها، ولكن النداء هذه المرة وجه لرئيس الجمهورية مباشرة، مستنجداً به للتكفل بعلاج عازف كمان شهير الم به المرض وقصرت يده عن طلب الشفاء. لم تمض أيام أخر حتى طالعتنا الصحف بنداء ثالث بحق رياضي شهير في مجال السباحة ومرشح سابق لرئاسة الجمهورية،أحتاج لإجراء عملية عاجلة بعد مشاركته في تظاهرة رياضية على مياه النيل الأزرق طلبت منه المستشفى سداد مبلغ لا يتعد الألفي دولار حتى تتمكن من إجراء عملية جراحية عاجلة له؟
لا نشكُ في الدوافع الإنسانية والتضامنية لهذه النداءآت،إلا أن هذا النوع من الطرح يُعدُ مؤشراً سالباً من ظواهر التخلف والانحطاط، يقف فيه المواطن السوداني رغم أنفه وبقرار من بعض الصحفيين بباب السلطان ليجود عليه من ماله وهو حقيقة هو مال الشعب وليس ما السلطان.
هذا طرح فيه تشهير وإهانة لكرامة إنسان السودان، خاصة لاؤلئك الذين وهبوا أنضر سنوات عمرهم للعطاء العام. فمثل هؤلاء لا يجوز لنا أن نتسوق بهم في بلاط الملك وأعتاب السلطان، فهم أصحاب حق علينا ومن واجب الدولة رعايتهم في سرية وتكتم، بعيداً عن أعمدة روؤساء تحرير الصحف.
ما كان لمثل هذه المناشدات أن تتم لو كنا في بلد تحكمه المؤسسية، لأن على مؤسسة الرئاسية الإنشغالبما هو أدهى وأمر.
تحضرني قصة عايشتها في نهاية سنة ٢٠١١، وبداية ٢٠١٢، حين قدم إلى جنيف أخ وصديق عزيز وسفير بوزارة الخارجية برفقة أحد أقربائه لا يتعدى عمره الخمسة عشر عاماً، وبرفقتهما الأموالأخ الأكبر. جاءوا طلباً لإجراء عملية تصحيحة في القدم اليمنى والساق لابنهم (العباس) بعد أن فعل بها جراح عظام في السودان فعلاً كان سيؤدي لبترها. رافقتهم لمقابلة الطبيب الجراح بالمستشفى الجامعي قسم الأطفال، فاعتذرت سكرتيرته حتى عن مقابلتنا لها دعك عن الطبيب الجراح، لأن المواعيد المتفق عليها كما أوضحت لنا عبر هاتف الأستقبال أنها في فبراير ٢٠١٢ وليس نوفمبر ٢٠١١. تحت الحاحي عبر الهاتف ضربت لنا موعداً مع الطبيب في يوم لاحق للتحدث إليه وليس لتشخيص المريض. عند لقائنا بالطبيب الجراح أعاد علينا ما قالته سكرتيرته، وأعتذر لسوء الفهم الذي وقع،وأوضح أن العملية لا يمكن اجراؤها قبل فبراير ٢٠١٢.
بدون تدبر أو تفكر مني قلت له: " أن هذا المريض ومرافقيه قادمون من مناطق ريفية ملاصقة لحدود دارفور، وأنهم لو بقوا حتى فبراير القادم لن يستطيعوا دفع مصروفات الإعاشة اليومية، دعك عن مصروفات العلاج. وأن الصبي المريض أرسلته عشيرته وليس اسرته طلباً للشفاء، وأن عشيرته تعتبر أنأمر علاجه تحدياً لها علماًبأنه يفوق قدراتها المالية.
فإذا بالطبيب يدهشني ويدهش المريض ومرافقيه عندما أجابنا قائلا: " طالما أن الأمر كذلك فسيجري العملية على أسرع وقت، وبأعلى درجة من الإتقان،ودون مقابل لأتعابه التي قدرت بعشرة ألف دولار". ثم أضاف بانه سيكتب مذكره وسيرفعه الإدارة المستشفى موصياً بإعفاء رسوم العلاج كلها". وقد كان، واستردت العائلة مبلغاً يزيد عن الثلاثين الف دولار (30 ألف) سبق تحويلها للمستشفي الجامعي مقدماً، وبموجب هذا التحويل تم منحهم تأشيرة الدخول للسويسرا.
الطريف في الأمر أن اجراءآت استرداد المبلغ تمت بعد مغادرة المريض معافاً إلى أهله وعشيرته بمدينة الأبيض عاصمة كردفان، وسلم المبلغ المسترد لأحد العاملين بالسفارة السودانية بجنيف حسب توصية الأم وإقرارها الكتابي.
عايشتُ قصة مماثلة لصبي سوداني أصيب في وجهه بتشوه أثر حادث حركة بالخرطوم، وهو ابن لعالم سوداني واستاذ جامعي شهير لم يؤت من المال سعة، إلا ما يقيم الصلب. فأتت به أمه تحمله إلى جنيف في سنة 2007 لإجراء عمليه تجميل في مستشفى خاص. فلما علم جراح التجميل وإدارة المستفشى بوضع أبيه قررا علاجه دون رسوم أكراماً لسيرة أبيه وجهده في نشر العلم في دول العالم الثالث. الأكثر طرافة أن الأم والأبن كانا يقيمان بشقة صغيره تخص رجل تونسي، عندما علمأن إدارة المستشفى والجراح تنازلا عن حقهما أبى هو الأخر قبولأيجار شقته قائلاً:" نحنـ أي المسلمون ـ أولى بالمعروف منهم".
أختم مقالي بطرح سؤالين:
الأول: " منبهاً روؤسا تحرير الصحف، وأولى الأمر منا،أن بسجن الهدى بأمدرمان من بقى فيه لأكثر من خمسة أشهر وكان يمكن له البقاء لفترة أطول، وذلك لعجزه عن سداد مبلغ 295 جنيه، نعم مئتان وخمسة وتسعين جنيهاً سوداني، واسم السجين (خالد ع ج) رقم ملف ت ج \ 18\ 2013. وأن السجين (سبت ع م) بقى بسجن الهدى لأكثر من عام لعجزه عن سداد مبلغ 945 جنيه (تسعمائة وخمس واربعين جنيها) ملف رقم ت104\ 2012. وأن السجين (قرنق ق د) بقى بالسجن لسنين مقابل مبلغ مماثل ملف رقم ت\27 \2006.
سجن الهدى بأمدرمان يَعُجُ بعدد غير قليل ممن تم حبسهم لحين السداد مقابل مبالغ لا تصل لألف جنيه ليس فيها (شيكات طائرة) بل في قضايا مدنية مثل (النفقة، الإيجار، الإتلاف، وخيانة الأمانة). ولا ادري عن واقع سجن النساء بامدرمان وسجون السودان الأخرى.
هل تشفع مثل هذه المصائب لتصبح نداءً من روؤساء تحرير الصحف لتَدَخُلْ مؤسسة الرئاسة وديوان الزكاة والمحسنين من الناس؟هل نطمع أن تتكرم صحافتنا بالتحقيق مما ذكرت، علماً بأن إدارة سجن الهدى والسلطة القضائية والشرطة أكثر سعادةوتعاوناً عندما يأتيهم من يريد فك اسر سجناء المال.ليت شبابنا (بالتويتر والفيسك بوك) يولون هذه الأمرإهتماهم. فالحرية كالعافية لا يعرفها إلا من فقدها.
بعد هذه المحن والإحنما زالت الملايين تنفق في المؤتمرات والمظاهرات السياسية التي لا تطحن إلا هواءً، ولا تنتج إلا غثاءً، ثم ترانا قد ختمنا عامنا السابق (٢٠١٣) بتسجيل لاعبي كرة القدم بالمريخ والهلال بلغت 88 مليار (بالقديم). ومن الواضح أنالنصيب الأعظم من تلك الأموال تتحمله خزينة الدولة وليس أموال رؤوساء هذين الناديين أو أعضاء مجليسهما. فبرغم أن ذاكرتنا مثقوبة، إلا إنها لن تسمح بتسربما ذكره من قبلنائب رئيس نادي الهلال الحالي للأعلام بأن راتبه ومخصصاته الشهرية لا تزيد عن تسعة مليون جنيه بالقديم. إذن منأين أتوا بتلك المليارات التي ذهبت لجيوب الوسطاء واللاعبين، وتسوية قضايا نادي الهلال أمام الفيفا؟
لهذا يبقى سؤالي الثاني قائماًيتردد صداه في دواخلي: " هل نحنُ وهؤلاء نعيش وننتمي لكوكب أرضي واحد؟".
أعرفت لماذا أحدثك بدهشة، حسبتها زهواً أخي ابا فارس؟